تمثل العبودية إحدى أقدم عاهات المجتمع البشري كما أنها أخذت مظاهر مختلفة عبر العصور ومازالت موجودة بشكلها القديم وبأشكال متجددة لم تعرف من قبل.
"لقد ألغيت العبودية منذ زمن بعيد. لكننا، وإلى حد هذا القرن الواحد والعشرين،
نلاحظ أنها مازالت موجودة في كل أصقاع المعمورة. ففى كل يوم نشاهد ملايين البشر يعانون البؤس.وفي عصرنا الحاضر يشكل هؤلاء العبيد المتأخرون عمالة لا حول لها ولا قوة، مسخرة لجميع أنواع الأعمال المرهقة." (لجنة مكافحة الاسترقاق المعاصر).
وحتى في المجتمعات الإسلامية اليوم، نلاحظ بقايا آثار العبودية بشكلها القديم، بجانب مظاهر من الاسترقاق المعاصر. ولنا أن نتساءل: هل يجوز ذلك في مجتمع مسلم؟
نزل دين الإسلام من أجل إنقاذ البشرية من غيابات الظلم والجهل، لذا قد يتساءل المرء لماذا لم يبد الإسلام صرامة أقوى في الحلول التي واجه بها ظاهرة العبودية؟
عند نزوله اصطدم الإسلام بالحقائق المرة التي تحكم المجتمع البشري آنذاك، ووجد نفسه في مواجهة أفظع تلك الحقائق ألا وهي العبودية.
في ذلك العصر كانت العبودية تمارس، ليس من قبل المجتمع العربي فحسب، بل تمارس كذلك من قبل المجتمعات الفارسية، والإغريقية، والرومانية، وفي سائر مجتمعات المعمورة.
لذا وجد الإسلام نفسه أمام خيارين: إما العمل على الاستئصال الفوري لهذه الظاهرة مهما كلف ذلك، وفي هذه الحالة سوف تنشب، لا محالة، حروب طبقية مدمرة. ولن يترك ذلك مجالا لمعالجة أمراض المجتمع البشري الأخرى، وإما أن يختار حلا تدريجيا يعالج ظاهرة العبودية بمداراة المعتقدات السائدة ويؤسس أخوة الإسلام.
لقد اختار الإسلام الأسلوب الأخير الذي بفضله تحولت بيوت الأسياد إلى مدارس حقيقية لتربية العبيد الذين جلبتهم الفتوحات إلى المجتمع الإسلامي. وقد تبوأت نخبة من هؤلاء العبيد مكانة عالية في السلم الاجتماعي، بفضل التربية التي كفلها لهم أسيادهم، ولأن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين أن يقول أحد منهم عبدي وأمتي وإنما فتاي أو فتاتي فقد اختفي مصطلح العبيد وحل محله مصطلح "الموالي". و هكذا تحول العبيد إلى أولياء. ولولا بعض المباحث الفقهية غير الضرورية من قبل فقهاء الفروع لما وصل إلينا نحن المتأخرين هذا المصطلح.
إن العبودية كانت سائدة في المجتمع الجاهلي الذي نزل الإسلام لإصلاحه بالتي هي أحسن. وهكذا لخص الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة رسالته بقوله:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ولأن الله يقول:
(* وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ*).
كانت العبودية تمثل أبشع مساوئ المجتمع الجاهلي التي ناهضها الإسلام، لا بفظاظة وعدم حكمة، و إنما بمنهج عقلاني فعال،كما أمر الله في كتابه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *) يعني من احتاج إلى مناظرة أو جدال فلتكن بالرفق واللين وليس بالغلظة و الفظاظة التي ينهى عنها الإسلام.
اختار الإسلام في محاربته للعبودية ان يربي الأسياد ويعظهم ويحثهم على عتق الرقاب لتجد مشكلة الرق حلا تدريجيا بلا إكراه إذ (لا إكراه في الدين) وذلك بهدف الحفاظ على النسيج الاجتماعي ولكي لا تتعطل وتيرة الإنتاج الاقتصادي، و لتحاشي الوقوع في فوضى اجتماعية يمكن تفاديها.
وتطبيقا لمبدئه الثابت في احترام وتعميق وصيانة حرية الفرد حث الإسلام على إعتاق الأرقاء.
فمن ناحية أجزل الثواب والعطاء لمن يعتق رقبة، ومن ناحية ثانية جعل من هذا العمل كفارة لكبائر الذنوب. وبهاتين الطريقتين فتح الإسلام بابا غير قابل للإغلاق لإخراج الكثرة الكاثرة من الرق إلى فضاء الحرية، وتقريبا لم يبق ثمة إلا من استعاد حريته بإحدى الطريقتين.
و بعد أن استتب أمر الإسلام لم تعد العبودية احتمالا قائما إلا لأسرى المشركين المحاربين الرافضين لدعوة الإسلام، فبمجرد انتهاء الحرب على هؤلاء يصبح النساء والأطفال سبايا ولم يكن ذلك إلا طريقة تربوية تضمن اندماجهم في المجتمع و تقبلهم للتعايش مع المسلمين في ظروف محددة بدقة تضمن حقوقهم وتمكنهم من اكتساب على مبادئ الإسلام.
أما فرص انعتاقهم فهي كثيرة وواضحة وحاسمة بحيث تضمن تحررهم بأقصى سرعة و في أحسن الظروف (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ).
إن الإسلام من حيث هو تشريع رباني يضع الحلول المرنة لجميع الأمراض الاجتماعية. وقد صممت هذه الحلول لتجنب الجماعات البشرية الأضرار الناجمة عن الاضطرابات العنيفة. و بهذه الطريقة واجه الإسلام المشاكل والصعوبات التي ورثها عن المجتمع الجاهلي. فشجب جميع أمراض المجتمع، و اختط طريق الوصول إلى أهدافه النبيلة.
وهكذا ألغى العبودية من حيث واقعها ونتائجها، دون أن يصطدم بمعتقدات لم تعد ذات موضوع.