مدخل عام حول السيبة؛
مقدمة حول السيبة للشيخ العلامة إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ؛
من قصص السيبة في المنطقة ومظاهرها؛
نماذج من الحروب والاقتتال الدائم؛
معاناة الدين وأهله أيام السيبة؛
خاتمة.
مدخل عام حول السيبة:
يقول الوزير الباحث، الدكتور إزيد بيه ولد محمد محمود: «إذا كان الشيخ سيدي بابَه معاصرا لفترة التنوير العلمي التي نوَّهنا بها آنفا، فإنه كان معاصرا كذلك لفترة سياسية حالكة كأنها الليالي الحنادس، فالسلبُ والنهب والاقتتال بين القبائل كان شِرعة ومنهاجا لسكان هذه البلاد في الفترة التي عاصرها الشيخ سيديَ بابَه؛ وقد رأى بناظرَيْـه ما انجرَّ عنها من أضرار. وقد رد هذه الوضعية، بثاقب النظر، إلى غياب السلطة المركزية التي بإمكانها أن توفر الأمن والعافية».[1].
إن قِصص الغدر والظلم والبغي وإزهاق أرواح الضعفاء وإذلالِهم أيامَ السيبة كثيرةٌ شنيعة ومعروفةٌ لدى جميع جهاتنا وفئاتنا، ولا فائدة في ذكر كثير من تفاصيلها، لأن توثيقها لا يمكن دون ذكر أسماء الضحايا والجُناة، مما يَنكأ الجراح ويثير الآلام.
ومن أراد الاطلاع على الحوادث اليومية لتلك العهود، فما عليه إلا أن يراجع حولياتِ ولاتَه والنعمة وتيشيت وتجكجه وكتاب الوسيط ونوازل المداراة عند علماء ذلك الزمان.
والحقُّ أنه لم يبق عالمٌ من علماء هذه البلاد أو مصلحٌ إلا وعبَّر عن اشمئزازه من حالة التسَيُّب المذكورة وأحداثها القبيحة، وأفتى على أساس ذلك، كما فعل العلامة صالح بن عبد الوهاب والعلامة الشيخ ماء العينين وغيرهما.
ومن المعلوم أن الشيخ سيدى المختار الكنتىّ، وابنه الشيخ سيدى محمد الخليفة كانا من أكثر العلماء اهتماما فى هذه البلاد بالسياسة الشرعية، وأحكام الإمامة ونصب الإمام، والتفكير فى الشأن العامّ، وكذلك العالمان الجليلان الشيخ محمد المامى بن البخارى والقاضى محنض بابه بن عبيد الديمانىّ، فإنهما دعوَا إلى نصب الإمام والسعى إلى إقامة نظام عام، تنفذ فيه الحدود، ويقضى فيه على السيبة والحروب. وآثارهما فى ذلك معروفة. وهنالك غيرهم من الفقهاء مما يقصر عنه المقام.
كما أنه قَلَّ من العلماء مَن لم يحاول بطريقته وحسب مركزه وجهده، أن يسعى في معالجة الأمر جزئيا أو كليا، مستعينا في ذلك بأكابر الأمراء ونُبلاء أهل الشوكة وأصحاب الدين والقِيَم من بني حسان، مع بعض المحاولات المتفرقة لنصب إمام وإقامة إمارة إسلامية أو أي سلطة مركزية أخرى لمعالجة الأمر.
يقول الدكتور محمد الحسن ولد اعبيدي: "إن فكرة تنصيب إمام أو إيجاد عَقْدٍ سياسي يلمُّ شتات القبائل ويوفر لها الاستقرار والأمن، لم تَغِب عن ذهن كل فقيه يبحث عن مناخ ملائم للأحكام الشرعية، التي يتوقف تطبيقها على السلطان. لكن هذه الفكرة ظلت تتمنع على التنفيذ وتستحيل، نظرا لإكراهات الواقع وعدم انقياد تشكيلات المجتمع البدوي للدخول في تنظيم موحَّد، لِتنافُر أمزجتها واختلاف مصالحها وتأصُّل فوضوية التعامل فيها."[2].
ومن المحاولات الجادة لإقامة دولة إسلامية في هذا الفضاء، محاولة الإمام ناصر الدين المشهورة التي بدأ الإعداد لها سنة 1082هـ ودخلت مرحلة التنفيذ والمواجهة العسكرية سنة 1086هـ، وقد نتج عن ذلك اندلاع حرب شرببة الشهيرة بين زوايا المنطقة والمغافرة، انتهت بانتصار المغافرة ومقتل الإمام المنَصَّب، ناصر الدين[3].
وعلى الرغم من إضعاف هذه الحرب للزوايا عموما، وزوايا "القبلة" خصوصا، إلا أن محاولات أخرى لإقامة الدين والنظام لم تزل تظهر من حين لآخر، وإن كانت كلُّها جزئية ونظرية.
ولمّا أرادت جماعة فاضلة من شباب إيجيجبه إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة، في منطقة من أكثر مناطق البلاد تسليحا وشوكةً، كتب إليهم الشيخ سيديَ الكبير رسالته المسماة: "الميزان القويم و الصراط المستقيم"، منوها فيها بعلمهم وأهليتهم لذلك ونُبل مقصدهم، ومُنبِّها في نفس الوقت إلى خطورة المهمة على تلك الحضرة الدينية والقلعة العلمية وعلى المسلمين أجمع، قائلا: «فمن تصدى في هذا الزمان لإقامة الدين والدعاية إلى سبيل المهتدين ثم رام أن يحمل الناس على فعل المعروف وترك المنكر وأن يغير مناكرهم بيده وإظهار عضده دون إمام تجتمع إليه الكلمة وتَقْوَى به الصَّوْلة ويشتد به ساعدُ الحق وتكون له به على الباطل الدولةُ، فقد تصَدَّى لإثارة فتنة تستباح فيها الحرم وتُراق فيها الدماء، وتُنهب فيها الأموال من غير فائدة ولا عائدة »[4].
لكنْ، ومع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، ازداد حكم الإمارات ضعفا وهشاشة وفوضى... يقول الباحث والمؤرخ، الدكتور حماه الله ولد السالم: «كانت الحروب داخل المدن أو في محيطها المرتبط بها ذات نتائج يمكن التغلب عليها، ولذلك ظل المجتمع الأهلي مستمرا بالرغم من تلك الأزمات الداخلية وبرغم الجوائح (قحوط، أوبئة) التي كانت تأتي دوريا، لكن انحطاط الإمارات الكبرى وتزايد الصراعات والحروب في إقليم السودان، مصدر التموين بالحبوب، أدى إلى أزمات هيكلية مست سكان المدن في الصميم وأضعفت من تطور الزوايا الصوفية في البوادي»[5].
