"تمبكتو" الإسلام و "تمبكتو" الغرب / احمد سالم ولد عابدين

هناك "تمبكتو" الإسلامية التي تحوي اكبر مخزون من المخطوطات الإسلامية المهملة في العالم و التي ما تزال لحد الآن تأكل منها عاديات الزمن ، هذه المدينة التي همشت من طرف الدولة المالية و نهبت آلاف المخطوطات منها من قبل فرنسا و بريطانيا و ألمانيا و ما زالت تنهب إلى اليوم ..

 هذه المدينة الإسلامية لن يتعرض الفيلم لتاريخها المجيد و ما حل بها من تدمير من قبل الاستعمار الفرنسي . هذه المدينة التي عرفت في زمانها أنها مدينة إسلامية بامتياز يتم فيها تطبيق شرع الله و دينه و يبتعد أهلها عن الفحش و الدعر و العصيان و لهذا استحقت لقب عاصمة الثقافة في الغرب الإسلامي ..
هناك بالمقابل "تمبكتو" المغايرة التي يريد الفيلم أن يصورها للفرنسيين و للغرب بصورة عامة، تمبكتو التي كانت عامرة بالملاهي و ملذات الحياة المخالفة في اغلبها للشريعة الإسلامية ، هذه المدينة التي كانت تعيش طراز الثقافة الغربية إلى اللحظة التي جاء "الإرهابيون الإسلاميون" و دمروها و خوّفوا أهلها .. من هنا ربما أراد المخرج يكون رد الفعل و التدخل الفرنسي مشروعا بل و مطلوبا بإلحاح بوصفه سعي لرد المدينة إلى حاضنتها الثقافية الغربية ...
إن هذا النوع من الأعمال السينمائية الذي يصف الظواهر مجتزأة و يغفل أسبابها و ينسى ( أو يتناسى ) أن هذه الظواهر( الإرهاب )  ما هي إلا آثار لتلك الأسباب ( الاستعمار ) ، أقول إن هذا النوع من الأعمال السينمائية أكثر ضررا على بلداننا و ثقافتنا الإسلامية من النفع الذي يحقق لها ، فهذه الدراما حتى و إن اعتلت أرقى مصاف دور العرض و المهرجانات و حازت جميع سَعَفِ و أغصان الذهب لا تخدم في النهاية إلا البلدان الغريبة المسحية التي تحتفي بها و تتلقفها باعتبارها ذراعها الأيسر التي تنافح عن إيديولوجيات الغرب بدون سعر مقابل .. ربما كانت هذه الأذرع في النهاية اقرب إلى الذراع الخشبية الملتفة بالطين في حوار محمود درويش و البطل البابلي "انكيدو" في جدارية درويش التي تحاول ، على خلاف جدران تمبكتو ، أن تحول دون اخْذِ المكيدة مكانها في سياق الواقعي ...
الفيلم يتحدث عن إرهاب القاعدة و لكنه يغفل الظروف التي أدت إلى نشوء هذه القاعدة ( ظلم أوربا و أمريكا للعالم الإسلامي ) ...
تذهب قاعدة و تأتي قاعدة ، تذهب القاعدة الإسلامية لتحل محلها القاعدة ( القواعد ) الفرنسية ، يذكرنا هذا بالقصيدة الرمزية الجميلة التي ألفها نزار قباني بعنوان " الديك " عندما يقول " في حارتني يذهب ديك ، يأتي ديك ، و الطغيان هو الطغيان .. في حارتنا يذهب ديك يأتي ديك و المسحوق هو الإنسان " ، و بالفعل بإمكاننا عقد الكثير من الصلات ذات الإيحاء الغير بريء بين القصيدة و بين الفيلم عندما نتذكر إن العنوان الفرعي للفيلم هو : غضب ( شجن ) الطيور ..
على الرغم من إنني لم أكن من المدعوين لمشاهدة العرض الأول من الفيلم الموريتاني الأحدث ( تمبكتو ) و لم أتلقى دعوة لحضور أي من العروض الأخرى له إلى حد الآن ، إلا أنني كنت متابعا لكواليسه و أخباره من أول يوم تم التحدث فيه عن تصوير الفيلم إلى تقديمه في مهرجان كان إلى الخيبات التي مُني بها ، إلى الجوائز التي نالها ، إلى قدوم الرجل ـ الكاتب ـ المُخرج إلى موريتانيا إلى هذه اللحظة التي يعرض الفيلم فيها أول عرض له داخل الوطن ...
