أعادت الاعتقالات التعسفية الأخيرة، والتي صاحبتها موجة حملات تشويه واسعة بحق بعض الحقوقيين من حركة "ايرا" طرح مفهوم الدولة "المخابراتية" من جديد، وعملها علي إبقاء المواطن يعيش على وهم كبير، كي ينصرف باله عن التحديات الحقيقية التي تواجهه، والأزمات التي يقبع فيها البلد، بفعل
سياسات "غنائمية" يتبعها النظام القائم للإبقاء على نفسه أطول فترة ممكنة.
ولا شك ان لدينا في تاريخنا القريب، عمليات فبركة قامت بها هذه الدولة "الغنائمية"، سواء في حالة "اكراب" الشهيرة مع محمد خونه ولد هيداله، أو مع الإسلاميين في "مخططهم التدميري" بقيادة العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو.
ولأن أحدا لم يصدق الأمر، ذهب رأس النظام الذي زورت هذه الوقائع لأجله، وبقيت الدولة "المخابراتية" التي تدخلت لإنقاذ نفسها بعض انكشاف زيف مخططاتها.
واليوم تعيد الدولة "المخابراتية" نهجها مع زعيم الحركة الانعتاقية ورفاقه، بعد أن أحست بخطر يتهدد مبررات وجودها، فبادرت إلى وضع الجماعة في مراكز اعتقال بعضها علني وبعضها الآخر سري.
والحقيقة الواضحة للعيان حتى الآن، هي أن قرار اعتقال بيرام جاء علي خلفية إعلانه مد يده للحوار وتغييره لخطابه ونهجه، بعد أن استشعر خطرا يتهدد كيان موريتانيا، مقدما لذلك مسوغات لا تخفى على أحد، من أهمها أن حجم الاحتقان في الشارع الموريتاني بلغ ذروته بين الشرائح الاجتماعية الموريتانية، مما يتطلب وقفة تأمل، وقرارا شجاعا حان الوقت لاتخاذه، من أجل موريتانيا وشعبها.
وأكد بيرام في خطابه أن حركته ستوقف حراكها الاحتجاجي، لفتح الباب أمام حوار شامل بين الفاعلين الوطنيين الموريتانيين لتفادي وقوع البلد في منزلقات هو في غنى عنها، منبها النظام وبقية الطيف السياسي والمدني على أن الوقت قد حان للبحث عن الآليات الكفيلة الضامنة للتعايش السلمي بين مكونات الشعب الموريتاني.
لكن الدولة "المخابراتية" استشعرت الخطر، حيث أنها لا تريد لـ بيرام أن يرفع راية الحوار، وإنما عليه أن يبقي في حرب مع الجميع، كي يبقي متطرفا في نظر البعض، حيث تعتمد هذه الدولة "المخابراتية" في بقائها علي الشحن الطائفي والعرقي لرعيتها، وبالتالي فهي ليست مستعدة لأن يتراجع بيرام عن خطابه الراديكالي ولو إلى حين، لأن ذلك يقوض مصدر بقائها وضرورات حياتها.
وبما أن الدولة "المخابراتية" تعمل علي تكريس، أن مفهوم المواطنة في موريتانيا -التي تعرف تنوعًا عرقيًّا كبيرا- يعني أن تقبل بعض الفئات التعايش داخل الدولة الواحدة مع ممارسات طائفية عرقية عنصرية عديدة، فقد امتدت سلطة الدولة "المخابراتية" وتغلغلت في جسد موريتانيا طوال عقود، وهي غير مستعدة لمن يسحب البساط من تحتها.
كما أفرزت أنظمة تخلَّت عن مسؤولياتها في بناء دولة حديثة حقيقية قوامها مفهوم الحق والقانون، وأصبح دورها محصورًا في تقاسم السلطة بين نخب الطوائف والزعامات القبلية القائمة.
وأصبحت المطالبة بدولة المواطنة التي تظل كل أبنائها بالعدالة والمساواة والتكافؤ في الفرص، عنصرية ولاهوتا محرما ينبغي ألا نقترب منه حفاظا علي "دولتنا".
وضمن هذا السياق يأتي الزج بالمناضلين الحقوقيين من حركة "ايرا" في السجون، والعمل علي تعبئة الرأي العام الوطني ضدهم، سبيلا للحفاظ علي مكتسبات الدولة "المخابراتية" الغنائمية التي لا تولي للمصلحة العامة أي أهمية.
لكن هل ينبغي الرضي بأن تتلاعب قلة بوحدتنا ووطنيتنا بحجة "الوحدة الوطنية"؟، أبدا، ينبغي أن ننادي بأعلى أصواتنا: أطلقوا سراح بيرام ورفاقه، وارحلوا عن وطنينا دون رجعة، وإلا فلنستعد لدفع فاتورة بقاء ثلة من المتآمرين على أرضنا، دون أن يدفعوا لذلك ثمنا.
وأخيرا على النخب الموريتانية غير الساقطة في أحضان الدولة "المخابراتية" أن تبدأ في تشكيل وعي حول عملية تكوين المواطنة الحقيقية، في مجتمع متعدد الأعراق، وذلك عبر إيجاد صيغة على أسس إنسانية تؤدي إلى صهر الجميع في بوتقة الوطن الواحد دون أن تمس بالحريات الفردية للأشخاص.