لوحات تمبكتو .. الرسم بالكاميرا / د. الشيخ ولد سيدي عبد الله

السينما تشبه الشعر في كثير من تجلياتها ورموزها .. تشبهه في تمردها وتطويعها للغة .. والفيلم يشبه القصيدة .. هو رؤية للحياة أو المشاعر والقصيدة تجسيد لتأمل وفكرة .. وإذا كانت الألفاظ هي اللغة التي تتلبس الشاعر فإن الكاميرا وحركتها والصورة التي تولد من كل ذلك هي لغة المخرج

 وصانع الفرجة ..
هذه المقاربة تجعل علاقة المتلقي بالفيلم هي نفسها علاقته بالقصيدة فلم يعد المعنى (في بطن المخرج) بل أصبحت الصورة أيقونة لخلق عدة تفاسير، فلذة النص (الفيلم نص) تكمن في كون هذا الأخير صالح لإنتاج عشرات التأويلات والفهوم .
هذا المساء حضرت العرض الأول لفيلم (تمبكتو – غضب الطيور) للمخرج العالمي عبد الرحمن سيساغو، وكان بحق كشفا وتجسيدا لفترة من حكم التطرف والتشدد..
لم يكن تمبكتو فيلما روائيا يقدم رواية متجانسة لبطل معين، بل كان مجموعة لوحات متكاملة ومتجانسة استطاع من خلالها سيساغو أن يرصد واقع هذه المدينة العالمة .. هذه الرقعة التي نبعت من صحاريها ووديانها شلالات الثقافة والعلم والشريعة .. استطاع سيساغو أن يرصد حياتها في زمن الصقيع الفكري واليباب العقلي...
كانت مجموعة لوحات معبرة بحق ..
لقد افرغ سيساغو عبقريته في هذه الفسيفساء الفنية (تمبكتو) :
الغزال :
لقد استثمر سيساغو الرمزية الشعرية والعاطفية للغزال في المخيال العربي والإسلامي وكانت أول لوحة في الفيلم تلك السيارة رباعية الدفع وهي تطارد ذلك الغزال البريء والذي كان ينعم هادئا في صحراء مسالمة .. هاهو يعدو مذعورا على وقع نيران البنادق الغبية ..
هكذا يرمز الغزال إلى عذرية الصحراء أنثويتها الهادئة ... وهاهي الحركات المتطرفة تفض بكارة الصحراء.
التماثيل :
وعلى وقع تلك البنادق لم يقطع سيساغو النوتة (صوت الرصاص) وإنما تحولت تلك الفوهات في حركة رشيقة إلى مجموعة تماثيل خشبية لفنانين أبرياء . كانت تتساقط واحدا تلو الآخر .. في تعبير فني لافت عن تدمير الثقافة ووأد التفكير ..
كرة القدم – كرة الوهم :
عندما قرر المتشددون تحريم الموسيقى والسجائر ولعب كرة القدم .. كان لزاما على سيساغو أن يتحدى رمزية التحريم ... فخلق كرة وهمية .. كان اللاعبون يلعبون كرة غير مرئية.. غير موجودة .. كان هناك لاعبون وحكم ومرمى ... والأجمل من كل ذلك تلك العبثية التي رمز لها الحمار وهو يقطع حماس اللاعبين لحظة مروره من الملعب تماما كما يمر بين الأزقة معبرا عن الجمود .
قل للمليحة :
كان سيساغو يحاول تفنيد كل القرارات التي فرضها المتشددون على سكان تمبكتو، ولكنه استغنى عن وجود بطل واع بحتمية التفنيد بتدخلات الصدفة، وهكذا كان صوت الراحلة ديمي وهي تشدو بـ (قل للمليحة) معبرا عن جدلية تحريم الموسيقى وشرعيتها ... الجنود يتتبعون الموسيقى المنبعثة من احد المنازل وفجأة يصلون باب المنزل ويتزامن وصولهم مع قول ديمي :
ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحق دين محمد ...
وهنا يرد الجنود على قائدهم : نعم وجدنا مصدر الموسيقى لكننا اعتقد أنها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .. هكذا يسأل سيساغو ضمنيا .. وهل المديح حرام .. بغض النظر عن حقيقة أن الأبيات في المديح وهي طبعا ليست كذلك ..
أسرة ساتيما :
جعل سيساغو من هذه الأسرة رمزا للتشبث بالحياة ومقاومة الموت بالحب .. أسرة من ثلاثة أشخاص وأحيانا أربعة إذا حضر الطفل الراعي .. كانت الجلسة العائلية الأولى لهذه الأسرة تنبئ عن بساطة الحياة وعن سطوة الحب .. ابتسامات وضحكات وعاطفة متقدة ...
