أثارني بشدة ما ورد في مقالة تحليلية غزيرة ظهرت في بحر الأسبوع المنصرم على واجهات عديد البوابات الالكترونية تحت العنوان اللافت للانتباه: "الوحدة الوطنية... موريتانيا نموجا"، بقلم المناضل الوطني المخضرم و المحلل السياسي الفذ محمد فاضل ولد سيدي هيبه، أطال الله بقاءه و زاد وعي الأجيال
الحالية و اللاحقة ببعد نظره السياسي و نزاهته الفكرية التي تكشفت عنها ، منذ أول وهلة، قناعاته و حفظتها مبادئه خلال مسار نضالي طويل سلم من الكبوات و الهفوات و الارتكاسات و الزلات و من الترحال الناسخ و المنسوخ في شعاب و ضلالات مشهدنا السياسي المذبذب، و حتى تتمكن بفضله أيضا هذه الأجيال من الرسو بالبلاد على "جودي" الأمان و تنتشر في تناغم على ضفاف الاستقرار و تنعم بحكم الديمقراطية و دولة القانون مع الحفاظ على "استثنائية" كل دلالات موقعها الجغرافي و عمق تشابك و تمازج و تكامل تركيبتها السكانية، و العض بالنواجذ على ثراء و تنوع خصوصياتها الثقافية و رسوخ قيم منظوماتها الأخلاقية المستوحاة في الجوهر من تعاليم الإسلام السمحة و المطبقة في الممارسة على هديه دينا قيما، ثم أسوة من منظور المنطق السياسي المجرد و السليم، بالولايات المتحدة الأمريكية و الهند و بالبرازيل و الصين "التي تضم أكثر من خمسين قومية و إن تخطى عدد إحداها (الهان) المليار نسمة". و قد تجاوزت كل هذه البلدان النموذجية و غيرها، من المؤمنة بمبدأ التكامل و التعايش، تلك المفاهيم الضيقة و الشحيحة العطاء التي ارتبطت ردحا من الزمن بضرورات و هَبات التحرر من أغلال عصور الإقطاع و الاستبداد و الاستعمار و الرجعية و ممارسات الاسترقاق و استغلال الإنسان لأخيه الإنسان قبل أن تبدأ في إذابتها تدريجيا كالجليد "مَطالعُ" وعْيٍ متنور آخذ في الشمولية بمفهوم الإنسانية الموحد في بوتقة التكامل و التناغم الجديدة التي حجبتها طويلا هي الأخرى كل تلك النزَعَات الانفرادية السقيمة و التي ما زالت بقايا من بقاياها تعشعش في العقول السقيمة و الراكدة.
و هو كذلك التحليل أو بمعنى أصح " الإثارة " القوية، المسهبة و المشحونة بالتحليل الفكري الرضين التي أعادتني إلى مربع الحديث النظري عن الوحدة و دولة النظام و المواطنة التي كانت قوام السجالات "الحركية" و قد شغلت الشباب في غمرة تشكل الوعي السياسي بعيد الاستقلال، و أقلقت حكومات كل الأحكام المدنية و العسكرية التي توالت على سدة الحكم من قبل أن تعتريها سِنة الضعف و يلحق بها فكر و تنظير "حركات" وليدة ذات أجندة و مناهج مختلفة أربكت المشهد بجديد طرحها و نوعية أهدافها حتى اختلط على كل ذي نظرية حابل واقعه المهتز بنابل مستقبله المرتبك.
صحيح أن مصطلح الوحدة الوطنية بات مستهلكا سياسيا و ممجوجا أيديولوجيا بحيث لم يعد يؤدي نظريا كما كان عليه الحال إلى عهد قريب إلى أي مآرب بناءة لبعد ارتباط المصطلح في مغزاه العملي بالواقع أصلا، شأنه في ذلك شأن قضبان الحديد التي تختفي على جوهريتها المطلقة في التركيبة الأسمنتية-الترابية داخل الأعمدة الخرسانية المنتصبة في شموخ و تناغم لتحمل البناء و لتتباهى بطلائها و نقوشها و فسيفسائها في الوجه البارز لها علما بأن ذلك ما كان ليحصل لولا الوجود الضمني لصلابة القضبان في الداخل المنسي. و لا يمكن للوحدة الوطنية الفعالة إلا أن تكون كذلك و تعفي في بلوغ المرام من الكلام الملقى على عواهنه فوق حلبات المسارح و جلبة السياسة التي لا تنقطع في حمى أجواء الأمن و الطمأنينة التي تخلقها رغما عنها الوحدة الوطنية.