قد يرد البعض على ما سأتحدث عنه بخصوص الفيلم على كون ذلك إنما هو ردة فعل مني ضد عدم الدعوة ، فليكن له ظنه ، لا أبالي بذلك ما دمت أقول وجهة نظر نقدية بامتياز، لكن لن أحاول فيها أن اجلس على بعد خطوات من ذاتي بل سأكون  مدافعا عن ديني و ثقافتي و مبينا للضرر الحاصل من الفيلم  ...
1ـ منذ أن تربعت هوليوود على العرش السينمائي تاركة مسافة إبداعية كبيرة بينها مع اقرب الملاحقين ( السينما الايطالية ، الهندية ، الأوربية الأخرى ...الخ ) حاولت السينما في العالم الأخر الثالث و الرابع اللحاق بالركب لكن فقط من خلال اختيار مواضيع مغازلة للايديولوجية التي تتبناها هوليوود ، و طبعا فمن غير المعقول أن تطلب مني تقديم المساعدة و منح المال و أنت تظهر لي عداوة ، يقول المثل العربي ( طالما تأكل لقمتي فلتسمع كلمتي ) .
2ـ من النادر جدا أن تتبنى هوليوود سياسة مناهضة لسياسة الولايات المتحدة العسكرية و الاقتصادية و الأمنية و الثقافية ـ الإيديولوجية .. و لقد اتجهت السينما الغربية كذلك ـ بدافع من حس عميق بالوطنية ـ إلى متابعة سياسات تلك الدول التي تحتضنها ... و في محاولة من العالم الثالث ( و خصوصا الدول الإسلامية لترضية أمريكا و الغرب كان عليه أن يتبنى قيما إيديولوجية مشايعة للغرب من اجل أن تحصل أعماله السينمائية التي يتقدم بها لهم للحصول على جائزة أو ( بقشيش ) أو حتى مجاملة ترحب بالعمل ( الموت ) القادم من الشرق ..
3 ـ لن تلاحظ أي انتقاد للاستعمار الغربي للعالم الإسلامي في هذه الأفلام ، بل ستلاحظ بدلا من ذلك تهجما و انتقادا لاذعا للكثير من الثوابت الإسلامية و الكثير من الأمور التي يكاد يجمع عليها علماء الأمة، كل ذلك التهجم بدعوى تبني "الإسلام المعتدل" كما يرى هؤلاء ، و لعلنا نلاحظ مباشرة من كلام احدهم عن الإسلام انه لا يكاد يعرف من الإسلام إلا عموميات ربما علم غير المسلمين أكثر منها ، ناقِشْ احدهم عن فهمه للإسلام المعتدل و سترى كيف يتخبط ، و لقد ناقشت بدوري الكثير من هؤلاء سواء هنا أم خارج البلاد ...
4 ـ يحاول صناع المشايعة السينمائية للغرب هؤلاء أن يلعبوا على وتر إثارة أكثر الغرائز البشرية بدائية، المشاهد الجنسية ، مشاهد العنف ، الإثارة ، و يتفنن الكثير منهم في التركيز على قوة الصورة و مكانتها في اغتصاب عين القارء و إغفال دور العقل في التحليل حيث تذهب طاقة المشاهدة في التركيز البصري، هذا الأمر يُسَهِّل كثيرا تمريرَ رسائل إيديولوجية من طرف صناع الفيلم إلى لا وعي المشاهد .. لا تلعب نظرية " عدم غباء المشاهد " أي دور يذكر في التصدي للرسالة الموجهة له من طرف التلفزيون ـ السينما .. كثيرا ما يعوِّل المخرج على إغراء الصورة و اغتصابها لعين القارء لتنسيه التفكر في المحتوى . .
أهم الأبحاث التي تناولت الدعاية و الحرب النفسية ـ الثقافية و حتى صناعة الإعلانات و التسويق أكدت على أن قوة نفاذ الرسائل التلفزيونية اكبر من أي وسيلة أخرى إلى استثارة لاشعور المتلقين ...