لقد أدى انتشار وتكرار حوادث البغى والطغيان وجرائم السيبة، إلى إصدار العلامة سيدي محمد بن سيدي عبدالله ابن الحاج إبراهيم العلويّ فتوى بتكفير بنى حسان! وذلك في نظم له مشهور.
أما ما دون تكفير أهل البغي وقطاع الطرق، كالاقتتال معهم والاحتماء منهم بأي وسيلة، والتحريض عليهم والدعاء عليهم آناء الليل وأطرافَ النهار والاحتيال عليهم بالحق والباطل وتخويفهم بالدَّجل والسحر والاستعانة ببعضهم على بعض، فهذا منتشر في الكتُب والرسائل والأشعار الفصيحة والعامية والحكايات الشعبية...
مقدمة حول السيبة للشيخ العلامة إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ:
يقول في مقدمة بحث له عن السيبة: «لقد شهدت موريتانيا منذ قرون عديدة وآماد بعيدة فوضى طَحونا أتت على الرطب واليابس، ولم يُرقَب فيها إلٌّ ولا ذِمّة. فكانت الحرب قائمة على ساق بين إمارات متناحرة، وقبائلَ متنافرة، ولم يكن أحد يأمَن على نفس ولا عِرْض ولا مال في هذه الصحراء المترامية الأطراف. ويستوي في ذلك العرب والزوايا، فلا تكاد تنجو قبيلة من قبائل الفريقين من أُوَار حرب أو حروب خاضتها مع جارةٍ ذاتِ قربى، أو جارةٍ جُنُبٍ. بل كانت الإمارة الواحدة يغتال بعض أعيانها بعضا، فالابن قد يقتل أباه، والأخ يقتل أخاه... وهلمّ جرّا. حتى إنه من المعروف أن بعض الإمارات لم يمت فيها أمير حتف أنفه، إلا في حالات أندر من الندور. لذلك أطلق على هذه الرقعة "بلاد السيبة"، و"البلاد السائبة" و"المنكِب البرزخىّ... فكانت غابةً يأكل القوىُّ فيها الضعيفَ. وأغلب ما يقع فيها من القتل والنهب وإذلال الضعَفة هو من فعل بنى حسان، والقبائل المسلحة وشبه المسلحة عموما. وربما صدر شيء من ذلك عن بعض الزوايا لمَن دونَهم من الشرائح والطبقات.
ويَعجَب المرء في هذه الحياة "الجاهلية" القُلَّب، من كثرة العلماء وحفظة القرآن والفقهاء والصلحاء والزهّاد والنسّاك والشعراء والمؤلفين، والمحاضر والكتاتيب، والمؤلفات والمخطوطات، وكثرة الحلقات والدروس في فئة الزوايا خصوصا، ومن الصِّلات الحسنة في كثير من الأحيان بين بعض القبائل والأطراف على اختلافها. كما يعجَب من تعمير الزوايا الأرضَ بحفر الآبار وبناء المساجد وتنمية الماشية والزراعة... رغم صعوبة الأوضاع وقساوة الحياة وشدة المعاناة. وكانت قبائل حسّان تستنكف عن تحصيل المال من الأوجه المشروعة، فلا تفتأ تُغِير في كل وجه، وتضرب المغارم والمُكوس، وتتمدح بكسب العيش من المِدفع، كما تتمدح الزوايا بكسبه من القلم. لذلك كان الفقر المدقع وسوء الحال من أهم سمات حملة السلاح في الأغلب. وأما عن قُنّاص البشر من لصوصهم الشعْثِ الغُبر الذين يسكنون القفار وتتقاذفُهم الفلَوات وتلوحُهم الهواجر والسّمائم فحدّث ولا حرج!
حتى إذا نظروا إلى متقلِّصٍ--أهدامُه ذى وفرة شعثاءِ
ولدته أم بئسما جاءت به--وأُبَيُّه راع ونجل رعاء
......
إلى أن يبصروا شعثا كساهم--لباسُ الجوع والخوف اغبرارا
رعاءَ الشاء حقا من رآهم--يقول هم الرعاء وما تمارى [6].
ويضيف الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ قائلا: «بيدَ أنه من الحق والإنصاف أن نقول إن من بين أمراء العرب وأهلِ الشوكة عموما أعيانا وكبراء كانوا يحبون الخير والعدل، ويسعون في رد المظالم، واستنقاذ أموال الزوايا من الأيدي العادية، ويحمون كثيرا من الضعفة، فضلا عما هم عليه من التدين والشهامة والنجدة والنُّبْل والإباء، والصراحة والوضوح، والترفع عن السفاسف والدنايا وحمل الأضغان والأحقاد عبر العصور؛ ويعبر عن هذه القيم محلّيا ب "التمغفير" و"التّْموْجيرْ"؛ وأن هذه الفئة، في الجملة، على ما تتسم به غالبا من غلظة وجفاء، كانت تعظم الصلحاء والعلماء، وتخاف دعواتهم، وتلجأ إليهم عند الملمات التماسا للدعاء والرقية و"البركة"!، وتتقرب إليهم بالهدية ونحوها. وكان أمراء الأقاليم يوَلّون زوايا أرضِهم القضاءَ وإمامة الصلوات وعقودَ النكاح، وكَتْبَ الوثائق والرسائل، والصلاةَ على الجنائز والإشرافَ على دفن الأموات... والواقع أنه لم يكن يصلح لذلك، في تلك العصور، إلا الزوايا. فكانوا يتولون ضرورةً بعض تلك الوظائف من تلقاء أنفسهم. وما تزال العرب ومن في معناهم، على هذه السيرة مع الزوايا وبيوتات العلم والصلاح إلى الآن، إلا ما اختصت به الدولة من تعيين القضاة.
وقد توسع كثير من الزوايا و"الطِّلْبَة" في استغلال هذا الجانب، فأكلوا به أموال أهل الشوكة وغيرهم، واكتسبوا به المنزلة عندهم، واستخدموا لذلك أساليب كثيرة متنوعة من الدجل والشعوذة والمخاريق، وإيهامِ القوم أن عندهم قوة خارقة على الإضرار بالغير، واطلاعا على المغيبات! وتلاقى هذه الدعاوى، في العادة، تصديقا تلقائيا من تلك الأوساط.
جزى الله أرباب المكاسب إنهم--على الحق والتحقيق من غير ما شكّ
همُ طلبوا الدنيا منَ اَبوابها التي--ترام بها لا بالتحيّل والنسْكِ[7].
