يكتسب هذا الموضوع أهيمه كبيرة وخصوصية خاصة؟ فقد شغل حيزا كبيرا في تاريخ النظريات السياسية في الإسلام، قديما وحديثا. من بينها على سبيل المثال كتاب الماوردي الأحكام السلطانية. ومحمد بن الحسن المرادي الحضرمي الذي ألف كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة.
وفي العصر الحديث ألف مصطفي عبد الرزاق كتابه الإسلام و أصول الحكم الذي أثار الكثير من النقاش و الجدل. هذا بالإضافة إلى الفارابي في كتابه آراء المدينة الفاضلة مما يعني ان البحث السياسي كان حاضرا غير غائب في المعرفة الإسلامية. و إن بدا للبعض أنه من القضايا التي ظهرت مع الاحتكاك بالغرب و بالدولة المدنية.
و لعلنا لا نخرج عن الصواب إذا قلنا بأن عدم تحقيق هذا الموضوع، و عدم الوصول إلى رؤية واضحة عن هذه العلاقة، يعتبر أحد الأسباب فيما نشاهد اليوم من الصراعات و التوترات الدموية التي تجرى على أرض المسلمين. و إن نظرية تنظر بعين الاعتبار إلى الواقع كحقيقة قائمة، و إلى الدين كحقيقة ثابتة، من شانها أن تخفف من وطأة هذا الواقع وتذهب بمعالجة هذا الموضوع نحو آفاق واعدة.
نجد المواقف حول هذه العلاقة تتمحور بين اتجاهين رئيسيين نتناولهما على النحو التالي:
أولا اتجاه الفصل
و يقول هذا الاتجاه بضرورة الفصل بين الدين و الدولة، و أن هذا الفصل هو السر في تقدم الغرب عندما أعلن عن الطلاق و الانفصال بين العلم و الدين. فأدي ذلك إلى تطور العلوم و تحرر الفكر ليكشف آفاق المجهول، بعد أن كان مقيدا بالكنيسة فلا تسمح له بالخروج عن مواضعاتها و تقاليدها و أعرافها التي تفسر بها العالم و الحياة و كل شيئ؟
هذا الاتجاه ليس واحدا و لا متجانسا بل هو مختلف. وتتباين تفرعاته ما بين من هو لائكي لا يؤمن بإله و يرى أن الدين أفيون الشعوب، و بين من يؤمن بالدين إلا أنه يرى بأن حدوده لا تتجاوز مكانين، وهما: بالنسبة للإسلام المسجد و المكان الثاني هو بين الإنسان و نفسه ولا يتجاوز الدين عند هؤلاء هذين المكانين المسجد وضمير الإنسان و ما توسوس به نفسه. و يستند هذا الموقف على حجج كثيرة تاريخية و ثقافية و اقتصادية.
فأولا على مستوى الحجج التاريخية قولهم بأن الغرب لم يتطور إلا بالفصل بين الكنيسة و بين السلطة السياسية.
ثانيا ان الأوامر و النواهي الدينية قد تحد حريتنا التي كما يقول هذا الاتجاه مكون رئيس لماهيتنا الإنسانية، و التنازل عنها يعني التنازل عن إنسايتنا.
ثالثا أن الأوامر و النواهي الدينية ربما تقف أمام التطور الاقتصادي و التنمية. ذلك أن الدين يمنع المرأة من أن تمارس حريتها المطلقة في العمل مثلا. و بعض الأوامر الدينية تقلل من المردودية الاقتصادية كالصوم مثلا إلى أشياء أخرى من هذا القبيل.
ثانيا اتجاه الربط و الوصل
أما الاتجاه الثاني فهو الذي يرى بأن الدين لا يتعارض مع السياسة. مرددا أصحابه في هذا الصدد المقولة القائلة بأن السياسة لم تكن إلا دينا و الدين لم يكن إلا سياسة. و يعتمدون في ذلك بدورهم على التاريخ و الواقع و الرد على الأقوال السابقة.
فمن الناحية التاريخية فإن الدين كان دائما حاضرا في السياسة. و لعل التاريخ الإنساني حركه الدين أكثر مما حركته الظواهر الاقتصادية و الثقافية الأخرى. و لو كان الدين خطابا موجها إلى المرإ مع نفسه لقال الرسول صلى الله عليه و سلم لمن أسلم معه من المؤمنين الأوائل: اعلموا أن هذا شيء لا يجهر به الإنسان لغيره، و لا يدعو إليه بل يردده في خاصية نفسه. و لو كان الأمر كذلك لما خرج الإسلام عن شعب أبي طالب في مكة أحرى أن يصل إلى المدينة أو يخرج عن الجزيرة العربية . بل إن المسيحية نفسها لم تنتشر في أوربا إلا بعد أن تمسح قسطنطين في القرن الثالث و حمل الوثنيين الرومان على الدين الجديد مما أدي إلى قيام الحروب بين المؤمنين و الكفار. و في اليهودية أيضا لا نعدم أدلة شاهدة على أن الدين لم يكن منعزلا عن السياسة و اهتمام السلطة التي كانت في أغلب الأحيان سلطة تستمد مشروعيتها من الدين متمثلا في الكهنة و الحاخمات.
