أنا أيضا لا ينقضي عجبي! / محمدو ولد البخاري عابدين

نعم، لا ينقضي عجبي، ليس مما لم ينقض منه عجب القيادي في اتحاد قوى التقدم محمدو الناجي حول حلقات برنامج " الصفحة الأخيرة " مع المصطفى ولد بدر الدين، وما أثارته من أقوال وردود أقوال، لم تثر لدي من العجب ما أثارته عند الآخرين، بقدرما أثارت في الأمل في دور مثل هذه البرامج 

الصريحة في ترويضنا على معالجة أمور أخرى اجتماعية وثقافية تخصنا، وبحاجة هي الأخرى لنقاش وطرح حيادي صريح، يخترق ما يحيط بها من هالات المحاباة والمجاملات والتلبيس والتقديس.. وسأتطرق لتلك الأمور، لكن في كلام آخر وليس الآن. 
ما لا ينقضي منه عجبي هو ردود لرئيس حزب " تواصل " محمد جميل منصور في مقابلة مع صحيفة " العربي الجديد " يقول فيها الرئيس للصحيفة ردا على سؤال حول التذبذب في مواقف الحزب بين الراديكالية والليونة ـ الذي يبدو أن القاصي يدركه قبل الداني ـ إنه يعتقد أن المواقف السياسية ليست كالمبادئ، والحقيقة أننا هنا لسنا في وارد خوض مباراة مع ولد منصور وغيره من ألسنة " أحوال " هذا الحزب في التوقف عند الألفاظ والعبارات وتأويلاتها وتفسيراتها، لعلمنا المسبق بالهزيمة أمام من يمتلك براعة فائقة في سبك المبادئ وصبها في قوالب المواقف السياسية إذا باغتت الحاجة لمواقف سياسية، وإعادة سبكها من جديد وصبها في قالب المبادئ، إذا تم التذكر أو التذكير أنه كانت هناك في وقت ما مبادئ.. وكل ذلك بجرأة وشطارة، وإن لم يكن ببراعة الساحر الذي يحول لك قطعة قماش إلى حمامة ترفرف بجناحيها، لكن بعد أن يخفي عنك قطعة القماش في صندوق.. فعمل الجماعة على المبادئ والمواقف السياسية يتم على مسامعك وأمام ناظرك وبين يديك!
يقول الرئيس في رده على نفس السؤال إن حزبه في جوهره وسلوكه العام ليس حزبا راديكاليا، وأنه يفضل العمل السياسي الهادئ، لكنه " يطرح أبلد " لحقيقة كونه والصحيفة وحدهما في غرفة مغلقة، هو لمجرد دقائق خاطفة، وأن ما سيقوله سيتم نشره وسيقع بين يدي آخرين لديهم أحكام ليست مطابقة لحكمه على حزبه، استقوها لا من جلسة لدقائق الثبات على المبادئ خلالها سهل كشرب الماء العذب.. وإنما من مسيرة سنوات طبعها الكثير من التذبذب، وشدت خلالها المصلحة الحزبية والشخصية أحيانا وثاق وعصبت عيني المبادئ، فيحاول استباق أسئلة في الأفق ويقول إنه في بعض الأحيان تجتمع ظروف تخرج الحزب عن مسار العمل السياسي الهادئ مؤقتا في لغته وموقفه وأحيانا في تحالفاته السياسية كما حصل ـ يقول ـ بعد انطلاق الربيع في المنطقة واشتداد الاستبداد والأحادية، ولذلك " أنخرط "  مع أحزاب أخرى فيما يسمى مرحلة " الرحيل " والدعوة إليه فبدا وكأنه راديكالي وثوري! وهذه مغالطة يدرك الرئيس أن الجميع عاثرون عليها في كلامه لا محالة، لكنه " إغمظ ويسف " ويقول إنه انخرط مع أحزاب أخرى في مسار الرحيل والدعوة إليه، في حين أن الجميع يعلم ـ إذا كانت صحيفة العربي الجديد لا تعلم ـ أن الأحزاب الأخرى التي يعنيها ولد منصور هي من انخرط مع " تواصل " في مرحلة الرحيل والدعوة إليه، إذ لم تكن تحركاتها في البدء سوى دعم لتحركات ما عرف ب " 25 فبراير " المطالبة بإصلاحات، أما شعار الثورة فلم يدخل على الخط إلا بعد سقوط النظامين التونسي والمصري، وشغل " الإسلاميين " للمشهدين الميداني والإعلامي هناك.. وقد صرح بعض قادة تلك الأحزاب أنهم لم يكونوا مقتنعين في البداية بذلك المسار وإنما تم جرهم إليه جرا، ولم يتحاشوا من مواصفات من جرهم إليه سوى اسمه، وذلك بعد أن انخرط عنهم في مسار الانتخابات!