انتهى كلام الشيخ إبراهيم بن يوسف، حفظه الله، وقد تمَّ نقله هنا بطوله لنفاسته.
من قصص السيبة في المنطقة:
إن من أبشع حوادث السيبة، وليس أبشعَها، الحادثة المشهورة التي وقعت بولاية التررارزة، سنواتٍ قليلةً قبل دخول المستعمر إلى البلاد؛ وقد مرَّ رَكبُ الشيخ سيديَ بابَه بأهلها ساعاتٍ بعد وُقوعها (اتفاقا وقَدَرا). فقد اقتحمت مجموعة من الغزاة منزل أسرة مسالمة منتجعة، مشغولة بتسمين (ابلوحْ) إحدى بناتها المراهقات، فلاحظ اللصوص، وهم في عجلة من أمرهم، سوارين من ذهب في معصميْ تلك الفتاة، فحاولوا انتزاعهما بسرعة فلم يُفلحوا، فما كان منهم إلا أن أخرج أحدهم سكينا فقطع بها يدي الفتاة، فماتت من حينها من شدة النزيف، فأخذ اللصوص الحلي وانطلقوا نحو محطة موالية.
وفى ليلة من ليالي "آمشتيل" الحارقة بسَمومها وحرها، جاءت عصابة إلى أسرة قليلة العدد والمال، ضعيفة الحال من كل وجه، ليس لديها من الماء إلا ما بقى فى القِربة، وقد واروه عن الأعين، مخافة أن يُنتزع منهم بالقوة، فيهلكوا عطشا، والمنهل منهم بعيد، والحال شديد، فسألهم كبير العصابة عن الماء، فأخبره الرجل بأنهم يكادون يهلكون من العطش، وأن ابنهم الوحيد سيمُرُّ عليهم بماء زوالَ الغد. فقام المجرم بتفتيش سريع للخيمة، فعثر على القربة غيرَ بعيد من المرأة، فأخذها وشرب، وناول أصحابه البقية، وأمرهم بالانصراف، واغتصب امرأة ذلك الرجل البائس الأعزل! ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون.
وذات يوم، كان رجلان يرعيان إبلا لرجلين من أعيان المنطقة. وكان أحدهما راعيا تقليديا محترفا. وأما الآخر فهو رجل من فئة الزوايا غيرُ محترف، وإنما اضطره الفقر إلى رعي الإبل مقابل أجرة يعول بها بناته التسع.
وفجأة جاءهما رجل ملثَّم رثُّ الثياب، يتظاهر بأنه راع ينشُد ضالة إبل، فلما أخبراه بما عندهما انصرف. وعند انصرافه نظر الراعي المحترف إليه، فعلِم أنه من حملة السلاح، وأن لا علاقة له برعْي الإبل، وقرر من حينه الفرار بإبله إلى مكان آمن. لكن مرافقَه المسكين لم يقتنع بظنون صاحبه وإلحاحه على الذهاب، فقرر البقاء بإبله في مرعاها إلى نهاية النهار.
أسرع الرجل المحترفُ إلى المركز الإدارىّ الفرنسىّ الأقرب، وأخبر بما شاهد، فأرسلوا معه فرقة مسلحة، لكنها لم تجد شيئا في المكان المذكور، فاقتصوا أثر الإبل وصاحبها، فلاحظوا آثار أصابع قدميه تلامس الأرض وهو مشدود إلى الرحل على ظهر بعير؛ وما لبثوا أن عثروا عليه في مكان ما من "آفطوط"، وقد قتله اللصوص خنْقا وربطوه بعمامته السوداء إلى جذع شجرة.
وبأسلوب روائي معبِّر، يقول الكاتب السياسي محمد يحظيه ولد ابريد الليل: «فإذا كنا نريد أن نرى بأعيننا الفوضى العارمة، والسيبةَ التي كنا نسمع عنها في الماضي، والتي عمَّت... عندما انهار النظام القديم قبل استتباب النظام الاستعماري الجديد (...) يجب أن يسمع المرء هذه القصة التي تحطم القلوب، قصة تلك "الخيمة" البدوية المسالمة التي رواها شهود في حكم الحاضرين، ليدرك فظاعة وهمجية نظام السيبة. فقد اعترض قطاع طرق سبيل الشيخ الأب وأمَتِه في طريقهما إلى البئر، في مكان ما بين نُواذيب ومكطع لحجار، وسلبوهما دون كبير عناء عشرة من الإبل هي كل ما تملكه الأسرة، وأسندوا كل واحد منهما واقفا إلى جذع شجرة، ولفُّوا جسديهما من الرأس إلى القدمين برشاء البئر، وبعد فترة طويلة عُثر على عظامهما بيضاء تحت جذعي الشجرتين، والرشَاءُ ما يزال يلفُّ الجذع كجلاد فظ مقيت وصامد بقوة. أما بقية الأسرة: أمٌّ وبناتُها الأربع، فلم يُعثر عليهن قطُّ،
ولاشك أنهن ما زِلْن ينتظرن منذ ذاك (حوالي 1930) عودة ذويهم والقطيع الذي هو مصدر رزقهم الوحيد... وقد نتصور بسهولة أن هذه المخلوقات الضعيفة كانت صيداً سهلا لقناص الصحراء الرهيب: العطش، الذي يترصد ويقوم بأعمال الدورية باستمرار لصالح "عزرائيل"، وأن أرواحهن البريئة ما تزال باستمرار، وإلى الأبد، تصيح في آذان قتلتهم»[8] .
وفي هذا الصدد، يقول الشيخُ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ أيضا: «كيف يعدّ من البطولات استياقُ نَعَمٍ كثير جدّا يشكّل ثروة عالم جليل متفنن، ومصدرَ عيشه وعيش طلابه وحيّه، على حين غِرّة، قبل دخول الاستعمار بسنين؟ وهل يعدّ من البطولات إلجاءُ عالم آخر من شكله إلى التظاهر بالمرض وفقدان الذاكرة والعقل، ليَسْلم من دفع قطيع من الإبل لأحد الكبراء من أهل الشوكة؟
(...) أمِن البطولات انتزاعُ أحد أهل الشوكة بقَرةً من مراهق فى طريقه إلى محضرة يأخذ فيها القرآن، وضربُ وتد فى صدره، كما تُضرب أوتاد الخيمة فى القاع، وصَلبُه فى جذع شجرة بفلاة موحشة ليكون "جَزَرَ السباع وكلِّ نَسر قشعم"؟؟؟!!!
