كشفت الحملة الوطنية الكبرى التي أطلقتها الحكومة منذ يومين لتنظيف مدينة انواكشوط كشفت عن تناقضات، ومفارقات، وربما فضائح في الإعلام الخصوصي، وكشف تعاطي هذا الإعلام مع هذه الحملة ملاحظات بارزة نجملها فيما يلي:
القيمة الخبرية، والجشع المالي..
تعاني معظم وسائل الإعلام الخصوصية عندنا من خلط بين مفهوم العنصر الخبري، والعنصر الدعائي التجاري، ومن المتعارف عليه في علوم الصحافة أن هناك مواضيع خبرية تحظى بأهمية بالغة عند المتلقي (قراء، أو مشاهدين، أو مستمعين) أو لها بعد وطني يمس الشعب، مثل هذه المواضيع تحظى عادة بتغطية واسعة، وشاملة، و"مجانية" بل إن وسائل الإعلام تتنافس عادة في نشر،وبث العناصر المتعلقة بهذه المواضيع، وأحيانا تدفع وسائل الإعلام أموالا للحصول على صور خاصة، أو معلومات حصرية، وذلك لأهمية هذه المواضيع لدى المتلقي.
ومن هنا يبدو غريبا، ومستهجنا أن تقاطع فضائياتنا، ومواقع الإنترنت حملة تنظيف العاصمة، وإن تناولتها فعلى استحياء، وبخجل، مخجل، وكأن وسائل إعلامنا باتت مجرد دكاكين مفتوحة للبيع بالتقسيط لمن يدفع، وما دامت الحكومة لم تدفع أموالا طائلة لتلك الوسائل الإعلامية فلا يهمها هذا الحدث الوطني الكبير، رغم إشراف رئيس البلاد عليه، ومشاركة الحكومة، والمواطنين فيه !
والمفارقة أن وسائل إعلامنا تعاني من فقر مزمن في المواد، أشد من فقر الدم، حتى باتت تتناسخ فيما بينها، وتكرر تناول مواضيع باتت مملة، وممجوجة، مثل عناوين المحلات التجارية في انواكشوط، والمسلسلات المدبلجة... وغيرها من المواضيع التي لا تحمل أي قيمة خبرية، ولا يظهر فيها أي جهد، أو تميز، بينما يتم تجاهل حملة النظافة التي تتكامل فيها عناصر الخبر، ومقومات الحدث.
لقد انكشف الوجه القبيح لوسائل إعلامنا الخاصة، فالجميع يذكر كيف تعاطت تلك الفضائيات، والمواقع الإلكترونية مع الموسم السياسي الأخير، وباتت تفرض على المتلقي متابعة المبادرات المكررة، الداعمة للنظام، حتى إن بعض تلك المنابر الإعلامية ظل يبث المبادرات الداعمة لترشيح محمد ولد عبد العزيز حتى بعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وتحرص وسائل إعلامنا الخصوصية على تغطية كل أنشطة السياسيين، حتى لو كانوا لا يمثلون إلا أنفسهم، وجميع تصريحات بيرام ولد اعبيدي، ووقفات القصر الرئاسي، التي لا يتجاوز عدد المشاركون في بعضها خمسة أشخاص، ومقالات، وبيانات اعل ولد محمد فال العبثية.. كلها مواضيع تحتل الصدارة في عناوين فضائياتنا، ومواقعنا الإلكترونية، في حين تتجاهل حملة تنظيف العاصمة، التي شارك الجميع فيها بشكل تطوعي، بجهده، ووقته، بينما رفضت وسائل إعلامنا الخصوصية مجرد تغطيتها، في انتظار أن تدفع الدولة الأموال على ذلك، ويبدو أن الجشع، والنزعة التحصيلية أعمت القائمين على تلك الوسائل الإعلامية، وضيعت عليهم فرصة ذهبية للتميز، واستجلاب رضا المشاهدين، فضلا عن ملء فراغها القاتل، الذي تملؤه بالأغاني، والمهرجانات الكرنفالية المعادة، وأحيانا تملؤه ب " اتشنشين".
إن المواطن الموريتاني في الداخل، والخارج عندما يشاهد القنوات الخاصة، والتلفزة الموريتانية يصاب بالدهشة، ويخيل إليه أن قنواتنا الخاصة تبث من فييتنام، أو سنغافوره، وموجهة لشعب آخر غير الشعب الموريتاني، وذلك بسبب الانفصام التام بين تغطية التلفزة الموريتانية، والقنوات الخاصة لحملة تنظيف العاصمة، تركيز تام من الموريتانية، وتجاهل مطلق من الفضائيات الخاصة.
ولم تكشف حملة تنظيف العاصمة عن فشل وسائل الإعلام الخاصة فحسب، بل كشفت كذلك عن تناقض فاضح في مواقف المعارضة، وحرج شديد وقعت فيه بسبب هذه الحملة، فالجميع يذكر كيف تنافست، وتسابقت أحزاب المعارضة في إصدار بيانات التنديد، والإدانة، والشجب، ومواقف الدعم، والتضامن، والمساندة، لسكان قرية تيفيريت الذين يتضررون من مكب قمامات العاصمة – كما يقولون – وربما كانت تلك البيانات مبررة، ومفهومة، بل وحتى مطلوبة من معارضة تسعى لفضح سياسات النظام، والدفاع عن المواطنين، لكن ما ليس مفهوما هو صمت المعارضة، وإحجامها عن المساهمة في حملة تنظيف العاصمة، فما دامت المعارضة تندد بوجود القمامة، فكان عليها أن تساهم في جهود إزالتها، ما دامت مصلحة المواطن هي الفيصل، فغياب المعارضة عن المشاركة في تنظيف العاصمة فضحها، وأكد فعلا أنها لا تهتم بمصالح المواطن العادي إلا عندما تكون فرصة مناسبة لاستغلالها ضد النظام، وعندما ينتفي الاستغلال السياسي فليذهب المواطن إلى القمامة – يقول لسان حال المعارضة-.
المراقبون يرون أن المعارضة وقعت في مأزق حقيقي، وحرج كبير،فإن هي ساندت حملة تنظيف انواكشوط ستكون قد زكت خطوة قام بها ولد عبد العزيز، وحكومته، وهي سابقة لا تريد المعارضة تسجيلها تحت أي ظرف،وإن هي قاطعت تنظيف العاصمة ستبدو في نظر المواطنين متقاعسة عن فعل يخدم المواطن بشكل مباشر، وربما فضلت المعارضة الخيار الثاني.
ورغم تجاهل وسائل الإعلام الخاصة، ومقاطعة المعارضة نجحت حملة تنظيف العاصمة بشكل لافت، ولاقت تجاوبا من المواطنين، وارتياحا كبيرا، وليست هذه المرة الأولى التي " تقاطع" المعارضة حدثا وطنيا،دون أن تؤثر تلك المقاطعة، وما الانتخابات الرئاسية عنا ببعيد، كما أن وسائل الإعلام ستندم كثيرا على تجاهلها لحملة تنظيف العاصمة، وستدفع ثمنا غاليا من حساب رصيد مشاهديها الذي يقترب من الاحمرار.