كلهم يعملون.. مؤسساتهم الحكومية تشبه خلايا نحل الذي لا يرتاح، لكنها عاجزة عن إنتاج قطرة عسل واحدة يلحسها الشعب المحروم.. لابد أن يقوم الوزير والمدير والمتعلق بأذيالهما بعمل شيء من أجل القول بأنهم يعملون، أما أن يكون لذلك الشيء نتيجة إيجابية ملموسة فذلك هو الحلم الذي لا يراودهم
على الإطلاق، فالعمل غير مدروس، وبلا هدف غير القول بأنهم كالنمل الشغال، أو إقناع أنفسهم بأنهم يحاولون ذلك أو الظهور أمام رئيسهم الحامل لشعار "العمل" في الظاهر، والله أعلم بباطنه، بأنهم يعملون..
يجتمع الوزراء في كل أسبوع ليتذكر الرئيس بأنهم يعملون، ويتم التوقيع على آلاف المشاريع والتوصيات لكن بلا أدنى نتيجة ملموسة، اللهم إلا في حالات أندر من الأمانة في أروقة المصالح الحكومية..
والحديث اليوم عن التعليم، ذلك القطاع الحساس الذي فر من أهله وفر منه أهله. إن المتتبع لوضعه المحزن يلاحظ كثرة الإصلاحات المتعاقبة، كلما جاء وزير أو مدير جلب معه قائمة إصلاحات من منظوره الشخصي أو منظور رئيسه المفكر الوحيد في البلد، يرى أنها تكفي لتحويل البلد إلى نمر إفريقي جائع، لكن النتيجة الملموسة على الأرض هي أن التعليم في انحطاط متواصل، شأنه في ذلك شأن كل شيء عندنا، والأسباب كثيرة، منها المعروف ومنها المتشابه..
وآخرهم الوزير الجديد الذي لا يمكنك أن تشكك في كونه لا يعمل، فهو يعمل – كالرئيس والرئيسة والمدير والمديرة، كلهم يعملون، لكن بلا نتيجة أو فائدة تخرج الناس من جحر الفاقة وظلام الجهل..
افتتح الوزير الجديد عهده بجرأة غير مسبوقة على ضحايا التعليم الحقيقيين، وهم ليسوا التلاميذ كما تعتقد، بل الأساتذة والمعلمين المساكين، فبدلا من أن يكون إصلاحه قائما على إعلاء من شأنهم نراه كما قال بعض الأساتذة المحترمين: "يسوقهم بعصاه إلى حظيرة التعليم المجدبة"..
من حقه أن يستدعي الفارين من التعليم إلى ساحة المعركة الخاسرة التي يرغب المتواجدون فيها في الهروب منها ولو إلى بحر طارق، فما بالك بمن غادروها ولو بالوسائل الملتوية التي لا تستغني عنها هذه الدولة الملتوية أصلا..
قام الوزير باستدعاء المعارين ليحشرهم بالقوة على أرض الطباشير السوداء، أرض الفقر والكد والفشل، ومن حقه أن يفعل ذلك، لكن من حقهم أن تهيأ لهم الظروف ليعيشوا بكرامة واستقلالية بعيدا عن عبودية وزارة التعذيب الغبية.
وبدلا من أن نسمع بزيادة في رواتبهم، وتحفيزا لهم يدفعهم إلى التنافس وبذل أقصى جهدهم، سمعنا بعودة الدكتاتورية المقيتة العفنة القديمة التي ملها المدرسون والتلاميذ، ولم تنتج أي شيء مفيد.. ها هو عقيد التعليم الجديد يلوح بالحرمان من بركة الطبشور المشئوم في وجه كل من يجرؤ على مخالفة إصلاحاته التعسفية، ولا إصلاح في هذا البلد التعيس يخلو من ظلم وتعسف، كأن الترهيب هو الصفة الأساسية للمصلح، وكأن الدكتاتورية هي المرهم الذي يداوي كل الجروح، على رأي العسكري الذي لا يأتي بخير!..
