غياب الرئيس أمر طبيعي، بسبب كونه مجرد شخص يعمل في موقع رفيع في الدولة ، ولكنه ليس الدولة ..! أما مزاولة مؤسسات الدولة لمهامها ، فلايجب أن يرتبط بحضور الرئيس أو غيابه ..فالدولة الحديثة هي: مؤسسات مستقلة تعمل بانتظام وفق القانون وأنظمة تسييرها الداخلية ،
ولا يرتبط عمل الدولة بالأشخاص مهما كانت مواقعهم (وزراء ،رؤساء، مدراء) .لكن الأمر يصبح مُزعجا عندما تتعطل مشاريع الحكومة وتتوقف الأعمال ويرتبك القائمون علي تسيير المرافق الحيوية ويشعُر المواطن بغياب الدولة كلها وليس الرئيس فحسب ...!
إن ماشهدناه في مناسبتين شهيرتين من توقف تام لأجهزة الدولة ؛وبقاء القائمين علي تسيير الشأن العام مكتوفي الأيدي أمام المستجدات وتطور الأوضاع المحلية والدولية؛ وكأن كل شيء قد توقف . حتي الدولة لم تعد موجودة ! لم يعد يوجد من يمثلها أو يصدر القرارات أو يتحدث باسمها..!!كل ذلك يُحير العقل ودعوا للتأمل ..
كانت حادثة إطلاق الرصاص علي الرئيس قد أدت إلي غيابه لفترة طويلة شهدت خلالها البلاد تعطلا وارتباكا لم نر له مثيل ...وقد انتشرت الشائعات ..وأطلقت التأويلات ،وتحرك الخصوم ،وخرست ألسنة المتملقين ..وأطبق الصمت علي أركان الدولة وقادة جيشها ووزراؤها ... ثم ظهر الرئيس في مطار العاصمة بين جموع المصفقين والمصفقات ، ومن أمامه ومن خلفه: أجهزة الأمن والجيش والحكومة وكل رموز الدولة "الشامخة " ..فيل وقتها إن تلك الحادثة قد نبهتنا إلي أن الدولة الموريتانية (إلي حد ذلك الوقت ) مُختزلة في شخص رئيسها .وأن كل القادة والوزراء ليسوا سوي ديكور ومظهر خارجي لا علاقة له بالسلطة أو النفوذ ، وبعبارة أحدهم:( ليس الوزير الأول سوي "وكاف") ...
وبالفعل أعتقد الناس أن تلك الحادثة يجب أن يتعلم الجميع منها أشياء كثيرة أهمها:
- ضرورة أن تكون للوزير الأول صلاحيات حقيقية وهو ما بشَر به : (حوار مسعود وبيجل مع النظام )
- أن يتعامل الإعلام الرسمي مع حدث غياب الرئيس بشفافية ,وأن يُطلع الرأي العام علي الأسباب الحقيقية لتغيبه..
- أن يكون لدي حزب الرئيس وحاشيته من الشجاعة ما يجعلهم يقولون للناس الحقيقية عندما تكون: "مُرة" وأن يعترفوا أن رئيسهم مجرد شخص يخضع للعلاج ويتلقي الفحوصات الطبية وليس في الأمر غضاضة..
لكن الأمر نفسه يتكرر اليوم دون أن يستفيد أحد من الدرس الأول ..!
لا أريد أن أشككك في شيء ، ولا أن أتساءل عن أسباب غياب الرئيس ،لأن ذلك من الأمور الشخصية التي نتركها لمن تهمه أكثر منا ... ولكن ما يسترعي اهتمام المواطن الموريتاني هو: الشلل الذي يصيب الدولة كلما غاب الرئيس لسبب أو لآخر ،والأكثر تأثيرا علينا جميعا هو: أن تكون مصالحنا معطلة لمجرد غياب الرئيس ..فلا أحد يعرف (إلي اليوم ) متي سيكون افتتاح السنة الدراسية رسميا ؟ وما مصير المسابقات المُعلن عنها سابقا في إطار توظيف الشباب ؟ وزيادة الرواتب ووووو؟.....
إن الخجل والتردد و الاختفاء وغير ها من المواصفات التي تُصيب المسؤول الموريتاني (عندما يغيب الرئيس)تجعلنا ندرك حقيقة هذا المسؤول ،الذي يُؤمن إيمانا قويا بأنه يعمل لدي شخص الرئيس ولا علاقة له بشيء اسمه الدولة أو الشعب...
إن هذه العقلية المتخلفة هي المسؤولة عن تكريس ثقافة التملق والنفاق وشخصنة الحياة العامة ،وعدم بناء المؤسسات الوطنية علي أسس سليمة، وهي التي تجعلنا نبدأ مع كل رئيس جديد في إنشاء دولة جديدة مُرتبطة بشخصه هو، ومُنسجمة مع طموحه وإرادته ونزواته وأهوائه وتفاصيل حياته الشخصية .(من الصحة إلي المرض ) ...