قبل أشهر قليلة وصف أحد أبرز وزراء ولد عبد العزيز بعض منتسبي حزب تواصل بالعلاقة ب"الإخوان المسلمون" و التأثر بفكرهم، حينها قامت الدنيا ولم تقعد، وتعرض هذا الوزير لوابل من نيران أقلام الإخوان، وألسنتهم، وسخرت منابرهم الإعلامية لاتهامه بكل فعل شنيع،
وأتذكر أن ذلك الوزير عبر عن استعداده للاعتذار لهؤلاء عن " اتهامه" لهم بالعلاقة بالإخوان، والمفارقة أن وسائل الإعلام التي تتحدث باسم هؤلاء في موريتانيا دأبت مؤخرا على نعتهم ب" إخوان موريتانيا" أحيانا، وأحيانا تصفهم ب " إسلاميي موريتانيا" ومن يتابع عناوين تلك المنابر يلحظ ذلك بجلاء، فأي اعتبارات تجعل هؤلاء يظهرون
" إخوانيتهم" تارة، ويفتخرون بها، بينما يهاجمون من اتهمهم بها تارة أخرى ؟!
وقبل بضعة أسابيع أقدمت الحكومة الموريتانية على إغلاق جمعية المستقبل، التي يقال إن الشيخ محمد الحسن ولد الددو يرأسها، فاتهم هؤلاء الحكومة ب"التطاول" على العلماء، وإهانتهم،وثارت زوبعة إعلامية في منابر هؤلاء لما تنتهي بعد، والمفارقة أن الشيخ الددو نفسه تعرض في نفس الفترة – تقريبا – للإيذاء الجسدي من طرف شاب معروف، ولم يتحرك هؤلاء بالقدر الكافي للدفاع عنه، وفضلوا ترك الحادثة تمر مرور الكرام، ربما لاعتبارات خاصة !
قبل أشهر قليلة أيضا شبه نائب رئيس حزب تواصل في مقابلة تلفزيونية العلماء الذين يساندون موقف النظام الموريتاني بأنهم " ديكة" وعلماء تواصل بأنهم " نسور" واستشهد بالبيت الشعري المعروف : "إذا صرصر البازي فلا ديك صارخ"..
واليوم يتعرض العلامة الإسلامي الموريتاني الشيخ عبد الله ين بيه لهجوم "مبتذل" من طرف تلك الأقلام، التي اعتادت أسلوب " المفاضلة" بين العلماء بناء على موقفهم السياسي، فإذا كان العالم مواليا للنظام في موريتانيا فهو " ديك" برأي هؤلاء، وإذا كان يؤيد الموقف السياسي لهم فهو " نسر".. وفي الخارج عندما كان الشيخ عبد الله بن بيه نائبا لرئيس اتحاد علماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي كان محل إشادة من هؤلاء، أو على الأقل ضمن " المسكوت عنه" واليوم – وبعد أن أعلن بن بيه طلاقه لاتحاد علماء المسلمين- واختط لنفسه منهجا فكريا مغايرا لمنهج الإخوان، وفكرهم بات يوصف بأنه " عالم البيت الأبيض" تصريحا، وتلميحا .
وذلك لمجرد أن الشيخ بن بيه نجح في تقديم نموذج إسلامي يحظى بقبول واسع في العالم الإسلامي، بل ويقيم الحجة على الغرب، ويقنعهم، وهو ما جعل باراك أوباما يستشهد بمقولة للشيخ بن بيه، والغريب في الهجمة التي يتعرض لها السيخ بن بيه حاليا أن أصحابها لا يركزون على فكر الرجل، ولا على مقولته التي استشهد بها أوباما، لعلمهم أن ذلك كله محل إجماع، وإنما يركزن على شخص الرجل، ومواقفه السياسية.
إن مبدأ " المفاضلة" بين العلماء مرفوض، خصوا إذا كانت المفاضلة من أشخاص لا يمتلكون الأهلية لذلك، ومعيارهم الحاسم هو الموقف السياسي، فمتى كانت السياسة حكما على الدين؟!، ولقد كتبت مقالا قبل أشهر انتقدت فيه محاولة النظام المساس بأي عالم، وانتقدت أيضا محاولة البعض وضع اليد على عالم بعينه، واحتكاره،وتسخيره،حتى دون أخذ رأيه في بعض الأحيان.
إن من يتابع منهج " إخوان موريتانيا" يلاحظ أنهم يعملون وفق خطة من ثلاثة أضلاع، كل يلعب فيها دوره المعروف، وحتى لو ظهر تعارض بين أضلاع المثلث، فإنها في نهاية المطاف تتكامل.
أولا: العنصر الديني... إن العنصر الديني هو الأكثر حساسية، وأهمية، وذلك لما يتمتع به الدين الإسلامي من قدسية، واحترام في قلوب جميع الموريتانيين، لذلك فإن " الفتوى" تصبح لها مفعول يفوق تأثيره تأثير عشرات السنين من النضال السياسي، ورغم أهمية العامل الديني في هذا المثلث إلا أن الجناح السياسي لإخوان موريتانيا ظل ينكر أحيانا العلاقة المباشرة برموزه الدينيين، وأحيانا يحتضنهم، وحينا آخر يتجاهلهم... في تباين غير مفهوم، وربما الاعتبارات السياسية هي التي تمليه، ومن يتابع نهج إخوان موريتانيا لا يعدم نماذج على هذه الحالات.