وهذا إن دل فإنما يدل على أن التعليم رغم أهميته هو "لحويط لكصير" كما يُقال، أهله بلا أدنى قيمة أو اعتبار، وبدل "قف للمعلم وفه التبجيلا"، لا نرى إلا "العن المعلم وفه الإحتقارا"، والكثير من الوعود الكاذبة التي لا تنطلي على الأطفال الرضع التي يعد بها الرئيس ووزرائه منذ جاؤوا وحتى يوم خروجهم، يوم ينفخ عسكري آخر في صور الرئاسة بعد منتصف الليل، لا قدر الله..
فإذا تعلق الأمر بضرب المدرس بسوط المهانة والرواتب الخسيسة والإنتقاص من شأنه أمام مجتمعه وتلامذته، فإننا نرى الوزير وطاقمه ومن يقف خلفه، يهرعون إلى أذية أولئك المساكين الذين سودت وجوههم طباشير التعليم التي سودتها خطايا الوزارة الفاشلة..
وهنا ينبغي التنبيه إلى أن أسلوب "العين الحمراء" لن يُصلح التعليم ولا غيره إلا بشرط واحد: هو أن تكون معها الإبتسامة البيضاء، وهو أسلوب الترغيب والترهيب المعروف، فبأي حق يسلط سيف العدل على الأساتذة ويترك غيرهم من العاملين في باقي قطاعات الدولة؟ أيريدون تفريغ بعض الأماكن في تلك القطاعات ليحتلها جيش أبنائهم ومعارفهم المنحرفين؟..
هذا ما سيحدث بالضبط، تم سحب منحوسي التعليم الذين لا كرامة لهم، وسنرى في قابل الأيام من المخالفات التي تمر تحت بصر الوزاري ما يبهر أبصارنا، فالوقاحة هي سمة الإصلاح اليوم، والمصلحون زمرة من التبتابة التي لا ترقب في المسلمين إلا ولا ذمة..
سُحب المعلم والأستاذ من رقبته بحبل الإصلاح ليتم زرع شيطان قادم من الشارع من أبناء الوجهاء في مكانه – عليهم من الله ما يستحقون بظلمهم المتواصل الذي لا نهاية له، شيطان قادم بوساطة ابليسية معروفة للجميع..
لم يولد بعد من يصلح الدولة ولا التعليم، ولن يصلح التعليم في زمن الدكتاتورية وعبادة الرؤساء الذين يتملقهم الشيوخ والصغار، والوزير أو المدير الذي يشرك الرئيس في الخوف مع ربه لن تكون له كلمة إصلاح أبدا، وما كل ما يجري من محاولات إلا مسرحيات هزلية شؤمها ظاهر على العاملين في مجالها فأنى تتنزل بركاتها؟ وكما قلت لك سابقا: الهدف من كل هذه التنطعات والشطحات هو هز الناس وتنقيص حياتهم عليهم، ثم القول بأنهم يعملون، ففي السابق كان المسئول يأتي إلى مكتبه وينام حتى الرابعة ليعود إلى منزله لا يُؤذِي ولا يُؤذَى، أما الآن فيأتي المسئول بوجه السبع الضاري ليبطش في عماله، ويبعثر أوراق المكاتب مثل الطفل الساخط، باحثا عن وثيقة تدين العاملين معه، ومحدثا فوضى خلاقة تجعل اسمه يتردد في الإعلام التافه، وفي مقهى الرئيس الذي هو ولي نعمته..
ولاحظ ذلك في كثير من المسئولين عندما يقدم إلى إدارة جديدة عليه، قادما من قمقم التبتيب والمحسوبية، ما الذي ينشغل به ليثبت أنه يعمل بجد؟ طبعا تعذيب الموظفين الذي تفاجئهم خِلقته المشئومة عليهم، هل حضروا في الوقت، هل غادروا في الوقت، هل يحبون شيخ الطريقة الدكتاتورية الشريف رئيس الجمهورية؟ يمضي بهذا شهورا ثم يركن إلى الدعة السابقة، وينشغل بالبلع الخفي، والتبتيب، كما هو معتاد..