و لأن المصطلح من هذا المنظور الذي حددت ملامحه الجديدة يدخل ضمن اشتراطات وعي مضمخ بفكر العولمة التي غشيت العقول في أصقاع المعمورة و جعلتها على نفس المسافة من الحس و الإدراك، فإن الخوض فيها على غير هدي العمل الميداني المكرس مبدئيا للمساواة في الحقوق و الاعتبار - التي وضع لها معايير علمية و منطقية شملت كل أصناف "التراتبية" و بشتى أوجهها، المادية و المعنوية و القيادية و التوجيهية و الإدارية و غيرها كثير مما تفصح عنه و تلاحقه الطموحات البشرية - ضرب من تضييع وقت ثمين قد أضحى جزء لا يتجزأ من مضمون العمل المنتج الرامي إلى تلبية الغايات المطلقة للعيش المشترك و البقاء في ظل الانتصار المتواصل على عدوانية مفاهيم الانقسام والتفكك بأعذار و دوافع خسرت لمعانها و انطفأ بريقها و تجاوزها منطق عصر الانعتاق و المعرفة و العلم.
و مما لا بد مطلقا من تجاوزه نظريا ما صاغه الكاتب والمحلل بمعرفة بينة و دقيقة حول النظرة النمطية إلى كل شريحة و المآخذ على الطبقية المذلة التي تطبع النسيج المجتمعي الموريتاني، العربي و الزنجي، و تعيق وحدة الكيان بمفهومي "الدولة" و "الأمة"، ثم بعد ذلك أو على الأصح بدلا عنه الشروع المجرد من اللغط في حيز العمل الميداني مجسدا في خطوات ملموسة تخالط بنتائجها المادية مسلك الأفراد و الجماعات فتؤثر على العقلية و إيحاءاتها الداخلية و انفعالاتها الخارجية؛ ذلك بأن الأمر على سوء المنعطف و خطورته قادر على إيجاد أفق رحب مفعم ببوادر الأمل و تجليات التحول من أجل صنع غد تنصهر في حضنه كل فئات المجتمع و تنعم بالعدل و الحرية و الأمن و الأمان.
الوحدة الوطنية سلوك بارز المعالم وممارسة حيوية وليست أناشيد وقصائد فارغة تنشد وتغنى ويرقص عليها. و لكل فرد دور في تحقيقها بالإخلاص في العمل و الاستقامة في المعاملة و العمل على الاستقرار و قبول قسمة خير الأمة بالقسطاس. و هي ليست على النقيض من هذا حكرا على الإيديولوجيات و حملة الفكر ألانتمائي و الاقصائي الضيق.
و لكن حتى لا يظل الحديث عن الوحدة الوطنية محشورا في زاوية السياق "النظري" المُقَيِد فإن تطبيق منهجية التعليم البيني لأساسيات المفردة الإدارية مثلا عند الحكام و الولاة و غيرهم باللغات الشعبية أمر اتبع و حصل قد يقرب كثيرا إلى انسجام المكونات مع بعضها و يشعر الجميع بترابط المصالح و وحدة المصير. و هي المنهجية ذاتها التي تتبعها منذ أمد بعيد جل السفارات الغربية في البلاد للوصول عمليا إلى مرحلة القرب الشديد و الانسجام و التناغم مع كل المكونات الوطنية و رصد نفسيات كل الشرائح... أو لسنا و الله الأحق و الأولى في هذا المضمار بالأسبقية إلى نتائجه المبهرة ؟ ففي الولايات التمحدة الأمريكية مثلا نوادي أصدقاء "البولار" و "السننكيه" و "الوولف" و "البظان" تسند إلى أفرادها عند الاقتضاء مهام بالغة الدقة و الخطورة.
و إن التفكير في هذا المنحى الذي اتخذه منهجا بعض أمم من حولنا بعدما كانت منذ وقت قريب تعيش في أقصى درجات التخلف و تتخبط في مستنقعات الصراعات على خلفيات الهوية و اللغة و السلطة، هو الذي قد يضمن إن اصطلح على إتباع إفرازاته بعيدا عن سلطة الأحزاب الأبوية التسلطية و الرعاية الحكومية المتكاسلة و الموجهة و الاعتمادية الانتهازية للمجتمع المدني، تحديد جملة من محاور العمل الوحدوي التي تغني من الكلام و تحقق على أرض الواقع المكاسب المشتركة للجميع مادية و معنوية و تصهر بصمت و فعالية قطع التنافر المبعثرة في أجواء حيز الأديم المشترك في نعمة حراك الحياة و رحمة احتضان ما بعد الفناء.