أما اعتمادهم على الواقع فنجد أن الظاهرة الدينية رغم تعرضها للهزات العنيفة بقيت صامدة. فرغم موجة الشك التي أثارها الفلاسفة في القرن الثامن عشر و تزعمها دافيد هيوم و نيتشيه و داروين وماركس، ومحاولة النظرية الشيوعية التي حازت على الحكم فيما يسمي بالاتحاد السوفيتي القضاء على كل مظاهر التدين، إلا أن تلك الجهود باءت بالفشل و بقي الدين وذهبت تلك الدعوات، بل على العكس من ذلك نجد أن الدين لا يزال يمثل الواجهة السياسة لكثير من الدول التي تقود النزعة العلمانية و تؤكد على الفصل بين الدين و الدولة فالأحزاب المسيحية ما زالت تنشط في أوربا من ذلك مثلا حزب الشعب الأوروبي ذو التوجه الديمقراطي المسيحي، أكبر مجموعة برلمانية في البرلمان الأوروبي منذ عام 1999 م و حزب الشاس اليهودي في إسرائيل و الحزب الحاكم في الهند باهارتيا جاناتيا ذو الخلفية القومية الهندوسية و الأمثلة كثيرة.
أما الرد على اعتراضات الاتجاه الأول فيرى القائلون بالتماهي بين الدين و الدولة أن الإسلام قد أعطي للمرأة حقوقها كحق العمل و العيش الكريم و ما إلى ذلك. أما أن بعض التقاليد الإسلامية يضر بالناحية الاقتصادية كقولهم بأن الصوم يقلل مردودية العامل فهو ليس صحيحا بل هو يقويها و يضاعفها لأن التمرن على العمل في ظروف غير مواتية كالعطش و الجوع يمكن الإنسان الذي تعود عليها على مضاعفة الجهد في ظروف مثالية. وهكذا فإن الصوم في شهر واحد يعوضه العمل النشط خلال 11 شهرا فمن الأفضل خسارة شهر واحد مقابل نشاط في 11 شهرا، فذلك أفضل من العمل 12 شهرا لكن بروتين و كسل. أما قولهم مثلا بأن الأضاحي في العيد تقلل من الثروة الحيوانية فما فائدة هذه الثروة إذا لم تمكن من انتفاع الإنسان بها. وكذلك هي أيضا ترشد الاستهلاك في اللحوم أي أن المسلم يشعر في الأيام العادية أنه لا داعي للذبح ما دامت أمامه فرصة يذبح فيها كيف شاء.
إذا كانت هذه أدلة كلا من القائلين بالاتصال أو الانفصال بين الدين و السياسة فما هو الموقف الأحسن؟
رابعا من أجل مقاربة تصالحية وتنازل متبادل
للإجابة على هذا السؤال نرى أنه لا بد من تحرير موضوع النزاع. ذلك أن هناك مظاهر كثيرة من الصراع مع السياسة باسم الدين، و ليست هي من الدين. فنظن بوجود صراع في لا صراع. ذلك أن السياسة عندما تكون مصالح و محاسن للمجتمع، لا يمكن أن تتعارض مع الدين الذي هو أيضا مصالح و منافع للمسلمين.
إن الخطأ الذي أدي إلى الانفصام المؤلم بين الدين و السياسة ينجم في بعض صوره في عدم تحرير مفهوم الدين، أي القدر و الحيز الضيق الذي يمثل موضوع النزاع، و مفهوم السياسة أيضا. فما هو الدين و ما هي السياسة أيضا؟
من الملاحظ أن الاختلاف بين السلطة السياسية و بين الذين يحملون لواء الدين تضيق مساحته ليشمل فقط موضوعات مثل الحدود و الجهاد ومسائل قليلة جدا، أما الأغلبية الساحقة من الشريعة و خصوصا في مجال العبادات فلم يقم خلاف فيها بين المسلمين ساسة كانوا أومتفقهين. بل نجد بالعكس من ذلك أن السلطة السياسية في كل عصر و مصر لم تمنع من إقامة شعيرة دينية، بل هي فوق ذلك تعمل على بناء المساجد و تأكيد القيم الإسلامية و لا تبخل السلطة السياسية أن تؤكد أمام شعوبها أنها تستمد شرعيتها من ما تقوم به من أعمال دينية كما تحرص على حضور الشعائر الدينية كالحج و الحضور في صلاة العيدين إلى ما هنالك.
