أن تتحدث عن تحول سياسي؛ معناه أن تبحث عن مفاهيمه ودلالاته التاريخية، وفق رؤية المعنيين وممكنات عصرهم دون اسقاط ولا تجن، مع النظر إلى أسسه البنيوية التى على أساس منها يتحرك، وينبني الفعل السياسي الساذج والناضج فى الفضاء المدروس، غير أن النظر إلى هذه الدلالات
التى يرصد فى إطارها، لا ينبغي أن يكون نظرا فى فن القول فى السياسية ودلالاتها، بقدر ما يكون نظرا إلى أحوال الناس وحاجاتهم إلى ممارسة العمل السياسي فى ثوبه المناطقي، وفق المصالح والضرورة التى تنتج تلك الرؤية المنبثقة من تصورات معينة حول الحاكم والمحكوم انطلاقا من سياسية شرعية تؤسس للصالح العام والخاص سيرا على السنن الاسلامية فى المراد من الرعية والواجب اتجاهها من مثل وقيم تتمثل فى الحاكم العادل المقيم للشرائع و الحامي لحماها.
لتشكل البلاد الموريتانية فى مرحلة من تاريخها نمطا مشابها لجيرانها ومحيطها العام بحكم التدين والمعتقد، إلا أنها كانت حالة شاذة بحكم تراكماتها وتجاربها المختلفة جدا عن كل منطقة من هذه المناطق والعوالم، إذ من نافلة القول أن البلد لم توجد فيه سلطة جامعة مانعة، إلا ماكان من كيانات تنتفي فى لحظتها التاريخية النشاز لتشكل استثناء فى تاريخ أهل هذه البلاد، من هذا الوعي أو هذه اللحظة الفارغة تشكل الوعي السياسي فى عدم وجود حاكم متسلط يسوس أمور البلاد والعباد بأي منطق شاء أو رؤية أراد إلا ماكان من صورة وردية تركها إرث مرابطي يعد المرجعية الأخلاقية فى الحكم وفى فهم مراد الرعية المثالي من الحاكم.
هكذا كانت الصورة المرصودة فى البداية، أو أريد لها أن تكون رغم التنظير السياسي المتبوع بتباكي على المفقود والمروي فى ثوابت الأمة من تقاليد سلطوية راسخة شهد القاصي والداني بنضوجها وتداول سياقاتها فى بلدان مجاورة من باب بروز الأنا التاريخي فى المجتمعات العربية، بما يعطي من دلالات ذاتية أحرى اذا اختلط المفهوم بسياقات أخرى تتعلق بمعادلات المركز والأطراف وحاجة هذه الأخيرة إلى كل ما من شأنه أن يكون دافعا إلى مركزيتها وأهمية مجالها فى المجموع الثقافي العام.
ورغم أن المرحلة المرابطية كانت نتاجا محليا وتجربة تجلت فيها المعالم السلطوية بفضل منظريها وقادتها، بقيت خير شاهد على فترة معينة من النقاء والتفاني فى نظام الدولة والسير على منوال التجارب الاسلامية فى الحكم، غير أنها فى نفس الوقت شكلت قاعدة على أساس منها ألفت المدونات و أعيدت صياغة المجتمع وفق تراتبية معينة فى المراد من الحاكم فى فقه السياسية إذ صارت المثال المقتدى والمقصد المأمول، لكنها كما هو الواقع ظلت نسخة عصية على الاستنساخ أو إعادة التجربة فى الفترات اللاحقة، متناسين هنا أو تاركين تحليلا من قبيل التجارب الامامية ومحاولة تأسيها بالنمط الاسلامي وبعث الروح المرابطية بروح تجديدية تراعى الواقع والظرف المعاش حينها.