ثانيا: الجناح الإعلامي.. حيث يعتبر الإخوان أكثر الناس فهما لدور الإعلام، وأحرص الناس على استغلاله، لأن الدعاية، والخطابة، والمنابر هي أهم أسلحة هؤلاء للنفاذ لقلوب الناس، واليوم يمتلك إخوان موريتانيا امبراطورية إعلامية نشطة، تتضمن بعضا من أهم مواقع الإنترنت المحلية، وصحف، وقناة تلفزيونية، وقد حاول هؤلاء ترخيص إذاعة لكنهم لم يفلحوا بعد، وربما ما زالت الفكرة قائمة لبسط نفوذهم على الإعلام السمعي- البصري، والمقروء.
إن من يتابع الاستراتيجية الإعلامية لهؤلاء يلاحظ تداخل البعد الإعلامي الإخباري، بالاستخباراتي، والبعد الدعائي، وقليل من يلاحظ ذلك، لكنه أيضا لا يخفى على من كان له حس إعلامي، أو أمعن النظر، وتتميز تغطيات بعض وسائل إعلام هؤلاء للأحداث بأنهم دائما يبحثون في أي حدث عن شيء آخر، ليس فقط الخبر، أو المعلومة، إنهم يبحثون عن ما يسمونها " فضائح" وإذا لم يجدوها يختلقوها، لأن أي حدث يغطونه لا بد أن يتضمن فضائح، أو كواليس لا يمكن أن يصل إليها سواهم، لذلك فإن هناك نمطا من العناوين لا تشاهده إلا عند هؤلاء، من قبيل: " فضائح المؤتمر الصحفي ..كذا" وارتباك شديد في كذا، وكارثة وطنية تهز البلد، وجريمة بشعة في ....الخ وعندما تقرأ هذه العناوين تجد مواقف سياسية، أكثر من أي شيء آخر، كما أن الانتقائية في الأحداث سمة بارزة في منهج هذه الوسائل الإعلامية المحسوبة للإخوان.
ثالثا: الجناح السياسي... والمتمثل في حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) ورغم أن الحزب لا ينكر اتكاءه على فكر الإخوان، وتعلقه بنموذجهم، إلا أن قادته يؤكدون أنهم ينطلقون من الخصوصية الموريتانية، وإن كان تفاعلهم مع قضايا الإخوان في الخارج يفوق أحيانا اهتمامهم، وتفاعلهم مع القضايا، والأحداث الوطنية .
إن الجناح السياسي لإخوان موريتانيا يطبق منهج إخوان مصر المعروف ب "البراكماتية" أي أنهم يأخذون ما هو متاح، ويعملون بصبر لتحقيق الباقي، فما لا يدرك كله، لا يترك جله، فهم يشاركون في انتخابات البرلمان، والبلديات، ويقاطعون انتخابات الرئاسة، رغم أن الظروف هي نفسها، وهم يمارسون المعارضة بطرق مختلفة، ومبتكرة، تكرس هذه "البراكماتية" من معارضة ناصعة، إلى ناصحة، إلى ناطحة، رغم أن الجميع لم يشاهد قرونا للمعارضة الناطحة.
ويختلف إخوان موريتانيا عن الإخوان الأم في مصر في كون إخوان مصر – منذ مؤسسهم حسن البنا، وحتى مهدي عاكف، ومحمد بديع، ومحمد مرسي، والبلتاجي- كلهم ذاقوا ويلات المعاناة، من سجن، وتعذيب، وقتل، وصبروا، وتحملوا، بينما إخوان موريتانيا لا يبدون مستعدين لأي تضحية في سبيل مبادئهم، فهم يريدون الاستفادة من السلطة، ومن المعارضة في نفس الوقت، ويفضلون العمل من المكاتب المكيفة، وركوب رباعيات الدفع، والاستمتاع بمناظر موريتانيا الخلابة في سياحة في موسم الخريف، والاستمتاع بأموال الداخل، والخارج، وغير مستعدين حتى لاستنشاق مسيلات الدموع، رغم إعجابهم منقطع النظير بتضحيات إخوان مصر، في تكريس – بنظر البعض- لمبدأ : " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" صدق الله العظيم.
وإذا كانت هذه هي أضلاع مثلث الإخوان في موريتانيا، وآليات عملهم، فإن السؤال يبقى مطروحا... كيف، ومن أين يمول الإخوان كل هذه الأنشطة الضخمة؟؟؟
يرى العديد من المراقبين أن الجمعيات الخيرية تشكل العمود الفقري في الجانب المالي لإخوان موريتانيا، فضلا عن تبرعات محدودة من بعض رجال الأعمال المحليين، ويؤكد ذلك استماتة الإخوان في الدفاع عن "المستقبل" وهو ما يعكس حجم خسارة هؤلاء جراء إغلاق "المستقبل" رغم أن جمعيات أخرى كثيرة لا زالت نشطة، وتتبع بشكل مباشر، أو غير مباشر لإخوان موريتانيا، فمنها، وبها يبنون المساجد، والمستوصفات، ويوزعون الأضاحي، والكفالات، لكن معيار الانتماء لفكرهم يظل حاضرا في كثير من المستفيدين من هذه الخدمات.
واليوم لا يبدو إخوان موريتانيا في عجلة من أمرهم، فهم يعملون وفق مخطط مستمر، بنفس طويل، يأخذون ما أتيح لهم، في انتظار " التمكين" المنشود، ولسان حالهم يقول الآية الكريمة:" إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا" .