أمن البطولات والجهاد إكراه الحرائر والفتيات على البِغاء، بحجة أن فى ذويهن من هادن النصارى، أو عمل معهم مترجما أو فرّاشا؟ أليس هذا زنا محضا وانتهاكا عظيما لحرمات الله سبحانه؟؟؟ أيزعم هذا النِّكْسُ أنهن سبايا حلائلُ له ولعِصابته كسبايا أوطاس؟ وهبْهن كذلك، ألَا ينظُر هذا المثبور طُهرَ الحائل ووضع الحامل؟»[9].
والحق أن كل مهتم بتاريخ البلد يتفادى هذا الموضوع لما في ذكر أسماء الأشخاص والقبائل من إضرار وجرح للأجيال الحالية والمستقبلية البريئة من هذا كله. لكن إهمال أطول حقبة من تاريخ البلد لا يُستساغ، والأخطر من ذلك أن يقول مؤرخونا إن السيبة لم تكن يوما من الدهر في هذه الربوع، أو إنها خيالٌ يراد به تسويغ الاستعمار ومهادنته، أو الدفاع عن المهادنين. وربما يجىء اليوم الذى تذكر فيه الأسماء، وتخرج الوثائق المثبتة لذلك ولغيره، دون أن يكون فى الصدور حرج منه.
مظاهر السيبة:
يقول الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ في مقدمته المذكورة آنفا: «قد تجلت ظاهرة السيبة الناجمة عن غياب سلطة مركزية تردع المجرم وتَزَع الظالم، فى مظاهرَ عدة: منها: قطع الطريق وإخافة السبيل، شنُّ الغارات المفاجئة للسلب والنهب، سفك الدم الحرام بغير حق، الهجوم على المنازل والبيوت، ابتزاز الملابس والحُلِىّ، لَزّ الشِّيب فى قَرَنِ، سبْى النساء، الضرب المبرِّح على الوجه والعِلباء، خوض القبائل والإمارات المعاركَ الداميةَ والحروبَ الطاحنة فى مختلِف نواحى البلد، إشاعة البلبلة والفوضى، ترويع الآمنين وإرهاب المسالمين، سبى الأفراد والمجموعات واستعبادهم أو بيعهم بأسواق النِّخاسة فى الداخل والخارج، فرض الإتاوات المجْحِفة بغير حق...إلخ.
يقول الشيخ سيدى محمد بن الشيخ سيدىَ، رحمهما الله تعلى، ينعَى على بعض المجموعات الرضا بهذه الوضعية:
لا حرّ يرضى ما رضيتمْ أنتمُ--من نهب أموال وسفك دماء
وهجوم دور وابتزاز ملابس--وقِران شِيب واستباء نساء
ويقول أيضا فى بعض النواحى:
سكنتها غوغاء تنفكّ فوضى--لم تَمِز بين ليلها والنهار
لقد كثر حديث أهل هذه البلاد فى القرنين الهجريين الماضيين عن "الِمْحاليِّين"، والِهْناتيت، و"آمجابير" و"الِبْرابِر"... وهى عبارة عن عصابات مسلحة تمتهن السرقة والغصب والنهب بأساليبَ قذِرة. ولم يكن يسلَم من غاراتها ونهبها إلا قبيلة ذات بأس ومنَعة، أو من كان من الشخصيات والأُسَرِ عظيمَ المكانة روحيّا فى المجتمع، أو من اجتمع له الأمران معا.
وقد اضطَرّت هذه الأوضاع كثيرا من القبائل والمجموعات إلى الدخول فى أحلاف، أو تقديم مُداراةٍ مقابلَ كف اللصوص أيديَهم عنها، أو عن أتباعها وممتلكاتها. وليس هذا من باب المغارم التى كان يفرضها بنو حسان بالقوة على غيرهم. وإنما يدخل هذا القسم فى باب المداراة والمصالحة عن النفس والمال فى أرضٍ تُحَكِّم شريعة الغاب.
وسرعان ما برزت بشكل أوضح مما كانت عليه الحالُ قديما فئاتٌ اجتماعية مختلفة الوضعية تحْت مسمَّيات متقاربة: "الدّْخيلة، الزَّربة، الزريبة، الِعْيال، التّْلاميدْ، الَاصحاب، الحَيَّه..."، وسرعان ما ظهرت أيضا مصطلحات مثل: " الفداء، والقَبض" و"التَّدَارْبِيت"، و"الحرمة"، و"الغَيْبة فى التلاميدْ"...إلخ. ولا تزال هذه المفاهيم معلومة الدلالة فى مجتمعنا إلى الآن. كما أن مظاهرها ما تزال قائمة أيضا إلى حدّ ما.
وعلى سبيل المثال يمكننى القول هنا إن جدنا الشيخ سيدى الكبير وأبناءه فَدَوا على مدى قرن وأربعة عقود من الزمان أُسَرا ومجموعات وأفرادا من مختلِف شرائح المجتمع لا يعلم عددَهم إلا الله. كما أنهم استنقذوا كثيرا من المماليك من بَراثِن الجلّادين.
ولا يدخل فى هذا، بالطبع، العلماءُ وأعيان القبائل وطلبة العلم ومُحِبُّو الجوار و"المريدون" ونحوُهم. فهذا باب، وذاك آخر.
وقد سافر الشيخ سيدىَ الكبير وابنه الشيخ سيدى محمد وحفيداه الشيخ سيدى بابه والشيخ سيدى المختار، رحمهم الله تعلى، مرات كثيرة فى استنقاذ الأنفس والأموال إلى نواح عديدة من هذه البلاد.
وسنقتصر هنا على قصتين لهما دلالتهما.
أولاهما: أن الشيخ سيّدى محمدا سافر بأمر والده من ضواحى أبى تلميت إلى أن وصل إلى الساقية الحمراء، لاستخلاص إبل قوم من الزوايا، ومكث فى ذلك السفر عاما كاملا، وفى ذلك يقول:
أحمراء السواقى ما ورائـــــى؟--ألاَن غربت أيها الانتشائى
تخال نصيص فُتل العيس شهرا--يدوم من الصباح إلى المساء
ولا ينأى به ما كــــان دان --ولا يدنو به ما كان نــاء
وقد وصف تلك البلاد وبعضَ سكانها في أشعاره أثناء تلك الرحلة بأوصاف قاسية قد لا نوافقه عليها، وربما كان دافعه إلى ذلك بعد الشُّقّة، وطول مدة السفر، وغربته عن دياره ومرابع صباه، مع ملاحظة أنه كان شابا يومئذ، وأن أهل الشوكة أيضا لا يعدون عيبا أو تنقصا ما يُذكر عنهم من الغارات، لأنه من علامات القوة عندهم[10].
