لم تكن نهاية الشهيد معمر القذافي التي تصادف ذكراها الثالثة اليوم طبيعية، كبدايته التي كانت استثناء في المنشأ، والتكوين، والأهداف والمنطلقات، فهو الإبن الوحيد لأسرة بدوية فقيرة تعيش في صحراء ليبيا القاحلة، على ما توفره ضروع شياه قليلة، تتعهدها أخواته اللواتي تكبرنه.
كان القدر يخبئ للرجل مجدا لا يناله إلا العظماء، فقد تفجرت الثورة في شرايين الفتى اليافع غداة إعلان انفصال سوريا عن مصر، وتفكيك الجمهورية العربية المتحدة.
واتقدت في نفسه شرارة الثورة بعد الهزائم العربية المتتالية 1956، 1967، فحزم أمره وقرر أن يغير المشهد العربي، ويكتب فصلا جديدا في التاريخ المعاصر، وكان له ما أراد.
حين أشرقت شمس الفاتح من الصحراء الليبية، كان أول قرار اتخذه القائد الشهيد هو إجلاء القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية من التراب الليبي، وبعد أقل من سنة كانت القواعد والمطارات الليبية قد فتحت أمام سلاح الجو المصري لتكون مطارات بديلة بعيدا عن ذراع العدو الصهيوني الطويلة.
وضع القذافي بلاده بأموالها وقدراتها وموقعها الاستيراتيجي تحت تصرف مصر الناصرية، وأثناء التخطيط لحرب اكتوبر 1973 تولت ليبيا القذافي شراء أسطول من طائرات الميراج الفرنسية ومئات الزوارق والسيارات المصفحة وقدمتها للجيش المصري انطلاقا من الواجب الديني والقومي اتجاه الشقيقة الكبرى مصر.
موازاة مع ذلك بدأ ليبيا استيراتيجية تسليح المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها، وحين تم اجتياح بيروت أرسلت عديد المقالين العرب والأجانب للقتال في لبنان، وقد شاركت في هذا القتال وحدة من الشباب الموريتاني ما يزال بعضهم حيا يرزق إلى اليوم.
أدرك الغرب أن الشاب الثوري الذي طرد القواعد الأجنبية من بلاده بدأ يستقطب اهتمام الرأي العام العربي والعالمي أيضا، عبر نشاطه الدؤوب لفضح الاستعمار والاستعداد لتمويل وتسليح وتدريب أي قوة ثورية في العالم تقارع الامبريالية، يستوي في ذلك الهنود الحمر، مع السود في جنوب أفريقيا، إلى الثورة الايرلندية، فالمقاومة الصحراوية لتحرير وادي الذهب من الاستعمار الاسباني، إلى العمل على استعادة مدينتي سبتة وامليلة وجزر الخالدات (الكناري حاليا)... إلخ
يقول القذافي في البيان الأول للثورة "...هاتوا أيديكم ، وافتحوا قلوبكم، وانسوا أحقادكم وقفوا صفا واحدا ضد عدو الآمة العربية عدو الإسلام عدو الإنسانية ، الذي أحرق مقدساتنا وحطم شرفنا، وهكذا سنبني مجدا ونحيي تراثا ونثأر لكرامة جرحت وحق اغتصب ."
كانت بوصلة الرجل واضحة منذ اليوم الأول للثورة، ولهذا صنفه الغرب مبكرا على أنه قائد عربي جديد يحمل أحلاما كبيرا، ويريد استعادة أمجاد غابرة.. يقول الرئيس الأمريكي السابق ريغان: "إن ما يقلقنا هو أن القذافي يقوم بدور أكبر من حجم ليبيا أضعاف المرات".
دفع القذافي شخصيا ثمن مواقفه الثورية، عبر 48 محاولة اغتيال موثقة كلها في إرشيف المخابرات الغربية والعربية، ودفعت ليبيا من ورائه نفس الثمن حصارا وتجويعا، وتشويها إعلاميا متعمدا، لكن الرجل لم يساوم، فقد واصل الطريق التي شقها بنفسه.
وخلال الأربعين سنة حقق الكثير من أحلامه الكبيرة جدا، فأمم النفط الليبي، وأغلق الكنائس والخمارات وصالونات التجميل (والعهدة على الداعية كشك) وطرد القواعد الأجنبية، وسير آلاف القوافل الطبية والدعوية، وبنى 7000 مسجد حول العالم منها رابع أكبر مسجد على الأرض، وساعد حركات التحرر وأغاث الملهوفين ومسح دموع اليتامى، ووزع آلاف المصاحف بكل لغات الدنيا، وصلى خلفه علماء الأمة وعلى يديه اهتدى الملايين..
كان القذافي الناطق الرسمي الوحيد باسم الطبقات المطحونة في سيرالانكا ومدغشقر وجبال الأنديز والصحراء الكبرى، وجزر الباهاماس....إلخ.
كان كعبة الثائرين في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا، يفدون إليه تباعا، من معين توجيهاته ينهلون، ومن أموال ليبيا وسلاحها يتزودون..
كان القائد العربي الوحيد الذي أعلن الحداد على الشهيد صدام حسين وأمر ببناء تمثال له بجوار تمثال عبد الناصر في بنغازي، ودعا من منبر الأمم المتحدة إلى التحقيق في مقتله، ومزق الميثاق الأممي الذي يكرس هيمنة الدول الكبرى.
يقول عنه الشاعر الدمشقي نزار قباني: ” إن معمر القذافي ليس زعيماً كلاسيكياً ليناقش بطريقة النقد الكلاسيكي، وليس تمثالاً محدد القسمات في متحف الشمع العربي. إنه ظاهرة استثنائية، كالبرق، والرعد، ورياح الخماسين.."
خلال الحرب الأطلسية- العربية على ليبيا عام 2011 اكتشف العالم، عظمة هذا الفارس العربي البدوي، الذي يسكن الخيمة، ويشرب حليب النوق، ويمشي في الصحراء حافي القدمين، يجالس الناس تحت الشجر، ويسامرهم تحت القمر في ليل ليبيا الصحراوي الهادئ.
رغم جسامة التحدي، وهول الموقف، وخذلان الرفاق والجيران وذوي القربى، ما لان القائد معمر.. ما انثنى.. ما انحنى.. ما انكسر.. وكأنه كان على موعد مع القدر، فقد اختار أن يرسم بنفسه نهاية المشهد، وقليل من الرجال من يموت كما يشتهي.
لم تكن رواية أنبوب الصرف الصحي إلا طبعة غير منقحة من قصة حفرة صدام حسين، بهدف محو صورة القائد البطل من أذهان الجماهير التي تعلقت به عقودا، وآمنت بفكره، وقدمت آلاف الشهداء دفاعا عنه..
وجد القائد الشهيد أمامه أكثر من فرصة للنجاة بجلده، والعيش في أي مكان من العالم، لكن نخوة العربي، والكبرياء التي لا تليق بغير أهلها، دفعاه للبقاء حيث كان وعلى ما كان، ليموت إلى جوار أجداده وكفه مشدودة شدا إلى أرض الزاد والعناد والجهاد والميعاد..
فيا عجبًا للقبر كيف يضمُّهُ؟! وقد كان سهلُ الأرضِ يَخشاه والوَعْرُ
وما مات ذاك الماجدُ القرْمُ وحدَه بلِ الجودُ والإقدامُ والبأسُ والصَّبرُ