إذن إشكالية العلاقة بين الفلسفة و الدين لا تتناول الدين ككل، و لا تتناول السياسة ككل، بل تتناول مواضيع قليلة من هذا وذاك .ذلك ان الأخذ بأسلوب الديمقراطية و آلياتها في التصويت و الاختيار و التمثيل لا يمانع فيها أغلب المسلمين. و إن كان يوجد من يمانع في جزئيات كتمثيل المرأة أو أن تستقل بالحكم على خلاف بين الدول الإسلامية في ذلك. كما أن السياسة المتبعة في الدول الإسلامية من إنشاء للبنية التحتية، و العمل على تحسين مستويات التعليم و الصحة و العيش الكريم و التي تمثل أهم شواغل السياسة، لا تتعارض مع الدين و الحيز الضيق الذي يشهد الانفصام هو عدم إقامة بعض الشعائر الدينية الملمح إليها آنفا ؟
إذن عندما نتساءل عن العلاقة بين السياسة و الدين فليس المقصود الدين ككل، و إنما موضوعات قليلة كما تبين أنفا. وليس المقصود السياسة ككل بل حيز ضيق فيها و منها. وهذا يعني أنه بافتراض التعارض بينهما فهو تعارض يمس جوانب معينة قد تمثل الأمور الجزئية من الدين لا مقاصده و معانيه الكلية، وهذا من شأنه كبداية أن يخفف من حدة الصراع بينهما.
الآن و قد وصلنا إلى هذه النقطة وهذا المستوى، فهل يمكن وجود أمور تقارب بين المستويين بالملاطفة و الرفق ؟ ألا يجب مراجعة الدين حتى يلتئم مع السياسة؟ و من جهة أخرى ألا تجب مراجعة السياسة لتتلاءم بدورها مع الدين؟
الجواب أن ذلك يعتبر مطلبا ضروريا. ذلك أن بقاءهما منعزلين و كأنهما خطين متوازيين لا يلتقيان هو أمر خطير و خطير جدا. يدفع فاتورته الأمة الإسلامية، فنبقى متصارعين في صراع قد لا تكون له أسس تصوغه. وقد يكون في مستوى من الشكلية و الهشاشة بحيث يمكن التغلب عليه بأدني إرادة صادقة؟ كما أنه قد يكون مخططا له من قبل أعدائنا ليعوق ذلك من تخلفنا وراء الركب الحضاري فنبقى نتصارع في أمور غير حقيقية.
إذن الدين منظورا إليه كحدود عقابية او جهاد في سبيل الله، هو ما يمثل العمود الفقري للدين بالنسبة لمن يدعون إلى تطبيقه. أو ما عبر عنه الطوفي بالأحكام الكلية الضرورية وهي قتل القاتل و المرتد و قطع السارق و حد القاذف و الشارب، فهل هذا هو مجموع الدين؟ و هل هذه الأوامر و النواهي تعتبر أشياء معلبة ذات جهوزية مطلقة للتنفيذ و الاستعمال ؟ أم أنها تبقي كما يقول الأصوليون ظنية، تراعي شروط و مقتضيات الواقع كما هو الشأن للأدلة الشرعية الأخرى، مثل الأوامر حول الصلاة و الزكاة فإنها بدورها تنتظر شروط الواقع و اكراهاته للتنفيذ، فإن الأمر بالصلاة لا يتناول الحائض و المجنون و المريض المغمى عليه و الصبي و النائم و المكره إلى آخره، كما أن الأمر بالزكاة لا يتناول الفقير و صاحب الدين .
ليس المقصود من هذا الكلام تعطيل الأحكام الشرعية فذلك أمر بعيدون عنه للحرص على البقاء داخل الدائرة الدينية لا خارجها، و إنما فقط كان ذلك للتأكيد على أن الأوامر الشرعية ليست معلبات جاهزة بل تحتاج إلى مراجعة الواقع و مقتضياته.
يمكن الاستدلال على ذلك بان الشريعة الإسلامية لم تأت وهدفها الأول قطع الرؤوس و الأيدي و الرجم و الجلد. و إنما جاء هدفها الأول أن تبث الإيمان بالله ورسوله و اليوم الآخر في نفوس الناس حتى إذا تقبلوا ذلك أخذوا إلى الأوامر الأخرى بالتدرج و الرفق.
