عادت أخبار التعديلات الوزارية لتتصدر واجهات بعض المواقع الإلكترونية، وبرزت من جديد الأنباء المنقولة على لسان رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز، حيث تؤكد تلك المواقع انزعاجه من هذا الوزير، وغضبه من ذاك، وعدم ارتياحه لأداء الوزير الفلاني، وتمضي تلك المواقع – المتحدثة باسم
رئيس الجمهورية- إلى التأكيد نقلا عنه أنه يعتزم إحداث تغيير وزاري، أو اتخاذ هذا القرار، أو ذاك.
ورغم أن القراء اكتشفوا أكثر من مرة أن هذه الأخبار مجرد خبط عشواء، وضرب من
" لكزانه" ولا تعتمد على معطيات محددة، ولا مصادر موثوقة، رغم ذلك فإن تلك المواقع عادت من جديد لهذا الأسلوب القديم المتجدد، ومرد ذلك – برأي المتابعين – هو تراجع ترتيب تلك المواقع بين المواقع المحلية، وتدني نسبة قراءتها، تزامنا مع تراجع دخلها المالي، وتدني نسبة نفوذ أصحابها في دوائر السلطة (المخزن) بعد انتهاج الحكومة الجديدة سياسة لا تقيم وزنا للوبيات الإعلام، وسدنة الاستخبارات، ومهندسي أحاديث الصالونات، وتسويق الإشاعات.
فالحكومة الجديدة يبدو من خلال سياستها أنها ترغب في التواصل مع المواطن مباشرة، دون وساطة من أحد، وتود تقديم الإنجازات على الأرض، بدل الحديث عنها في الإعلام، وتهتم بأن يلمس المواطن تلك الإنجازات، ويعيشها واقعا يوميا في حياته، بدل فرضها عليه من قبل الإعلام، وكان من نتائج هذا التوجه الجديد لدى الحكومة اختفاء تلك المبالغ الضخمة (العمولات) التي كان يتقاضاها أصحاب تلك المواقع من دوائر السلطة، وبعد اختفاء المردود المالي، وعدم حاجة الحكومة الجديدة لمن يسوقها للرأي العام، بعد نزول رئيسها، ووزرائها إلى الشوارع لتنظيفها، واحتكاكهم مباشرة بالمواطنين، وفتح مكاتبهم للجميع، مع كل ذلك لم تجد هذه المواقع بدا من العودة لسياسة نشر الأخبار على لسان رئيس الجمهورية، ونشر الإشاعات، والشائعات، والحديث بكل سلبية عن الحكومة، لعل ذلك يعيد جزءا - ولو قليلا - من قرائها، بعد أن فقد أصحاب تلك المواقع الأمل – على ما يبدو- في عودة " العمولات" والامتيازات، والنفوذ، فالبحث عن أي سبق، أو جديد، أو طارئ بات صعبا جدا، في زمن لم تعد فيه الطواري تثير اهتمام أحد.
المفارقة التي بات يتحدث عنها البعض هي أن رئيس الجمهورية ولد عبد العزيز دائما ما يكذب كل الإشاعات، ويخالف كل التوقعات في تعيناته، وإقالاته، فلطالما زعمت المواقع أن عزيزا سيقيل وزيرا، وتمتع ذالك الوزير بطولة سلامة، فولد عبد العزيز يبقى وفيا لعنصر المفاجأة، ومع ذلك تبقى بعض المواقع الإلكترونية وفية لنهجها في التحدث باسمه، ما يجعل أخبار تلك المواقع أقرب إلى " التمنيات" منها بالتوقعات الموضوعية .
إن المتابع للمشهد الإعلامي المحلي يلاحظ أنه يكاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم يجاهر بمعارضته للنظام، ويتضح ذلك في خطه التحريري، فهو منحاز للمعارضة، وأحرق مراكب العودة إلى شاطئ السلطة الحاكمة، وقسم لا يخفي نزعته الداعمة للنظام، ولا يألو جهدا في الدفاع عنه، ومهاجمة معارضيه، وكلا الطرفين يلتمس لنفسه المبررات في نهجه، مع ادعاء كلا الطرفين التمسك بمبادئ المهنية، والموضوعية.
لكن هناك إعلام اختط لنفسه خطا ثالثا، ومنزلة بين المنزلتين، وليس ذلك رغبة منه في الحياد، أو الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، بل لرغبته في الاستفادة من الجميع، وأكثر ما ينتشر هذا النوع في مواقع الإنترنت، التي يدعي أصحاب بعضها قربهم من المعارضة، وهم منها براء، ويكتبون في مواقعهم، ما ليس في قلوبهم، يهاجمون النظام، وهم له داعمون، ويناصرون المعارضة وهم لها كارهون، والحقيقة أن الشيء الوحيد الذي يدافعون عنه بصدق هو مصالحهم.
إن مبدأ الحياد في الإعلام مبدأ لا وجود له مطلقا، وهو مثل المسائل الكثيرة التي يؤمن بها الناس، ولكن لا وجود لها على أرض الواقع، ففي جميع الدول هناك إعلام موال لليسار، وآخر موال لليمين، وإعلام يناصر النظام، وآخر ينحاز للمعارضة، هذا حتى في أعرق الديمقراطيات في العالم، لكن الكارثة هي في وجود إعلام لا يحمل هم الوطن، ولا ينحاز بشكل حقيقي لطرف معين، ولا ينحاز أيضا للحقيقة – رغم أن الحقيقة نسبية- إنه باختصار إعلام مجهول الوجهة، حتى لا نقول مجهول الهوية، إعلام متمصلح.
إن الطفرة التي تشهدها موريتانيا في مجال الإعلام حملت معها الغث، والسمين، وخلقت جوا اختلط فيه الحابل بالنابل، وقد يكون ذلك أمرا متوقعا كإرهاص من إرهاصات ما بعد مرحلة التأسيس، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أنه في موريتانيا إعلاميون مهنيون، ووطنيون، ولا يقدمون مصالحهم الضيقة على شرف المهنة، فهؤلاء فعلا موجودون، جنبا إلى جنب مع من تحدثنا معهم، ومع مرور الوقت، ونضج التجربة ينتظر أن يتميز الخبيث من الطيب، ليبقى ما ينفع الناس ماكثا في الأرض، أما الزبد فيذهب جفاء.