ليس العمل السياسي الهادئ إذن هو الخط الثابت للحزب، وإنما هو حزب سياسي هادئ في الصيف، راديكالي ثوري في " الربيع " وما يحدد ذلك ليس المبادئ وإنما الظروف، والراديكالية والعمل السياسي الهادئ للأحزاب كما نفهمهما يتحددان من خلال الخطاب والسلوك، ولا حاجة بنا للعودة للشعارات والنظم الداخلية التي تبقى على المكتب أو في الدرج، كلما خرج أصحابها إلى الشارع بشعارات ونظم داخلية أو " خارجية " أخرى.. كما أن الأحزاب غير الراديكالية بالنسبة لنا هي تلك الأحزاب التي غمزوا هم في معارضتها ووصفوها بالمهادنة، والتي برهنت على أن نهجها الهادئ ينبني على المبادئ، و يترجمه السلوك.. فرفضت الذهاب في ذلك المسار التدميري، لا عجزا منها عن السير فيه، فقد سار فيه ذوو عجز وعرج بينين، وإنما تقديرا من قادتها لخطورته والصبر حتى يفتح الله لها السبل التي توصلها إلى التغيير الذي تؤمن به وتطمئن لآثاره ونتائجه.. باعتبارهم ليسوا جيشا ولا مليشيات ولا ثوارا كما قالوا، وإنما هم سياسيون يقتصر نشاطهم على العمل السياسي فحسب.
يهتم ولد منصور أيضا بضرورة مراجعة " الإسلاميين " لما حدث، وأن يمتلكوا الشجاعة الكافية لاستخلاص الدروس والانطلاق من جديد، لكنه يراجع ما حدث، ويستخلص الدروس، وينطلق من جديد، لكن بدون أن يمتلك الشجاعة و يعترف أنه كان يعتقد أن الثورة في موريتانيا لا تحتاج إلا لمن ينادي بها لتشتعل، لكنه بعد أن خاض غمارها اكتشف أن ذلك غير صحيح، لأن " قدم رأيه " الذي يرى من خلاله أن الثورة حالة شعبية لا يمكن أن يصنعها حزب ولا يمكن أن يقف في وجهها نظام، يتناقض كليا مع محاولته لصنعها كحزب، واستخدامه لكل الوسائل والأساليب في سبيل صنعها، فعلى الأرض جيش اتحاده الطلابي الذي يملكه، ونقابة التعليم التي يوجهها لشل الدراسة في الجامعة والمعهد العالي والإعداديات، والاعتداء على الأساتذة والمدرسين في فصل من الفصول الراديكالية للحزب السلمي الهادئ المسؤول..!
وفي السماء حلق إلى الدوحة ضيفا على قناة الجزيرة في برنامج " في العمق " فسأله على الظفيري لماذا تتحمسون لإشعال ثورة في موريتانيا رغم حداثة نظامها في السلطة، والحريات التي منحها والإصلاحات التي يباشرها، ورغم وزنكم غير الكبير في الساحة؟ فأجابه بإن النظام يصنع أسباب الثورة عليه بنفسه، وقد قلنا له يومها أن ما دام الأمر كذلك، فبإمكانه الاتكاء على أريكة مريحة في بيته، وتناول طعام فطوره على مهل ريثما تطرق عليه الثورة بابه، لأن " ألي اجبر شواي ما ينحركو أيديه " أليس كذلك؟! هو كذلك، لكن يأبى عنه أن من يريد قطف ثمار الثورة لا بد له أن يكون غير بعيد.. وفي هذا المضمار، وبين الأرض والسماء، بالطابق العلوي لفندق شنقيط ابلاس دعا رئيس الحزب منفردا عن بقية " الثائرين " الصحافة للقاء وقال لهم إن حزبه جاهز وقادر على قيادة البلاد بعد سقوط النظام! قالوا له وإذا لم يسقط النظام؟ فقال لهم إن ذلك أمر قد قضي، وليجهزوا أنفسكم للتعامل مع الوضع الجديد، استفسروه عن دور ومكانة شركاء " الثورة " الآخرين، فقال لهم ما معناه أنهم ( الحزب ) هم السابقون.. تتذكرون ذلك اللقاء يا صحافة؟!