ومعلوم أن بعض المذكورين في هذا الشعر، كقبيلة أولاد الدليم النبلاء، ربطتهم علاقة وثيقة مع الشيخ سيدي الكبير وأسرته وكانوا، بقيادة أحد عظمائهم الزعيم الشهم الشيعه بن منصور، يتحملون له فرسا كل سنة. وقد مر عليهم الشيخ سيدي المختار (ابَّاهْ) بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ مقفَله من سفر كان ينوي فيه الحج، قاده إلى تلاميذ الأسرة من أبناء تيدرارين، فأعطوه أولاد الدليم إحدى خيل أمراء آدرار العتاق المعروفة باغْزَالاتْ، كانوا قد أخذوها بالقوة، ومر عليهم ببها في أطار في رسن غليظ من الليف، قصد به أحد التلاميذ، وهو أحمد بن النحرير، إغاظة المعنيين لعدم رضاه في ذلك الوقت عنهم، فلم يتعرضوا له بسوء رغم صعوبة تحمل الموقف منهم، فما كان من أهل آدرار إلا أن أرسلوا للشيخ سيدي بابَه طالبين منه استرجاعها، فطلبه لأخيه ونفذ مطلبهم. وكان هذا الأخير قد وهب لهم قبلُ حصانا نجيبا من جُرْد اكريكبات المعروفة، أهداها له محمد محمود بن أحمد زيدان الجكني[11].
الثانية: أن ابنه الشيخ سيدي المختار (ابَّاهْ)، سالف الذكر، سافر سفرا بعيدا لاستنقاذ ستة عشر طفلا من أهل انتيكان، كانوا قد سبتهم قبائل من العرب، وبذل مالا طائلا في ذلك.
وبَدَهيٌ أننا لا نقصد أن هذه الظواهر ـــ أعنى بروز الفئات والمفاهيم المذكورة قريبا ـــ وليدةُ هذين القرنين، بل أومأنا إلى أن لها امتدادا في الماضي، كما أننا لا نقصد بها التقسيم الطبقي التقليدي المعروف. وإنما نلحّ على استفحالها في الظرف المذكور، لا غير. كما أن الحروب التي طار شَرَرُها في هذين القرنين، وغطَّت كامل الرقعة الموريتانية تقريبا، لم يكن خوضها بِدْعا من الأمر، فقد شهدت القرون الخالية حروبا دامية وصراعاتٍ متعددةً، قد نشير إلى بعضها من باب التمثيل لاحقا إن شاء الله تعلى.
إن ظاهرة "الفداء" تعنى فكَّ الرقاب البريئة من أيدي جبابرة الصحراء، وتخليصَ المضطهَدين من نِير العُبودية والاستغلال والاحتقار، ورفعَ مكانتهم في المجتمع قدرَ الإمكان، ودَمْجَهم في وسط جديد يجدون فيه رَوحا من الإنسانية، ويشعُرون فيه بذواتهم، وبشيء من الكرامة. وتقوم مراسيم الفداء وأديباته عادة على: دفع مال لتسريح الرهينة، ونقله إلى بَرّ الأمان، إن لم يكن أفلت من الإسار واستجار بأحد الوجهاء، ودعوةِ جمع غفير من الزوايا وحسان لإشهادهم على الحدث، وتوثيقِه والتوقيعِ عليه من قِبَل الطرفين: المفتدِى والمعتدِى، حسما للنزاع. وتوجد بحوزتنا وفى مكتبتنا من ذلك وثائقُ تكاد تفوت العدّ.
لقد اتخذت ظاهرة السيبة إذنْ أشكالا متعددة، فمن غارات سلب ونهب، إلى حروب طاحنة منظَّمة طويلة النفَس لم تَكَد تسْلَم منها قبيلة ولا مجموعة فيما نعلم.
وقد ينظر شابّ غِرٌّ ممن نشأ في المدن وفتح عينيه على دولة قائمة، ولو على دَخَن، أو مكابرٌ جِلفٌ ممن شدا شيئا من الدرس والبحث، واسْتَهْوَته لُعَاعة الغرب واطّباه بريقُه الزائف، أو آخرُ شبْعانُ متكئٌ على أَريكته، أو دجّال مدلِّس يتجاهل الحقيقة، قد ينظرون إلى ما قلته هنا، فيقابلونه بالإنكار والاستغراب! ولو أنهم سألوا أهل الذكر، أو استنطقوا الوثائق والتاريخ القريب، أو تجرد المكابرون من الهوى، لأدركوا أن ما قلته قَطرة من بحر وذَرّة من رمل. واستباقا لما عساه يصدر من هؤلاء ونحوهم أسرد لك من تصوير جلة العلماء الذين عايشوا السيبة وبَلَوْها ما يقطع الخصام.
يقول الشيخ سيدىَ الكبير رحمه الله تعلى:
وذِهِ البُغَاةُ طَوَائِفًا سُدَّتْ بِهَا--طُرُقُ الرِّفاقِ غُدُوُّهُمْ وَرَوَاحُ
مَا رُفْقَةٌ تَلْقَاهُمُ إِلاَّ غَدَتْ--نَهْبًا وفِيَها مَقْتَلٌ وَجِرَاحُ
ويقول الهادى بن محمدى العلوىّ العالم والشاعر الخنذيذ المعروف، من الشعر العامي:
(مَذَ مِنْ وَخْشِ--فينا يتْمَشَّ
مَاهُ امْخَلِّ شِ--أُلاه امْخَلِّ شَ)!
مَذَ مِنْ عَلاّلْ--مَعْدُودْ افْلِعْيَالْ
إفكِلّ اَنَوَالْ--أسْرَ مِنْ حَنْشَ
ما خَلَّ سِرْوَالْ--أُلاَ خَلّ فَشّ)!
قال صاحب الوسيط في ترجمته له قبيل إنشاد هذا الشعر: "وكان الظلمة من قبائل حسّان يخافون من لسانه، لأنه كان يذكر قبائحهم في أزجاله فتحفَظها العامة، وكانوا يتأثرون منها أكثر مما لو كان نظمها بالشعر الحقيقي."(ص72). يعنى الشعر الفصيح[12]. انتهى كلامه؛ وقد أوردته أيضا بطوله لشدة ارتباطه بهذه الحلقة.