5 ـ بخصوص فيلم تمبكتو  :
سأتحدث عما اعرفه عن الفيلم من خلال المقاطع التي بثت منه في أوقات سابقة و من خلال قراءتي عنه في الصحف و المواقع ( بعضها وطني و بعضها أجنبي ) ،و سأتنبأ بما سيكون عليه الفيلم في الواقع ريثما أشاهده ، و إذا جاء الفيلم مطابقا للتنبؤات فسيكون ذلك مقصدي، و إذا جاء عكس ذلك ستكون تنبؤاتي سيئة لا تليق بالمقام ..
اعتقد أن ما عرفته عن الفيلم إلى حد الآن يخولني الحديث عن الفيلم يمكنني من الكلام و كأنني شاهدته كاملا...
أ ـ اختار الفيلم على غرار أفلام العالم الثالث التي تريد نجاحا في الغرب التركيز على ظاهرة الإرهاب في المجتمعات الإسلامية الفقيرة ، و قد اغفل بطبيعة الحال مرد هذا الفقر المدقع الذي يتسبب في اغلب المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي بما في ذلك مشكلة الإرهاب ، و قد أفادنا الفيلسوف المغربي المرحوم محمد عابد الجابري ، بأن الإرهاب الناتج عن التزمت و التنطع الديني عادة يكون تواجده في أطراف المجتمعات ، أما حين يظهر هذا الإرهاب في المراكز فيجب الالتفات إلى أسباب اخرى اهمها السبب الاقتصادي..
ب ـ خلط الفيلم بين بعض الأحكام المتعسفة التي يقوم بها الإرهابيون و بين الشريعة الإسلامية ، هكذا نرى الفيلم ينتقد قيام الإرهابيين بتحريم الموسيقى على انه عمل إرهابي غير إسلامي، و نلاحظ أن صناع الفيلم قد اغفلوا ( أرجو أن لا يكون عن عمد ) أن غالبية علماء المسلمين على مر التاريخ الإسلامي قد تحدثوا بتحريم الموسيقى كما صرح بذلك التحريم بعض الأحاديث النبوية ( على الأقل في أنواع معينة من الموسيقى ) .. مشهد جلد المغنية يوحي لنا بأن تحريم الموسيقى أمر منافي للإسلام و عمل ٌ إرهابي بامتياز..
ج ـ اغفل الفيلم الأعمال الغير إسلامية المنتشرة في الشمال المالي و الذي أدى بعضها إلى ردة فعل متشددة و إرهابية من أناس كانوا يغيرون في البداية لدينهم غير أن التنطع وصل بهم حدودا أخرى ، شاهدنا من خلال قنوات التلفزيون أن المدن التي احتلها الإرهابيون كانت مليئة بالأعمال الغير إسلامية انتشار محلات بيع الخمور و دور عرض الأفلام الخليعة ...الخ و قد اغفل الفيلم ذلك في المقابل..
د ـ  لم يتحدث الفيلم عن الظلم الذي تعرض له اغلب الذين وصفهم بالمنتمين إلى "الإرهاب" على أيدي القوميات الأخرى و كذلك تهميش الدولة لهم طوال عقود كثيرة ابتداء من الستينات إلى الآن مما جعل اغلبهم ينتمي للجماعات "الإرهابية" كنوع من محاولة استرداد الحقوق أو قلب موازين القوة ...
ه ـ لن يتحدث الفيلم عن التدخل الفرنسي في الشمال المالي اللهم إلا بوصفه تحريرا لهذه البلاد ، بالطبع نسينا أن الاستعمار الفرنسي مازال قابعا هناك منذ عهد الاستعمار الفرنسي لإفريقيا قبل قرن من الزمن ...