ثانيا أن تلك العقوبات كانت قليلة في تاريخ الإسلام. فإن حوادث الرجم لا تتعدي في كل تاريخ الإسلام 14 حالة بمعدل حالة كل قرن، ومن العلماء المعاصرين من ينكر الرجم في الإسلام و أنه خاص بالديانة اليهودية .
ثالثا أن هذه الأوامر رغم يقينها و شرعيتها إلا أن الظروف قد لا تلاءم. و من ذلك مثلا امتناع عمر بن الحطاب عام الرمادة عن قطع أيدي السراق، لأنه نظر إلى حاجتهم لا إلى سرقتهم و انهم كانوا شبه مكرهين على السرقة.
رابعا أن هذه الأوامر تحتاج في التطبيق إلى نظر سديد يلاحظ الإمكانات و يستشرف المآلات. فالجهاد في سبيل الله هو فرض فرضه الله على المسلمين وفق شروط و ضوابط. و في هذا الصدد جاء في سيرة ابن هشام أن النبي صلى الله عليه و سلم طلب بإحصاء المسلمين وذلك لينظر في إمكانية قدرتهم على مواجهة المشركين. وجاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام؟ قال: فقلنا: يا رسول الله، أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ و السيرة النبوية فيها كثير من الدروس حول مراعاة الواقع و الموازنة بين الإمكانات و التحديات.
هذا فيما يتعلق بتكييف الشريعة مع الواقع. أما بالنسبة لما هو مطلوب من السياسة فهو أن تعمل على تقارب المسلمين و تحقيق أهدافهم إلى أقصى حد ممكن. إن الكثير من الصراعات التي تزخر بها ساحة المسلمين ليس سببها المطلق الدعاة الدينيون، بل عمل الساسة أيضا على خنق الحريات و ظلم الأفراد و التقصير في تحقيق أهداف التنمية مما كان له دور في ظهور المناوئين الذين اتخذوا الدين غطاء و مطية لمطالبهم الدنيوية.
كذلك فليس من العار و الشنار إذا قامت الدولة بتطبيق بعض الأحكام الشرعية، استجابة لخطاب التشريع، واستعطافا لدعاة تطبيق الشريعة. فإن الحدود الشرعية لا تتعارض مع العقل و المدنية و الحضارة. فإنه إذا كان السارق لا ينزجر و لا يتوقف شره المستطير و تماديه في الاعتداء إلا بقطع اليد فيجب قطعهأ. لأن هذه اليد لم تستغل فيما خلقت له وهو العمل بل استغلت لمعارضة ما خلقت له. فإن السارق يسرق ما عمله الإنسان بيده و عرق جبينه. فكان من المناسب قطع اليد التي تحاول أن لا تجعل لليد قيمة ولا لثمرتها العملية قيمة، و لا وزنا. و كذلك قتل القاتل فإن من بين الشعوب التي تدعي التقدم من تعتمد عليه. أما الرجم فإن هناك شكوكا شرعية عليه مما يوهن شرعيته ، اما جلد القاذف و الشارب و الزاني فإنه قد ورد فيها الحديث ادرؤا الحدود بالشبهات. وكان ذلك دأب الرسول صلى الله عليه و سلم. إذ جاءه من اعترف بالزنا فاخذ يلتفت عنه كأن لم يسمعه إلى المرة الرابعة كما سأل عن حالته النفسية. وأيضا عندما اتهم احد الصحابة في عهد عمر ابن الخطاب بالزنا قال للشاهد الرابع ان وجهك وجه الخير و لا أراك تعمل بعمل يؤدي بقتل أحد الصحابة و لم يزل يثنيه حتى انثني؟ و قال رايت هزا شديدا إلا أنني لم أر المرود في الكحلة. فأمر عمر بالمقابل بجلد أحد الحاضرين وهو ابا بردة لأن الأمر لا يتعلق به فأدبه على حضور المجلس و ان لم يكن أحد الشهود، و كل هذه الوقائع تدل على أن الإسلام جاء رحمة للناس و ليس للتشفي عليهم و تعذيبهم بل لتهذيبهم و سعادتهم .
إذن كما هو مطلوب من دعاة الدين تكييف الأحكام الشرعية، مع الواقع فإنه مطلوب من السياسة العمل على تقارب وجهات النظر و العمل على الإصلاح السياسي. و عندما يحصل المطلوب من الجميع، سيشعر الجميع بأن ما يقال بالخلاف بين الدين و السياسة إنما هو كذب بغير برهان، وخداع و بهتان، و ما أنزل الله به من سلطان.