كثرة الحروب ودوامُها:
جاء في فتوى للعلامة صالح بن عبد و الوهاب حول الحياة السياسية والاجتماعية في عصره ما نصُّه: «لما كان العمد في هذا البلاد كالخطإ في كف القصاص وإلزام دية لعاقل قاتل العمد وإلزام أولياء المقتول عمدا قبولها لخوف الفتن لتعذر الحق لسيبة البلاد. ويتعين الصلح منها على ما تقرر، فكذلك يتعين الصلح على الهدر في الدماء والأموال لجامع العلة من سيبة البلاد.
وتعذر جريان العمل فيها لما هو مقتضى السياسة التي لا يجوز التعويل على غيرها في هذه البلاد السائبة. كما نص عليه الأئمة وبه جرى عملهم في الأحكام واستقر عليه الفتيا. وإذا كان العمل جرى بها بأن لا قسامةَ ولا قصاصَ ولا هدرَ ، فكذلك جرى فيها بعدم الرد لأموال المتناهبين، كما وقع بين إجمَّانْ وتجكانت،وبين الاغلال وتجكانت، وتجكانت فيما بينهم، وإجمان فيما بينهم، والاغلال فيما بينهم، وفيما وقع بين إجمان وأهل بورده ومن معهم، وبين أهل الطالب مصطفى وأهل أب رده ومن معهم، وبين أهل وادان وأهل شنقيطي، وأهل تيشيت فيما بينهم غير ما مرة، وبين شرفاء ولاتة وشرفاء النعمة، وفيما وقع بين تندغ وأولاد أبييري وبين إدوعلي وإداب لحسن، وبين كنته فيما بينهم، وفيما وقع بينهم وبين أهل سيدي محمود وغيرهم من العرب والزوايا»[13]
وجاء في رسالة الشيخ سيديَ بابَه المعروفة بـ"تاريخ إدوعيش ومشظوف"، ذِكْرُ نماذج من اقتتال الزوايا بينهم والسيبة التي كانت قائمة، مما لفظُه: «ومع هذا كله فلم يزل الزوايا يُبتـلوْن بفتن مُضـرّة بالدين والدنيا، من أعظمها الحروب الواقعة بينهم قديما وحديثا، كالحرب التي يذكرون[14] بين المجلس وتندغه التي قدم أجداد "تشمشه" البلاد وهي قائمة، وكالحرب التي وقعت بين تاجاكانت في قريتهم تينيكي من أرض آدرار. حدثني آفلواط بن محمد الجاكاني، وهو من أهل العلم والأدب، قبل هذا القرن بيسير أو بعده بيسير، وهو شيخ كُبَّار، أنها كانت على غاية من العمارة بالدين (...) ومنها حـرب بين تاجاكانـت والاغـلال. ومنها حرب تندغه الشرقيين وأولاد أبــيــيــري. ومنها حرب بين إيدغزينبو وتاكنانت. ومنها الحرب بين إيداواعلي "القبله" وإيدابلحسن في زمان محمد الحبيب بن أعمر بن المختار. ومنها حرب بين كنته وتاجاكنت في تكانت، دخلت بين أول حرب كنته وإيداوالحاج وآخرِها. ومنها حرب بين إيجيجبه وأولاد أبييري في صدر من هذا القرن. ومع إيجيجبه أهل أحمدّو بن سيدي اعلي ومن تبعهم من البراكنة، ومع أولاد أبييــري أولا أحمد وبعض أولاد دمان في بعض الأيام... وجل الترارزة وأميرهم أحمد سالم بن اعلي ساعون في الإصلاح بين الطائفيين لكن على ما أحب أولاد أبييري. ثم لم تنته تلك الحرب حقيقة إلا بمجيء الفرانسة، إلى غير هذا من الحروب الواقعة بين الزوايا مما يتعذر إحصاؤه إجمالاً ولا سيما تفاصيله. وأما أمر "شرببّه" وأمر أولاد أبــيــيـــري وأولاد أبي السباع ونحوها فنوع آخر من الحرب». انتهى كلامه مختصرا[15].
هذا عن حروب الزوايا، أما أهل الشوكة فحروبهم أكثر من أن تُعد أو تُحصى، وقد انتشر فيها قتل الأخ لأخيه، فضلا عن الأقارب الآخرين، فضلا عن الأباعد.
يقول صاحب الوسيط: "إن الحرب فى حسان، أصل معهود بينهم، فتراهم مرة يحارب أحد أقسامهم المتقدمة بعضا، كما وقع بين إدوعيش والترارزة، وبين أحيا من عثمان وإدوعيش، وبين الترارزة والبراكنة، وبين البراكنة وإدوعيش. وقد ينقسم الجنس الواحد منهم إلى قسمين، فيتحارب مع بعضه، كما وقع بين إدوعيش، حيث انقسموا قسمين، وكما وقع بين قبيلتين من قسميهم السابقين كما وقع بين أبناء طلحه واندايات، وغير ذلك من قبائلهم.[16].
وما لم يذكره ابنُ الأمين كثير ومعروف. وقد جاء في كتاب "حوادث السنين" للعلامة المؤرخ المختار بن حامد ومصادره التى استقى منها كثير من ذلك. والأمر أكثر من أن يُحصر وأشهر من أن يُذكر.
وتعقيبا على الحروب التي كثرت في هذه البلاد، يقول الشيخ سيدىَ بابه: «والسبب في الحروب الواقعة بين الزوايا قديما وحديثاً سيبة البلاد وعدم اعتناء من فيها من أهل الشوكة وغيرهم باتباع القرآن المجيد في قوله:﴿ وَإِنْ طَآئِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ﴾الآيةَ
ويقول: " كما أن الزوايا لو صاحبهم التوفيق لما كان بينهم من الحروب ما كان، إذ لا مملكة يتجاذبونها ولا منفعة يحاولونها، وعندهم آية﴿ وَمَن يَقتُل مُؤمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا﴾ يتلونها. وقد أخرج الشيخان عن أبى بكرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، فقلت أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد قتل صاحبه." لكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله»[17].
معاناة الدين وأهله من السيبة:
لقد كا ن الشيخ سيديَ بابَه، كغيره من علماء البلاد، شديد التأثر بما يعانيه العلم والدين وأهلهما، مذكرا بمكانة الزوايا ودورهم في نشر العلم والدين والعمل بهما معا، مع التنويه بما كان يختص به أكابر الأمراء ونبلاء أهل الشوكة من حماية الزوايا وتقديرهم، حيث يقول: «والزوايا، وإن كانوا محتاجين إلى مزيد من الاستقامة ولا سيما في هذه الأزمنة، فهم مع ذلك حمَلة العلم والدين في هذه البلاد قاطبة قديما وحديثا، لا تنازعهم في ذلك طائفة من طوائفها ولا تقاربهم. والأمر في ذلك أظهر من أن يُظهر وأشهر من أن يُشهر والعيان فيه مغنٍ عن الخبر... والعرب وإن كانت إليهم المملكة والشوكة، فللزوايا المناصب الشرعية كالإمامة العظمى التي اتفق عليها العرب والزوايا قبل "شرببّه" لــناصر الدين، وكإمامة الصلاة والقضاء وتعليم العلم والشهادة والتبرك واللّجإ عند الشدائد... والزوايا عند العرب أكفاء؛ والزوايا لا يريدون لذلك من العرب إلا من تاب وحسُنت حاله».