و ـ إن مفهوم "السن القانوني" ( المحدد بثماني عشرة سنة ) مفهوم غربي بامتياز ... و المخرج عندما ينتقد الإرهابيين على تزويجهم للقاصرات يحدث بذلك خلبطة كبيرة و فهما سطحيا للشريعة الاسلامية .. إن تحريم زواج القاصرات ( من هن دون 17 ـ 18 ) لا يعنينا نحن المسلمين في شيئ ما دام لا يلبي حاجاتنا و لا ينطلق من ثقافتنا . و هذا المفهوم الحديث في أوروبا ( لم يمضي عليه اكثر من ثمانين او تسعين سنة على ابعد الاحتمالات ) .. ليس مبدأ كونيا يحكم الثقافات البشرية على اختلافها حتى و لو أراد الغرب لايديولوجيته احتلال السمة الكونية ..
إن الإسلام لا يتعامل مع القصور العمري بقدر ما يتعامل مع القصور العقلي و عدم النضج النفساني ، و في ديننا الحنيف فالمخاطب هو العقل قبل الجسم ، و لنا في تاريخ التشريع الإسلامي و في سيرة النبي محمد صل الله عليه و سلم خير مثال نحتذيه في هذا الشأن .. ثم انه لمن الغريب حقا أن يكون التشديد كبيرا جدا من طرف هؤلاء على زواج القاصرات فيما لا نراهم  يقدمون في المقابل سوى تشجيع هؤلاء القاصرات على ارتداء "الميني جيب" و "الجي سترينغ" و دخول بيوت الدعارة و تعاطي و إشاعة حبوب منع الحمل و الانحلال الاخلاقي باسم الحداثة و الرقي و العصرنة .. أليس في الأمر كيلٌ بعدة مكاييلَ تطفيفيةٍ ؟؟؟!!!
إن الفيلم بتقديمه لزواج القاصرات على انه عمل إرهابي يقوم بانتقاد للإسلام كمنهج للحياة الاجتماعية ...
ك ـ يقترح الفيلم أن إمام جامع تمبكتو هو الذي يحاور الإرهابيين ، هذا الدور المراد إيعازه للأئمة يتمثل في دعوة كل الأئمة إلى تبني وجه الخنوع الذاتي و محاربة كل أعمال الجهاد التي يريد الفيلم أن يصنفها في إطار الإرهاب ، هناك فرق كبير بين الجهاد و الإرهاب غير أن ذلك لا ينفي وجوب الجهاد بالحرب علينا نحن المسلمين حتى و لو قام الفكر الإرهابي بتشويه سمعة هذا الجهاد ..
ل ـ إن مسألة عمل المرأة و إن اثبت فقه الواقع اليوم على أهميتها في بعض الحالات و المجالات إلا انه لا ينبغي الخلط بين ذلك و بين الأدوار التاريخية و الاجتماعية التي للمرأة و على رأسها دور العمل داخل البيت و تربية الأطفال ... إن الإسلام يشدد كثيرا على ضرورة ملازمة المرأة لبيتها في اغلب الأحيان ( و اكبر أنواع الأجر تجدها فقط في بيتها ) و لا داعي لخروجها للعمل ما دامت تجد من يكفيها ذلك... هل نسي المخرج ( أم جَهِلَ ) أن دولة ألمانيا ( اكبر اقتصاد أوروبي و ثالث اكبر اقتصاد عالمي ) قامت في الآونة الأخيرة بمكافأة ( راتب شهري ) كل امرأة تترك عملها و تجلس في البيت لتربية أبنائها
إن من الأخطاء الفاتحة التي وقع المخرج كغيره من صناع الأفلام المسلوبين ثقافيا هي انه جعل الدعوة إلى ملازمة المرأة لبيتها و احتشامها عملا إرهابيا و الحقيقة انه من صلب الدعوة الدينية الإسلامية ( و قرن في بيوتكن ) ...
و كمصداق لما تقدم نجد إمام الجامع يسأل الإرهابيين : من أرسلكم لتطبيق هذه القوانين البعيدة عن الإسلام ؟؟ نلاحظ ربط المخرج هنا بين زواج القاصرات و عمل المرأة و الموسيقى و بين البعد عن الإسلام و الحقيقة أن الإسلام ، بالحجج الواضحة،  قد دعا إلى احتشام المرأة و حرم الكثير من أنواع الموسيقى و لم يمنع زواج الفتيات على أساس العمر و إنما منعه لأسباب أخرى أكثر جوهرية

22. سبتمبر 2014 - 13:57

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا