لم أسمع عن السيد أحمد ولد بايه من قبل، ولا عن ماضيه ولا مساره المهني، قبل الزوبعة الأخيرة حول تصريحه عن مصادره المالية، والتي لم أجد فيها ما يبرر مهاجمته حتى قبل أن أعرف من هو، ولم أكن كذلك أعرف من هو عمدة مدينة ازويرات التي هي ـ بالمناسة ـ إحدى عواصم الولايات الثلاث من
بين عواصم ولايات الوطن التي لم تطؤها قدمي، ولا وطئت حدودها منذ أن خرجت إلى الدنيا، إلا بعد تلك الزوبعه. لكنني عندما رأيت الصوره المتداولة للرجل، إذا بشيء لم أستطع تحديده يشدني لصاحب تلك الصورة، متسائلا في نفسي أين ومتى رأيته من قبل، وما السبب الذي جعل صورته تعلق بذهني، بخلاف مئات الصور والوجوه التي أراها يوميا دون أن أحتفظ لها بنفس الشعور؟
ورغم أنني اطلعت من خلال الضجة التي صاحبت تصريحه، على أنه كان يرأس مندوبية الرقابة والتفتيش، وأنه قاد المفاوضات الأخيرة مع الاتحاد الأروبي، إلا أن ذلك لم يسعفني في الإجابة على سؤال أين ومتى رأيت الرجل من قبل، ولماذا حفرت صورته لنفسها حفرة إعجاب بذاكرتي؟ إلى أن طاف علي هاتف يقول إن هذا الشخص ليس سوى الرجل الذي كنت أتابعه في إحدى الأماسي على شاشة التلفزيون الوطني، قبل ترشحه وفوزه عمدة لمدينته، وهو ضيف في برنامج عن اتفاقية الصيد الأخيرة مع الاتحاد الأوربي، والتي رغم أهمية بنودها، وما راعته وأصرت عليه من مصالح البلاد مقارنة بالاتفاقيات السابقة، لم تكن هي ما جعلنى أهتم بذلك البرنامج، واحتفظ للرجل بتقدير كبير، وإنما معلومة قالها عندما طلب منه مقدم البرنامج كلمة أخيرة كالعادة عند نهاية كل برنامج، فقال إنه خلال مساره المهني كعسكري خدم في معظم مناطق البلاد، واطلع على أحوال ساكنتها وظروف عيشهم، تولد لديه حلم بأن تصل الأسماك إلى كل شبر من أرض الوطن، وأن ذلك الحلم رافقه طيلة مساره المهني، وعمل على تحقيقة وسعى في كل ما يقربه من ذلك الهدف، إلى أن أصبح من فاعلي قطاع الصيد من خلال إدارته لمندوبية الرقابة والتفتيش. والآن ـ يقول ـ توفرت الإرادة السياسية، ورصدت الوسائل واتخذت الإجراءات لتحقيق ذلك، واليوم أغادر القطاع وأنا مرتاح البال بعد أن حققت حلمي..
أنا أيضا عملت في عدة مناطق داخلية، وكنت أمضي الأيام والليالي بين أناس لا يتوفر لديهم من مصادر البروتين إلا اللوبيا " آدلكان " إن وجد، وإلا فالنسبة الضئيلة من البروتين في الدقيق، أو تلك المجهرية منه في " مارو لبيظ " ! وكان سوء التغذية وأعراض الوهن وفقر الدم بادية على وجوه وأجساد الكبار والصغار، وكنت أقول آه لو وجد من يتخذ قرارا بتزويد هؤلاء بالأسماك التي كان يرميها الناهبون لثروتنا السمكية من الأجانب و" والوطنيين " على شواطئ المحيط، على الأقل، إذا كانوا لا يستحقون بالنسبة له ما هو أفضل! فما أجمل أن تصادف من يشاركك أحلامك وخاصة الكبيرة منها، فتوفير الأسماك في أعماق البلاد هو بلا شك حلم كبير لا يمكن إلا أن يكون وراءه شعور وطني مخلص، وإحساس إنساني نبيل! نعم هو حلم كبير نظرا لشساعة أرض الوطن، وبعد شواطئه عن المدن الداخلية والأرياف، والعزلة وانعدام الكهرباء اللذين تعانيهما معظم مدنه وبلداته ساعتها، وقبل ذلك كله غياب الإرداه السياسية لتحقيق ذلك الهدف، عندما كان الرجل مجرد عسكري يتنقل بحلمه بين مناطق البلاد، وليس بيده من وسائل تحقيق ذلك الحلم إلا الحلم..!
إن سمكة واحدة على مائدة أسرة تبرز عظام وجوه أفرادها جوعا وهزالا في الأحياء الشعبية الفقيرة بنواكشوط، أو في الداخل بأمبوت أو باركيول أو القدية أو بوصطيله هي عندي بمليار.. حتى لو كانت اليوم ب 25 أوقية ( الكيلو سمكتان أو أكثر وسعره 50 أوقية ) ولا أهتم هنا بالعمليات الحسابية للآخرين، فقد تكون موريتانيا بأرضها وسمائها وسكانها عندهم بسمكة، أو بذيل سمكة..! بل أقف إجلالا وتقديرا لمن كان توزيع الأسماك في الداخل حلمه، وسعى في إيصالها إلى هناك لأنه حقق لي حلما كبيرا، فلا ينكر أهمية البروتين السمكي ومكانته الغذائية والصحية الكبيرة إلا الجاهلون لذلك، ولذلك يلاحظ سكان الأرياف والمناطق الداخلية، النضارة والمظهر الصحي على وجوه وأجساد ذويهم القادمون من المدن الشاطئية، مقارنة بحالتهم في اليوم الذي غادروهم فيه إلى تلك المدن، ويجهلون أن السبب الأساسي في ذلك هو الغذاء اليومي على الأسماك، أو تناولها يومين أو ثلاثة في الأسبوع..
صحيح أن الأسماك ثروة للموريتانيين، ولهم كامل الحق في التمتع بها دون من ولا أذى، لكن ذلك وحده لا يكفي، وإلا فهل كفت خمسون سنة ماضية لتأدية ذلك الحق، وهل كان سيكفي قرن قادم لتأديته لولا وجود من ويحلم ويريد ويخطط وينفذ؟ هل سمعتم أحدا من مسؤولينا يعبر يوما عن راحة باله ورضاء ضميره بعد أن حقق حلما وطنيا، أو حلم ذلك الحلم على الأقل؟ وكم هم الذين نهبوا وأهدروا المليارات في تحقيق أحلامهم الضيقة دون أن يتبقى لها أثر على الأرض، أو تستفيد منها نملة ولا طير، أحرى وطنا وإنسانا؟!
لم يكن من بين مهاجمي الرجل من يشار إليهم من القانونيين ولا الاقتصاديين ولا العقلانيين، وإنما انفرد الفضوليون بذلك الهجوم، لأن ليس من صفات العقلانيين التهجم، وإذا تهجموا بينوا لماذا تهجموا.. لكن من لا يتقن إلا التهجم لن يقوم إلا بما يتقن! وإن كان عليه هنا أن يهاجم المؤسسة ونظمها والقوانين المنظمة لها، ويطالب بإلغائها أو تغيير قوانينها، لا موظفا وجد أمامه نظاما وقانونا ينظم مؤسسة وعمل بمقتضاه!
كيف ننام ملئ جفوننا، لنصحوا ونهاجم من كان ـ ونحن نسبح في أحلامنا الصغيرة ـ يخطط لتحقيق أحلامه الكبيرة؟! أنا أختلف كليا عن آخرين عاشروا الرجل، أو عملوا معه أو خالطوه، إذ لم يحصل لي الشرف، فدافعوا عنه انطلاقا من معرفتهم به، وعددوا مناقبه التي لا أعرفها فيه لأنني لا أعرفه، لكنني مستعد للتوقيع عليها وأنا مغمض العينين، لإيماني أنه لا يحمل الأحلام الكبيرة إلا الكبار.. وأننا لن نكون كبارا إلا بقدر إحساسنا بآلام الناس عملا وتجسيدا، لا تشدقا واستغلالا! فما ضر الرجل ما فعل بعد هذا اليوم، وهنيئا له