أما العمل والإصلاح فمسألة أخرى لا تعني هؤلاء المسئولين العديمي الشخصية والإستقلالية، فالمصلح الوحيد في البلد هو الرئيس، وما لم يأتيه وحيه – وشيطانه بالمناسبة عسكري، قد لا يكون حتى ضابطا ساميا في جمهورية "أهل لخل" ما لم يقم بإنقلاب كصاحبه البشري -، فما لم يأته بفكرة جديدة، لا يجرؤ أحد على مشاركته التفكير..
هذه واحدة، أما الثانية فهي - كما سمعت- فرض يوم من العطلة المريحة التي أصبحت 3 أيام، فبفضل غبائها، أصبح للناس راحة أطول، فابتداء من الثانية عشر من يوم الجمعة يمكن للكسول أن ينام حتى صباح الإثنين، وهذا أمر لا يعترض عليه إلا من في قلبه ذرة من إيمان، لأن الجمعة هو يوم عيد المسلمين فهو أولى بأن يكون عطلة، وفيه صلاتهم، وزيارة قبور موتاهم. لكن كيف يعترض من لم يعترض على البدع على تحويل العطلة من يوم الجمعة إلى الأحد؟ وإن فعل أفلا يكون بلا حياء..
المدرس عموما، محترم وغني إلا في بلدنا، والإصلاح عندنا لا يقوم إلا على التنقيص من شأنه، والتكدير عليه، وتجويعه، وفرض الدكتاتورية عليه، وكل فكرة إصلاحية لا تحمل في يدها سوطا تجلده به، لا تعتبر فكرة نافعة في نظر القائمين على التعليم..
ولم يعد ينقص الأبناء في ظل هذه الإصلاحات السخيفة المتتالية كلعنات لا نهاية لها، إلا أن تركب "صاريطات" على ظهورهم، ففساد التعليم يعود في أساسه إلى فساد الرؤى، وفساد المناهج، وإفساد المدرسين، والحل في رأيي يبدأ بإصلاح هذه الأركان الثلاثة..
فمن جهة الرؤى، لا يمكن أن يتولى الإشراف على التعليم عسكري آخر لا هم له إلا التلويح بالعصا في وجوه العاملين فيه، كما لابد من محاربة سوسة التبتيب الخسيسة التي تنخر في أجساد العاملين في إداراته، فالفاسد فيها هو الرجل المثالي صاحب الشخصية القوية الذي لا يردعه دين ولا خلق عن فعل ما في رأسه الفارغ.. ومثل هؤلاء موجودون في كل مكان، وهم في نظري أعراب أجلاف، قساة، دهاة، لا أكفر منهم، لا يرحمون غير أبناء قبائلهم، والويل لأبناء غيرهم من المسلمين، تعرفهم بسيماهم لا يقومون إلا بالأعمال الملتوية، عليهم ظلمة الحرام، والويل لهم مما أكلوا من حقوق، فليقرؤوا جيدا هذه الجملة..
من أسوئهم أولئك الذين يظلمون العاطلين عن العمل المستحقين للنجاح في المسابقات، ويدسون بدلا منهم أبناء الوجهاء وإخوتهم من الشياطين، ويليهم شيوخ السوء الذين ترهقهم غبرة، وال1ين لا تحمل وجوههم علامة خير واحدة، وآخرهم شيطان كنت أتردد عليه في الإدارة الجهوية للتعليم في كل عام ليقبل ملفي كأستاذ رياضيات متعاقد – والوزارة المفلسة تحتاج لأمثالي في كل عام، فكنت أحس بظلمة في الغرفة بسبب وجهه الحالك البائس، ولا أتفائل خيرا عند رؤيته، وطبعا من أين سيأتي الخير من ورائه، فأبناء قرابته مقدمين على أبناء المسلمين، وأمثاله كثر في هذا البلد المنكوب، قلل الله عددهم، وزاد معيشتهم ضنكا، وحشرهم يوم القيامة عميان، ما أظلمهم، وأخس نفوسهم، وما أكثرهم..