لكن اقتباسا من عصر الجاهلية الأولى وظفه سيساغو ليؤكد أن الجهل هو العدو الأول للحياة .. حين يقتل آمادو بقرة زوج ساتيما المدعوة (جي بي اس) وللاسم دلالته حيث المكان والأرض والتشبث بالمحيط .. حين يقتلها تماما كما حدث مع البسوس.. تتحول حياة هذه العائلة إلى قلق .. ساتيما التي عشقها احد قادة (الجهاد) المدخن عبد الله الذي يكتم تدخينه عن قادته .. سيعمل هذا المجاهد على إبعاد زوج ساتيما عن طريقه ..
وبعد محاكمة ماروثونية دغدغ فيها سيساغو مشاعرنا وتلاعب بعواطفنا واختبر مكامن دموعنا ونحن نتماهى مع زوج ساتيما حين يتحدث عن الأبوة وعن الأبناء وعن ابنته الوحيدة ويسأل الزعيم (سالم دندو) هل لديه أبناء .. بعد كل ذلك يحكم على الرجل بالإعدام قصاصا .. وفي اليوم الموعود تصل ساتيما ويلمحها زوجها المحب وهي تشق الصفوف دونما مراعاة لانكشاف شعرها الغجري الذي تعبث به الرياح .. يلمحها فينطلق باتجاهها فاتحا أحضانه لكن الرصاص يعاجله ويعاجلها ويسقطا معا مضرجين بدمائهما ...
نعم كانت ساتيما قد طلبت من زوجها أن لا يقتل مامادو .. وان يحاوره من دون سلاح .. وكان جواب زوجها :
لقد عرفتني بسلاحي
فتجيبه هي : نعم حين عرفتك لم تكن عندك ابنة..
المجنونة :
لم يكن دور المجنونة ترفا دراميا وإنما كان تعبيرا عن الجنون البشري الذي يصيب البعض دون أن ينتبه لذلك .. هذه المجنونة كانت تذكر عدة تواريخ يمكن ربطها بأحداث كثيرة ..لكن ذروة عبقرية سيساغو هي حين وقفت المجنونة عند مدخل المدينة وهي تسد الطريق أمام المتشددين في سيارتهم رباعية الدفع .. أراد سيساغو أن يقول :
إن التشدد جنون .. إن التطرف جنون .. تماما كجنون السيدة .. والشيء منجذب لمثله...
حقا لقد وفق سيساغو في ربط هذه اللوحات وخلق فسيفساء من الصور والأحداث التي تجعل المشاهد يعيش حكم التشدد في تمبكتو ..
كان المكان رائعا ومعبرا .. كانت بنايات ولاتة ومسجد تمبكتو وأضاة مامادو كلها أشياء خدمت الفكرة وقدمت واقعية لافتة للأحداث ..
ولم ينس سيساغو أن يستثمر النص القرآني والسنة النبوية في أحداث كثيرة داخل الفيلم وخصوصا في الحوار الذي دار بين إمام المسجد الكبير والمتشددين حول الزواج بالإكراه الذي تعرضت له الفتاة صفية لمجرد أن متشددا يتكلم الانجليزية أصر على الزواج منها .
كما لم ينس أن يمنحنا بسمة في بحر الدموع ذاك، حين يقتنص لحظات من السخرية والمرح .. هي في حقيقتها لا تعبر إلا عن سذاجة الحياة وفطرية الإنسان .. حيث البدوي المالي الذي يحاول ترجمة الانجليزية وكذلك الحوار الذي دار بين بعض الشباب في بدايتهم مع التطرف حول كرة القدم وناديي برشلونة وريال مدريد ونجوم الفريقين وفرنسا والبرازيل ...
وينتهي الفيلم .. ونعود لغزالنا الشارد في الصحراء وهو لايزال يعدو .. إنه الاصرار على الحياة رغم العدمية التي يبشر بها المتطرفون ... إنها اللوحة نفسها التي رسمتها المغنية حين أصرت على الغناء وهي تبكي تحت سياط الجلاد الذي يمطُّ جسدها لمجرد أنها غنت.. هو يضرب وهي تغني وتبكي ... وهي اللوحة نفسها ايضا التي رسمتها ابنة ساتيما بعد ان تاهت في الصحراء بعد مقتل والديها والطفل الراعي الذي تاه هو الآخر في الاتجاه المعاكس .. هكذا الحياة ...
لقد كانت ساعة ونصف من المتعة والإثارة ولذة التأويل ... كان المتشددون يقررون ويطبقون وكان سيساغو يسأل ويجيب دون يفرض إجابته علينا كمشاهدين ...
أخيرا لا أريد أن انهي هذه الانطباعات دون أن أشيد بكل طاقم الفيلم وخصوصا ( ساتيما – زوجها – بنتهما – سالم دندو – مامادو) فهؤلاء الخمسة كانوا مندمجين في أدوارهم واستطاعوا أن يسيطروا علينا وعلى انتباهنا طيلة زمن اللوحات ...
شكرا سيساغو .. والى الأوسكار إن شاء الله .... أنت تستحق .. تمبكتو يستحق ...

23. سبتمبر 2014 - 12:42

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا