كان الدرس البوركينابي قويا وقصيرا، فبعد طول صبر رفضوا التمديد الأعمى، وبعد طول صبر على الانقلابات ونهب المال العام والمحسوبية وغرس الثروة في ركن ضيق لصالح الأقلية على حساب السواد الأعظم من المواطنين المغبونين، هل نتحرك لوقف المهزلة قبل حلول فرصة التمديد اللادستوري،
أو غيره من ابتكارات النظام الاستبدادي الانقلابي عندنا؟!.
لقد نزل البوركينابيون إلى الشارع قبل أيام، فجرح البعض وقتل عدد محدود، على يد قواته الغاشمة الانقلابية، ولكن الطاغية سقط وبقي النظام العسكري الفاسد الوارث تلقائيا لكل فيروسات الفساد والعناد والإصرار على البقاء في الحكم إلى أن يتغمد الله البوركينابيين برحمة منه، فيسلموا من حكم الخوذات العسكرية إلى حكم مدني منتخب، وحسب التجربة المالية، فإن الأفق تتراءى فيه مرونة أكبر لدى عسكر إفريقيا السود أكثر من إخوانهم العرب الأفارقة، من أمثال عزيز والسيسي وغيرهم، الذين يكرسون بصورة عميقة حكم العسكر بمواجهة خادعة جوفاء.
هؤلاء العسكر لا يقبلون إلا البقاء الأعمى في السلطة دون حساب للعواقب، وقبل أن يطبق بليز كومباوري تعديله الدستوري، للمزيد من الحكم الاستبدادي الاستنزافي المافيوي عاجله الشارع الصارم، وصرخ في وجهه بقوة حتى حرك الثابت وفتح صفحة تاريخية جديدة، ستكون محل أمل ولو كان ضعيفا، وسط التجاذب بين المحلي والخارجي، عسى أن يفضي ذلك إلى ديمقراطية تخلص من الحكم العسكري المباشر، المؤذي المهلك لكرامة الشعوب وثرواتها.
فهل ينجح البوركينابيون في الخروج من عنق الزجاجة، أم يلتف عسكرهم على ثورتهم وثروتهم وشأنهم العام باستمرار، ضمن نفق مظلم حالك نعيشه جميعا، معشر الأفارقة والعرب دون استثناء كبير؟!.
حكمهم العسكر منذ 1966 وحكمنا منذ1978 ومع طول المعاناة تترسخ روح الرفض للواقع الانقلابي المفسد المتخلف، وتتعمق الرغبة في صيغة حكم يجسد بعض تطلعات الشعوب المحرومة المعذبة، ومع ذلك -ضمن عقلية أسرية ضيقة -ينشغل البعض بذكر تحركات المافيوي المتاجر بالسياسة المسمى ولد الشافعي، وأنه وأنه، تأكيدا لمكانته الشخصية على حساب الكشف الموضوعي عن طبيعة ما يقوم به.
هل هو من أجل المبادئ السامقة أم من أجل أغراض خاصة بعيدة من العمومي الخادم للقيم والشعوب.
وربما الأمر لا يتعدى مستوى استغلال الإعلام الحر لتمجيد -مكشوف أيضا- لأشخاص يلعبون في ساحة إفريقيا المضطربة للحصول على النفوذ وما يلزمه من أوراق نقدية بمختلف المقاييس والألوان، بغض النظر عن مآلات اللعبة القذرة وخاتمتها!!!.
ذهب بليز إلى غانا والمغرب تدعوه -حسب بعض الروايات الإعلامية- للإقامة بأرضها، وولد الشافعي يخرج إلى صاحبه الرئيس حسن واترا في ساحل العاج، ويبقى الشعب البوركينابي، ذي الأغلبية المسلمة يدفع ثمن الأطماع وطموحات الحكام وأصدقائهم، للمزيد من البقاء واستغلال النفوذ غير الشرعي طبعا.
واليوم في نواكشوط يتوق البعض للاقتباس من هنا أو هناك، ولكنهم لا يريدون تجاوز حالة التمني إلى مستوى الفعل والمبادرة.
فهل نتعلم أن كل شعب، حتى الشعب البوركينابي مؤخرا، لم يذق طعم بعض حريته إلا من جهده النضالي الرافض للتمديد، تماما على نسق قاعدة العيش الشريف من العمل الشريف فحسب.