ثم يخلُص إلى وصف أفاضل حسان وأهل الشوكة وكيف كانت علاقتهم بالزوايا، قائلا: «وأفاضل العرب يجعلون أفاضل الزوايا شيوخا لهم ويقلدونهم في أمورهم يرجون بذلك صلاح أمورهم في العاجل والآجل، ولا يستنكفون منه، بل يرونه فخراً لهم وأجراً وذكرا؛ وقد شاهدوا بركات ذلك وجنوا ثمرات ما هنالك»[18].
وفي ذلك يقول والده الشيخ سيدى محمد بن الشيخ سيديَ في وصف الزوايا عندما يرون جماعة من الأجلاف الظلمة منحملة السلاح الشُّعث الغُبُر:
فَبَيْنَا الحَيُّ خَيَّمَ ذَا طَلاَلٍ--تَبَوَّأَ مِنْ فَسِيحِ اْلأَرْضِ دَارَا
بِسَاحَتِهِ مَحَافِلُ حَافِلاَتٌ--بِأَشْيَاخٍ مُهَذَّبَةٍ طَهَارَى
وَكُلِّ فَتًى يَجُرُّ الذَّيْلَ تِيهًا--وَتَفْتَرُّ الْمِلاَحُ لَهُ افْتِرَارَا
إِلَى نَسَبٍ لَهُمْ بَلَغُوا ادِّعَاءً--بِهِ أَذْوَاءَ حِمْيَرَ أَوْ نِزَارَا
إِلَى أَنْ يُبْصِرُوا شُعْثًا كَسَاهُمْ--لِبَاسُ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ اغْبِرارَا
رِعَاءَ الشَّاءِ حَقًّا مَنْ رَآهُمْ--يَقُولُ هُمُ الرِّعَاءُ وَمَا تَمَارَى
هُنَالِكَ لا تَرى شَيْئًا نفيسًا--وَلاَ مُسْتَحْسَنًا إِلاَّ مُوَارَى
وَلَمْ يَكُ قدر لَمْحُ الطَّرْفِ إِلاَّ--وَقّْدْ سَلَبُوا الْعِمَامَةَ وَالْخِمَارَا
أَجِدَّكُمُ بِذَا يَرْضَى كَرِيمٌ؟ --وَهَلْ حُرٌّ يُطِيقُ لَهُ اصْطِبَارَا؟
ويقول أيضا:
وتَرَى جَمَاعَةَ مُسْلِمِينَ بِمَسْجِدٍ-- شُمَّ الأُنُوفِ أَعِزَّةَ الآباء
وُقُرًا كَأَنَّ الطَّيْرَ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ-- هِمَّاتُهُمْ في النَّجْمِ وَالْجَوْزَاءِ
وإذا تقول لبعضهم: لِم؟ كادَ أن—يَرْمِيكَ بِالنَّسْرَيْنِ والعَوَّاءِ
فَتَخالُ أنَّ الضَّيْمَ فِى أَكْنَافِهِمْ-- مُسْتوْدَعٌ مُسْتَوْدَعَ الْعَنْقَاءِ
حَتَّى إِذَا نَظَرُوا إِلَى مُتَقَلِّصٍ-- أَهْدَامُهُ ذِى وَفْرَةٍ شَعْثَاءِ
وَلَدَتْهُ أُمٌّ بِئسَمَا جَاءَتْ بِهِ-- وَأُبَيُّهُ رَاعٍ وَنَجْلُ رِعَاءِ
قَامُوا إِلَيْهِ مُبَادِرِينَ كَأَنَّمَا-- قَامُوا لِبَعْضِ أَجِلَّةِ الأُمَرَاءِ
وَإِذَا أَشَارَ إِلَيْهِمُ بِمُعَلَّبٍ-- مُتَضَمِّخٍ بِالرَّيْنِ وَالأَصْدَاءِ
أَعْمَى الزِّنَادِ، جِعَابُهُ قَدْ شُقِّقَتْ-- غَلَقَ الْعَنَاكِبُ جَوْفَهُ بِبِنَاءِ
طَفِقُوا يُثِيرُونَ الْعَجَاجَ كَأَنَّمَا-- أَغْرَيْتَ قَسْوَرَةً بِسِرْبِ ظِبَاءِ
فَلَدَى الْقَوِىّ هُمُ ذِئَابُ مَفَازَةٍ-- وَلَدَى الضَّعِيفِ هُمُ أُسُودُ كَرَاءِ
هَيْهَاتَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ-- وَصِحَابِهِ وَقُفَاتِهِ الْكُرَمَاءِ!
لَمْ تُمْسِكُوا مِنْ دِينِهِمْ إِلاَّ الْقَوَا-- عِدَ خَمْسَهَا مَدْوُوفَةً بِرِيَاءِ
وَلَرُبَّمَا مَنَعُوكُمُوهَا عَنْوَةً—حَتَّى افْتَدَيْتُمْ مِنْهُمُ بِفِدَاءِ
وكذلك كان ابنه الشيخ سيديَ بابَه، وغيره من علماء البلاد، شديد التأثر بما يعانيه الزوايا، مذكرا بمكانتهم ودورهم في نشر العلم والدين والعمل بهما، حيث يقول: «والزوايا، وإن كانوا محتاجين إلى مزيد من الاستقامة ولا سيما في هذه الأزمنة، فهم مع ذلك حمَلة العلم والدين في هذه البلاد قاطبة قديما وحديثا، لا تنازعهم في ذلك طائفة من طوائفها ولا تقاربهم. والأمر في ذلك أظهر من أن يُظهر وأشهر من أن يُشهر والعيان فيه مغنٍ عن الخبر... والعرب وإن كانت إليهم المملكة والشوكة، فللزوايا المناصب الشرعية كالإمامة العظمى التي اتفق عليها العرب والزوايا قبل "شرببّه" لــناصر الدين، وكإمامة الصلاة والقضاء وتعليم العلم والشهادة والتبرك واللّجإ عند الشدائد... والزوايا عند العرب أكفاء؛ والزوايا لا يريدون لذلك من العرب إلا من تاب وحسُنت حاله».