ويلي ذلك في السوء شباب تافه من أبناء النافذين، لا هدف له إلا سيارة جميلة يركبها، وفتاة غبية يفتخر أمامها بذنوب أبوه وولي نعمته، وهم أيضا كثر، أغلبهم مدسوس، قادم من الشارع، لم يتدرج في الإدارة ليستحق سيادتها، وغيره من العاملين فيها من القدامى أحق بذلك منه، وهؤلاء سالمون من سوط الإصلاحات لأنهم أبناء النافذين ومعارفهم، محميون من مجرد التفكير في إعادة النظر في أوضاعهم كما يحصل اليوم مع الأساتذة والمعلمين المساكين..
والمؤسف عندنا أن الرواتب غير متكافئة، والقاعدة العامة هي: "اعمل أقل تربح أكثر"، فالمعلم المسكين والعسكري الضعيف، والممرض العاجز، يعملون أكثر ويربحون أقل، ويصفعون على أقفيتهم ليل نهار، أما غيرهم ففي بحبوحة من العيش رغم كونه مخرب لا شغل له إلا بناء الدور في تفرغ زين، وأخذ الرشاوى من شركات الحديد والنحاس والبترول لتسهيل سرقة البلد..
وأسوأ من ذلك أننا نرى نساء بلا أدنى مقومات يدخلن إدارات الدولة من أوسع الأبواب الملتوية، وهن كما يعرف العاملون فيها يمثلن عبء ثقيلا عليها وعلى خزينة الدولة التي تدفع لهم رواتبهم، ولا أحد يتجرأ - كوزير التعليم الجديد - ويعيدهن إلى منازلهن المعارين في الأصل منها، مع احترامي لهن، ف"لحويط لكصير" هو العاملين في التعليم وإن نبت على صلعة أحدهم الريش من التميز..
كانت تلك الأولى، أما الثانية فهي: إصلاح المناهج:
لاحظ عزيزي القارئ أننا صرنا نصارى متفرنسين، نعلم أبنائنا لغة وأنظمة فرنسا، ونستبدل شريعتنا بقانونها الوضعي القاصر! ولا ينقصنا إلا أن نتنصر مثلها، وسيحدث ذلك إن استمر الوضع على ما هو عليه، فموجة الإلحاد في تزايد بسبب ردم الدين بهذه الإصلاحات المتعاقبة التي لا تقيم وزنا له..
وأنا لست ضد نظام فرنسا التعليمي إذا كان بإمكانه صناعة غير علب الثقاب التي نعتبر البلد الأول في صناعة التي على علبتها رسم الجمل منها، لكني ضد تهميش ما هو أفضل منه وأكثر بركة على التلميذ وعلى المجتمع ككل، وهو تعلم العلوم الشرعية التي تحفظ المرء في الدنيا، وتجعله من الفائزين في الآخرة، وهي أنفع له من الرياضيات والفيزياء والفرنسية والإنجليزية لأن الله تعالى قال "وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون"، لم نُخلق فقط لأخذ الدكتوراه، والرطانة بالفرنسية كالببغاء المخمور..
ولن أتحدث عن أسباب ما نحن عليه اليوم من تبعية للنصارى وخنوع لهم، فهي معروفة، ومن أهمها "الإستعمار" الساري فينا حتى اليوم، وعمالة الحكام والمثقفين الذين تمت إعادة برمجة عقولهم في الجامعات الغربية لينسلخوا تماما من كل ما له علاقة بدينهم الحنيف، فلما جهلوا به عادوه، والجاهل بالشيء عدو له، لذا ترى بعض الصغار يتطاول على العلماء لأنه جاهل بما يعرفون، ويحس بالعجز عن إدراكه، والجاهل إذا أحس بالعجز عن مقابلة الفكرة بالفكرة استخدم يده وضرب، وذلك طبع آدمي حيواني، لاحظه في الأطفال الصغار، وفي عوام الناس..