إن التمني رأس مال المفاليس، فيا معشر الشباب المعارض والشباب الواعي عموما، ويا معشر رموز المعارضة، ومختلف مستويات تياراتها العريقة والمتذبذبة، ويا معشر المحرومين والفقراء والمظلومين، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، آن لكم أن تتدبروا بجدية وصرامة مواقع أقدامكم -أعني الواقع الحالي- تمهيدا واستشرافا للمستقبل المنتظر، فبدون رفض ونضال لن يتغير الحال الفاسد القائم، ولنحذر مسارات العنف كلها دون استثناء، فالمنزلق المحتمل عندنا أخطر، نتيجة للتنوع العرقي والطبقي الفسيفسائي، وكثرة المطالب الشرائحية عندنا.
لكن لزوم الإصرار على رفض الواقع وطلب تغييره جذريا، بطريقة سلمية تماما، يكفي إن شاء الله للخروج يوما ما من ورطتنا المعقدة المرهقة.
هذا المستوى يكفي للاستفادة من الجار، سواء كان تونس أو مالي أو بوركينافاسو، ولنترك لهم جانب الدماء والتمزق إن أمكن، ولنحرص على التغيير نحو تعددية مدنية حقيقية بمنهج سلمي تشاركي، دون إقصاء أو تصفية حسابات من أي نوع.
إن الموريتانيين بطبيعتهم متسامحون، ولكن هذا التسامح أضحى هشا ومهددا نتيجة لعوامل كثيرة، منها وافد العولمة، خصوصا عبر الانفتاح الإعلامي القهري، والذي يفرض نفسه باختصار، من كل فج عميق.
ونحن معرضون للتأثر سياسيا وأمنيا يوما ما بالربيع العربي والإفريقي على السواء، إن صحت هذه الإطلاقات محل المضايقة والزحام الإقليمي والدولي،ولكن حرصنا على طابعنا السلمي والتوافقي، ولو في مستويات محدودة، قد يكون مسلكا واعيا للسلامة من هزات ارتدادية، بسبب حرصنا على التغيير، دون تعقل أحيانا لبعض مخاطره، التي قد تمثل ثمنا باهظا، قد يعصف بالسكينة العمومية والحياة العادية، وصولا -لا قدر الله- للعصف بالوحدة الوطنية والحوزة الترابية.
فنحن نريد تغييرا شاملا ومنصفا للجميع، وبالاقتباس والاستئناس من تجارب الجميع في هذا الصدد، قديما وحديثا، بعيدا عن لوثة التفكك والصراع الممزق العقيم.
إن الدولة خلاف النظام السياسي المؤقت، وطلب التغيير السلمي نحو الأفضل أو الملح الإستعجالي، لا يعني استهداف مؤسسات الدولة أو الممتلكات العمومية أو الخصوصية أو انتهاز الفرصة للإفساد بأي بشكل، لكن الوقت حان باختصار التغيير والخروج من قبضة الحكم العسكري الانقلابي، وينبغي أن يلعب الجيش دور الحياد والحفاظ على الأمن في حيز القانون والدستور، وليس من المنطقي أن نظل سلعة تباع وتشترى ومحل المقايضة وتبادل الأدوار بين القبائل وجهات النفوذ الحرام المتنوع، غير النابع من إرادة انتخابية شعبية شفافة.
هذا الواقع السياسي الاستبدادي والتسييري الظالم لم يعد مقبولا على نطاق واسع محليا، فهل نفهم الدرس البوركينابي في هذا الاتجاه المنقح، عسى أن نستورد فقط الإيجابي، ونترك لغيرنا ما لا يصلح لنا من عنف أو تقاتل أو تباغض أو تحامل مفتوح مدمر.
لقد اقترب موعد التحرك للخلاص من الاستبداد والتسيير الأحادي للدولة والمجتمع، وحان وقت الخروج من مستوى ديمقراطية العسكر الاستهلاكية، الانتقائية إلى ديمقراطية مدنية جادة منظمة، تكرس التعايش والعدل العام، ولو تدريجيا بإذن الله، ولتدفع وسائل الإعلام في تجاه الأصلح، دون تقييد أو حرمان لمن يتجرأ على الحق، كما هو الحال اليوم، الذي يعيش فيه شجعان المهنة على هامش الهامش، بعيدا عن مباركة نشاطهم الوطني الأخلاقي المتوازن، اعتراضا على عدم عمالتهم للنظام الانقلابي وأدواته الأمنية والمالية وغيرها.