غير أن هذه التحولات السياسية التى حدثت فى المنطقة لم تكن حدثا فجائيا على مقاس الأحداث المؤثرة والصانعة للتاريخ، بقدر ما كانت نتاجا لأحوال الناس وتوجهاتهم الفكرية فى مرحلة من تاريخهم تشكل فيها الوعي القبلي السياسي على نمط معين وفق الصالح العام وفقه الضرورة لأهل هذا المنكب القصي، بما أن هم أهل بادية ونجعة كما هو حال مجمعات مماثلة فى الأحوال والنمط المعاش.
وإن كنا هنا لا نرمى إلى تحليل يفيد باظهار الاجتهادات المناطقية والمجالية والتى أظهرت بشكل كبير التفاوت فى الاحكام وانسيابيتها فى المجال، وفق قاعدة مبسطة جدا تبرر كثرتها بشكل جلي وتداولها على أساس من افتقاد الحاكم العام المقيم لأمور الدين والدنيا، ليظل كل جديد وكل طارئ يبني على هذه الظاهرة الاجتهادية المغرية جدا للدراسة فى أبحاث أكاديمية جادة والنظر إلى الفرد الموريتاني كبنية لا تتجزأ من اجل استكناه المعالم العامة لمشكل مازال يتبدى من حين إلى آخر مظهرا مشاكل عضوية فى التفاعل مع النظام وقرب الماضي القبلي وفق تفاعلات اجتماعية واقتصادية ليست بالماضي البعيد .
لذا كثرت المدونات الفقهية الباحثة فى الآداب السلطانية عن قصد سامي حينا وبحثا فى الدلالات التشريعية الكبرى الباحثة عن الإجماع بمنطقه التشريعي الذاب والحامي للمجموع فى إطاره المقاصدي، والحق أن إطلالة بسيطة على ذلك الموروث الثقافى لا يجد صاحبه كبير عناء فى رصد المقاصد المتخيلة من جهة ونقاء الاجتهادات وبعد نظرها غير انها اصطدمت بمعوقات وافراز الواقع المجالي فكانت تنظيرا عاما لواقع يتنافى واللحظة المعاشة، ولقد أدرك الشيخ محمد المامي تمام الإدراك هذا الأمر عندما بحث فى الآداب السلطانية ، كغيره من نخبة المجتمع ومثقفيه وعلمائه عندما وصف الحال بقوله:
ونحن فى بلاقع يباب نرعى مع الوحوش والضباب
وألف ثعلب يقودها أسد خير من ألف أسد إن لم تقد
فالوصف الدقيق للمشهد الظاهري يدل على أزمة فى مفهوم السلطة و عدم قابلية حركيته فى المجال المنتج لهذه الافتراضات العميقة الدلالات والمعاني، غير أن النظر إلى الواقع وقابلية أي فكرة للتحقق على الأرض مسألة ضرورية وحتمية جدا، من أجل القراءة السيسيولوجية التى نود الإشارة إليها هنا فالسلطة والتفاعل معها كان نتاجا ثقافيا معرفيا بالأساس نخبوي الإحساس حيث لم يتخطى هذا الحاجز، ولا نظر إلى التراكمات المنتَجة فى الآداب السلطانية وما يجب أن يكون عليه الحاكم تصرفا ونظرا مما قلل من اسهام التفاعلات السلطوية حول انتاج قاعدة صلبة تشكل فى حاضر البلد التفافا حول الماضي بمبدأ الايمان بالمقدسات و الشعور بالإحساس الوطني لتتشكل الدولة المعاصرة وفق مجموعة من المفاهيم تحترم الآخر وتراعى الصالح العام، حيث التمثلات المبتعدة عن مفاهيم من قبيل السيبة والفوضى و اللادولة، لتتنزل الدولة المعاصرة سواء أكانت منحة استعمارية أم نتيجة تجارب نضالية معروفة فى المشهد التحولاتي الطبيعي لا المشهد المتكيف مع الواقع، مهما كان بغض النظر عن الايمان والتفاعل مع أطره وهو ما يلحظ فى الفترات السابقة، لينعكس ضرورة على الفرد المعاصر محددا بشكل كبير موقفه وموقعه من الدولة والنظر إليها... يتواصل.