فعلينا على الأقل أن ندمج بين علوم الدنيا التي لا تفيد في غير الماديات مع علوم الآخرة التي تصلح الفرد وتجعله إيجابيا في مجتمعه، وتعينه على مواجهة الموت المتربص به، ومن أراد أن يعبد الله حق عبادته فلن يستطيع ذلك بدون معرفته، وطريقة معرفته هي تعلم العلوم الشرعية التي منها ما هو واجب على كل فرد (وهو غير قليل).
ولا يظنن جاهل أن العلوم الشرعية كلمة أو كلمتين تكفيهما ساعة أو اثنتين من التربية الإسلامية أسبوعيا، أو محاضرة عابرة، لا والله، بل هي بحر لا ساحل له، وفوق كل ذي علم عليم. وهي متنوعة، ولا تقل فترة تعلمها عن فترة تعلم العلوم الدنيوية المعروفة التي تستهلك لغير داع طفولة المرء وشبابه..
وبدلا من جعل الإعدادية والثانوية سبع سنين كما هو الحاصل عندنا، كما لو كانت الست سنين لا تكفي لاستيعاب مواد النصارى التي تُدخل التلميذ جنة الوظيفة، فإن لي رأي مغاير، علينا عمل العكس أي تقليص عدد سنيها، فبدلا من جعل تلك المواد تشغل عمر التلميذ (من الذهاب باكرا إلى المدرسة والعودة منها مساء حتى ما دون الثلاثين من عمره) دون أن يعرف ما ينفعه في آخرته، كان أحرى بنا أن نضغطها (ببرنامج winrar الشهير) لكي تفسح المجال للعلوم الشرعية والحياتية الأخرى، حتى إذا فشلنا في صناعة الدراجة – وهو المتوقع- نكون على الأقل قد نجحنا في صناعة الإنسان الفاضل العارف لربه، وذلك أهم، فبادية ينعم أهلها بالسلام وعبادة الله والحب والتسامح ورؤية الإبل والنجوم، خير من نيويورك التي يختطف فيها طفل ليستخدم في تجارة بيع الأعضاء والدعارة ربما أقل من كل 8 دقائق كما هو الحال في "دلهي"، فواد الناقة خير ألف مرة من ألف من نيويورك ودلهي مجموعتين، بشرط أن لا تفسد الدولة براءتها بإصلاحاتها العرجاء التي تمسخ البشر والشجر..
فعلينا برمجة العلوم الشرعية في تعليمنا، وعدم الإكتفاء بتخصيص كلية لذلك، لأن تلك الفكرة لا تخدم مصالحنا، فهي تقسم المجتمع إلى نوعين متناقضين، نوع غبي يتم توجيهه كما في السابق إلى O لدراسة الشرع، وكانت O أحط من A التي كنا نحن أهل C نعد أهلها من جنس البغال والحمير (أمزح)..
نعم، لقد كان الحط من قدر الشرع متعمدا بأوامر صليبية، وكل من ساهم في ذلك من آباء للأمة وأمهاتها عليهم من الوزر بقدر ما تحملوا من مسخ أمة "لا إله إلا الله" وصدها عن دينها الذي هو أصلها ومفتاح فرجها..