إن الاستراد من الشعوب الأخرى، دون فحص للصلاحية أمر خطير، وترك الاعتبار أمر معيب، ونقص عميق في الوعي والاعتراف بالجميل للغير، وبين هذا وذاك ينبغي أن نتأمل تجارب الغير والمسار الحالي للبوركينابيين.
ومن الملاحظ أن دور القيادة المعارضة ووعي الشارع السياسي كان وارادا نسبيا في التجربة البوركنابية، في سياق إسقاط مؤامرة التمديد ورائدها بليز كومباوري، حيث لم يستمر العنف بصورة فوضوية، وإنما تناقصت وتيرته بمجرد سقوط الطاغية، وبدأ الإنفراج، ولو في جو إنقلاب عسكري ملبد الغيوم طبعا.
فقادة العمل السياسي والرأي وأصحاب الإعلام، ينبغي دائما أن يرافقوا التجارب الوطنية النضالية، حتى لا تسرق أو تنحرف.
ومما يستحق لفت الانتباه في هذا الموضوع، على وجه الإيجاز والختام، أن الدور الفرنسي والإفريقي الرسمي (فرنسا والاتحاد الإفريقي) لا يعول عليه كثيرا وخصوصا فرنسا، التي تدعى بعض مصادر الأنباء، أن رفضها الرسمي لهذا التمديد البوركينابي للمخلوع بليز كومباوري كان وراء الهزة الأخيرة التي أخرجته من الحكم، فلماذا صمتت على الحالة الجزائرية، التي باركتها تقريبا، وداوت وعالجت بإخلاص الرئيس المريض بوتفليقه وأجبره العسكر على الترشح حفاظا على مصالحهم، مستهزئين بخرق الدستور.
والاتحاد الإفريقي الآن يقوده إنقلابي متمرس في الخداع، في أمور القصر والإنقلاب، ورغم أن هذه هي خبرته الأولى والأشهر مع جمع المال ومنافسة التجار في كل قطاع تقريبا، رغم كل هذه المآخذ الخطيرة، صاحبه الاتحاد الإفريقي في مهزلة "اتفاق دكار"، وأصبح رئيسا عبر التمرير المتكرر، وفي المرة الثانية في ظل انتخابات هزيلة وأحادية تقريبا، لغياب رموز الساحة السياسية عنها بالجملة، لتمثل ديكورا فقط، للتمرير بامتياز، وليصبح من قبل ذلك عزيز الانقلابي هو رئيس الاتحاد الإفريقي، الذي يرفض الانقلابات ويفرض العقوبات على إثرها،، يا لها من مسخرة مدوية عجيبة، وليتحرك عزيز لصالح السيسي ويرد له مقعد مصر بعد تمريره أيضا رئيسا انقلابيا عسكريا لمصر، دون منافس تقريبا، وبعد أن سحق المصريين على اختلافهم وسجن الآلاف منهم، وخصوصا بعد واقعة "رابعة" و"النهضة"!.
إذن مهما كان دور فرنسا والاتحاد الإفريقي في دفع العسكر البوركينابيين إلى صيغة ما لتسليم الحكم للمدنيين، إلا أن هذه الدولة المذكورة (فرنسا ومنظمة الاتحاد الإفريقي) لا استقرار ولا جدية لمواقفهما، ولا يعول في رفض الاستبداد وإلغائه نهائيا، إلا على جهد الشعوب ووعيها والتزامها بقضاياها ومطالبها المشروعة، مهما دفع من ثمن أو تضحيات أو مضى من وقت.
وعموما لا جدوى من السكوت عن الحق، فقد مل الجميع حكم العسكر والمافيا والمتزلفين، وجدير بأدعياء الوطنية والتغيير أن يتحركوا بجدية، ولو مرة واحدة، وبإخلاص من أجل مصلحة الوطن، بعيدا عن الحزبية والأنانية والعنف.