ثم يخلُص إلى وصف أفاضل حسان وأهل الشوكة وكيف كانت علاقتهم بالزوايا، قائلا: «وأفاضل العرب يجعلون أفاضل الزوايا شيوخا لهم ويقلدونهم في أمورهم يرجون بذلك صلاح أمورهم في العاجل والآجل، ولا يستنكفون منه، بل يرونه فخراً لهم وأجراً وذكرا؛ وقد شاهدوا بركات ذلك وجنوا ثمرات ما هنالك»[19].
خاتمة:
ومع تفشي مظاهر الخوف والرُّعب، وتتابُعِ إخفاق كل محاولة رامية إلى تأسيس إمارة إسلامية أو أي سلطة عادلة أخرى، وبقاءِ الأرض سائبةً كما كانت أو أشدّ، ومع سيطرة الأوروبيين على كبريات وصُغريات الحواضر الإسلامية والإفريقية الأخرى، وبداياتِ دخولِ الفرنسيين إلى البلاد، رأى بعضُ العلماء مِنْ حَمَلَة هَمِّ السلطة المركزية وبناء الدولة، أن الفرصة مناسبة لإحياء الفكرة من جديد والعملِ من أجل تطبيقها على أرض الواقع، متخذين، من باب الاضطرار وارتكاب أخف الضررين، من المستعمر بديلا مؤقتا للسلطة المنشودة، ومستعينين بهذه القوة الأجنبية المخالفة في الدين، التى لا مفر منها ولا بديل عنها، ولا سبيلَ إلى صَدِّها عن هذا الطَّرَف الضعيف والممزَّق من بلاد الإسلام.
لقد جاء في رسالة الشيخ سيديَ بابَه الموجَّهة إلى زوايا المنطقة بشأن مهادنة المستعمر ومصالحته على ما يعرضون من حفظ الأنفس والأعراض والأموال ما نصُّه: «ومن المعلوم شِدّةُ الحاجة إلى ذلك، فلعل الله أرسلهم رحمة بعباده ولُطفا، بهم فهو أهلٌ لذلك والمرجو لما هنالك»، ليبدأ بعد ذلك في بسط وتأصيل الأدلة الشرعية المتعلقة بالموضوع، مما سيأتي ذكره مفصلا في الحلقات المقبلة إن شاء الله.
(يتتابع إن شاء الله).
[1]- د. إزيد بيه بن محمد محمود، "الشيخ سيديَ بابَه.. الوزنُ الاجتماعي والسياسيُّ وهَمُّ السلطة المركزية"، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص 188.
[2]- د. محمد الحسن ولد اعبيدي، النزعة الاجتهادية في الفتاوى الموريتانية في القرنين 13 و14، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية، جامعة الزيتونة، 2003-2004، ص 242.
[3]- د. جمال ولد الحسن، حركة الإمام ناصر الدين، حوليات كلية الآداب، جامعة نُواكشوط، ع1، 1989-1990م، ص5. وم. م. ولد السعد، حرب شرببة وأزمة القرن 17 في الجنوب الغربي الموريتاني، م.م,ب.ع، 1994م، ص 84.
[4]- نسخة أصلية في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.
[5]- د. حماه الله ولد السالم، تاريخ بلاد شنكيطي (موريتانيا) من العصور القديمة إلى حرب شرببه الكبرى، دار الكتب العربية، بيروت - لبنان، ط1، 2010،ص 324.
[6]- البيتان من همزية الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المشهورة: مزج الدموع بمسبَلات دماء؛ واللذان سبقاهما من رائيته المشهورة التي أولها: رويدك إنني شبهت دارا.
[7]- الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ، المصدر السابق نفسُه. والبيتان للشيخ سيديَ بابَه، من قصيدة يثني فيها على المتكسِّبين من صناعتهم وحِرفتهم وعَرَق جبينهم، ويُعرّض بمن يأكل الدنيا بالدين وحِيل الخداع.
[8]- الحلقة الرابعة بعنوان: "لعبة المغفلين" من سلسلته المنشورة سنة 2007، تحت عنوان: "تفاديا للعار".
[9]- الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ، المصدر السابق نفسُه.
[10]- يحوي ديوان الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ، كغيره من الشعراء، أبياتا وقصائد مما يعرف بـ "الإخوانيات"؛ وهو نوع من الشعر يراد به اللهو وممازحة الحاضرين والتنكيت، بعيدا عن الحفظ والتصدير، ناهيك عن التدوين... إلا أن كثيرا من الناس لا يفهم ذلك، وإنما يحفظ كل شطر تفوه به ذلك الشاعر، بغض النظر عن مضمونه وقيمته. وقد شوهد بعضُ الناس يستغل هذه الأشعار للتحريش بين القائل والمعنيين وتعكير العلاقات المحترمة والوطيدة بين الوسطين الاجتماعيين المذكورين! كتبه صاحب المقال.
[11]- القصص موثقة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت، بالوثائق الأصلية وكتابات المعنيين والشهود.
[12]- الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ، المصدر السابق نفسُه.
[13]- أورد هذه الفتوى الدكتورُ حماه الله ولد السالم، في ملاحق كتابه تاريخ بلاد شنكيطي (موريتانيا) من العصور القديمة إلى حرب شرببه الكبرى، دار الكتب العربية، بيروت - لبنان، ط1، 2010، ص 339، دون ذكر لاسم صاحب الفتوى، وأورد الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام طرفا من الفتوى معزوا لصاحبه، في محاضرة له بعنوان: "مكانة المقاصد الشرعية في الفتوى المورتانية" منشورة على الموقع الالكتروني لمنتدى الفكر الإسلامي: fpidc.org.
[14]- يقول الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدى: "انظر الصيغة التى ذكر بها الحرب بين المجلس وتندغة، فإنها ليست صيغة جزم، وذلك من دقته، رحمه الله تعلى، بخلاف ما بعدها من الحروب، وذلك لاضطراب المؤرخين فى الأمر. ولعل الأقرب، والله أعلم، أنها كانت بين بطون المجلس أنفسهم.
[15]- د. عبد الله سليمان الشيخ سيديا، ت "رسالة في أخبار البلاد البضانية الصحراوية المغربية" (إمارتا إداوعيش ومشظوف)، الشيخ سيديَ بابَه بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ، ط1، 1435هـ-2014م، د الكتب، الكويت،2014. ص 114.