فيجب ضغط المواد الدنيوية (تقليل سنين تدريسها)، وذلك ممكن جدا، فأهمها الرياضيات، وبدايتها الحقيقية لا تظهر إلا مع الباكالوريا، والقليل جدا في السنة الخامسة أما قبل ذلك فلا شيء، مجرد تطويل على التلميذ، وشغل عمره بما يمكن تلخيصه له في وريقات قليلة، وهو لا يحتاج إلا لمعرفة مستوى الباكالوريا الذي تفاجئه صعوبة حتى سمعنا بإصابة بعض التلاميذ بالجنون بسبب ذلك، وهذا عجيب في ذلك العمر الفتي، فيراه صعبا لأنه لم يكن يدرس قبله شيئا، إذن بالإمكان جدا أن نختصر ما قبل الباكالوريا في سنين قليلة إذا ركزنا على الأهم. هذا بالنسبة للرياضيات، ومثلها الفيزياء، أما مواد الثقافة العامة كالتاريخ والفلسفة وغيرها فهذه هي التي لن نجد أدنى مشكلة في التخفيف منها أو تأجيلها إلى مراحل استيعاب الطفل، فمثلا لا يمكنك أن تحدث طفلا عن تاريخ الدويلات الإسلامية في العصر العباسي، لن يستوعب ذلك. فالمواد المهمة هي الرياضيات (أو الحساب في مرحلة أدنى)، والفيزياء، والعلوم الطبيعية، واللغات (الفرنسية والإنجليزية)، والعلوم الشرعية (وهي كثيرة ومتدرجة أيضا في الصعوبة)، ومادة كنت أظنها من بنات أفكاري ففوجئت أنها مطبقة في بعض ولايات أمريكا، وهي مادة عن "الحياة القويمة"، تعلم الطفل حسن التصرف، والوقوف في الطابور، واحترام إشارات المرور، وقبول الآخر، وبغض الإجرام.. ومثل ذلك. وهذه المادة قد تجهز عندي محاولة فيها قريبا..
ومستوى الباكالوريا لا شيء مقارنة برياضيات المستويات الجامعية التي تكتشف فيها أنك كنت تدرس بدائيات الرياضيات، تماما كما يكتشف القادم إلى الباكالوريا أنه كان قبلها يدرس القشور، والمهم في دراسة الرياضيات والفيزياء ليس تعلم النظريات والمبرهنات التي منها ما هو مثبت وما هو غير مثبت، من أجل تعليمها، المهم هو أن تساعد في النهضة العلمية، وأن تستغل خير الإستغلال كما هو الحال في الدول الغربية، لا أن نقف مكتوفي الأيدي بحجة عدم توفر الأجهزة التجريبية والمصانع، وندس كل الخريجين في وزارة العقيد الجديد، أو الجامعة المشئومة التي لم يتوظف من الخارجين منها إلا أبناء الوجهاء ومعارفهم..
كانت هذه الثانية، أما الثالثة فهي: إفساد المدرسين، ولا أقول فسادهم رغم أن منهم فاسدون كثر، لأن الأساس هو تسوية وضعيتهم المالية، فبدلا من وضعهم في ظروف مادية واجتماعية مناسبة، يتعرضون لأسوأ أنواع التهميش والتكركير على خارطة الوطن، لا يكاد أحد منهم يثبت في مكان قصي من الصحراء الشاسعة إلا واستدعي إلى مكان آخر لينعم مدسوس جديد بمكانه، وهكذا..
يا أخي إن كان القضاة والمسؤولون السامون يقبضون أعلى الأجور لكي يعفوا عن المال الحرام، فما بالك بمن لا مناص من وضعه في ظرفية اجتماعية محترمة لكي يؤدي دور الأب والأم أحسن أداء، ألا يستحق مثل هذا أن يستغني عن التسول والإنحراف..
كيف يُحتقر إلى الدرجة التي تجعله يكره التعليم والتلاميذ وآبائهم والدولة كلها، ويلعن اليوم الذي فكر فيه مضطرا في ولوج حقل التعليم، هل يعتقد الوزير الجديد الذي سيبلى كغيره من الوزراء، أن إصلاح التعليم مختزل في تعذيب وإرهاق الأساتذة بهذه القرارات، وبيوم مختطف من العطلة المشئومة، يتمتع به غيرهم من العاملين، دون أدنى زيادة في أجورهم، يتمتع بأضعاف أضعاف أمثالها غيرهم من العاملين في بقية القطاعات؟..
إن أي إصلاح يبدأ بحسن النية تجاه عباد الله، ورحمتهم، وحب الخير لهم، والتخفيف عنهم، والإخلاص والجدية في العمل مع وضوح الرؤية، والتقرب إلى الله بذلك، أما ما عدى ذلك فلا يعد إصلاحا بل جنونا وتخريبا وقلة مصداقية..