يحدث هذا كله ورئيس الحزب كان على " رأي قديم " أن الثورة حالة شعبية لا يمكن أن يصنعها حزب ولا يمكن أن يقف في وجهها نظام، و على قناعة أن الحالة الموريتانية لا تجتمع فيها شروط الثورة، قناعة نحن متأكدون أنه كان عليها قبل خوضه غمار الثورة، والمساعدة هنا مطلوبة في حل هذه النازلة، فقد قرأنا مؤخرا أن العلماء قد توصلوا إلى حل لإشكالية البيضة والديك أيهما كان الأول، إذا كان ذلك سيساعد في حل إشكالية " قناعة " الرئيس و" ورأيه القديم " أيهما كان الأول أيضا! وذلك في انتظار من يتوصل لحل الإشكال الآخر الذي لا يزال قائما، والمتمثل في كون النظام اليوم فاسد أحادي مستبد كما قال الرئيس للصحيفة، وهذه قطعا هي صفات الحكام الذين ثارت عليهم شعوبهم، ومع ذلك لا زالت الحالة الموريتانية لا تجتمع فيها شروط الثورة!
لم يقع العرب  في حشو الكلام عندما قالوا إن الكلام إذا كان فضة يكون السكوت ذهبا.. لم يكن ذلك حشو كلام في تلك العصور حيث لا آلات تسجيل ولا تصوير حتى لو كانت بدائية، فما بالك اليوم وأجهزة التسجيل والتصوير توثق تصريحاتك وحركاتك وسكناتك رغما عنك؟! وعليه فإنه كلما اقتصدنا في التصريحات والمقابلات، كلما أبقى ذلك بعضا من تناقضاتنا في صدورنا أو تحت ثيابنا، والوصية هنا للجميع، إذ ليس قادة تواصل وحدهم المتناقضون، لكن كثرة حديثهم عن المبادئ، وتعدد وتلاحق خرجاتهم، وعشقهم للأضواء والمنابر والكاميرات، واستخدامهم المفرط لسلاح الإعلام يجعلهم يبدون وكأنهم الأكثر تناقضا، تماما مثلما جعلهم " الانخراط " في مسار الرحيل والدعوة إلية يبدون وكأنهم راديكاليون وثوريون.. فلسنا نحن إذن من جعلهم متناقضون أو راديكاليون أو ثوريون، وإنما أقوالهم وتصرفاتهم!
كنا نقول إن الحالة الموريتانية لا تجتمع فيها شروط الحالة الثورية، ولا أعرف هل تولدت لدينا تلك القناعة قبل أو بعد قناعة ولد منصور، لكنهم كانوا يقولون لا، غير صحيح فكل مشاكل الكون، وكافة شروط الثورة ومسوغاتها من كوريا الشمالية وزيمبابوي ومانيمار، وصولا إلى بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا متوافرة في موريتانيا وزيادة! كنا نقول إن الوضع في موريتانيا يختلف، لكننا لم نكن نقول ذلك ونسكت، بل كنا نقدم ما نرى أنه تجسيد لتلك الخصوصية وذلك الاختلاف، وسنذكر به الآن، وصححوا لنا منه ما هو غير صحيح:
رئيس عمره في السلطة سنتين أو ثلاث، وسجون خالية من المعارضين والحقوقيين وأصحاب الرأي، وحريات مفتوحة على مصراعيها دون حاجب ولا بواب، ومعارضون يشتمون ويسبون ويبصقون على سياسات النظام، لا من المنافي القسرية، بل على أثير وسائط الإعلام المحلية المكتوب منها والمشاهد والمسموع، وفي الهواء الطلق من خلال المسيرات والمهرجانات، وقنوات تواصل واتصال ميداني بين القيادة والطبقات القاعدية لهرم المجتمع، والمنصفون يرون ويلمسون إصلاحات معكوف عليها حسب الأولويات والمقدرات والإمكانيات.. ويتفاوتون في تقييمها حسب إدراكهم لحجم التحديات والمعوقات الذاتية، وتبعا لوعيهم بحقيقة من أين نحن قادمون، خصوصا أن ذلك كله لم يكن تنازلات في خضم ثورة، بل كان عن إرادة ورؤية سبقتا " الربيع " بل وفصولا عديدة أخرى قبله، فيقولون إن ذلك كله غير صحيح، ولن يجدي في تثبيط عزائم " الثائرين " أو في الوقوف أمام أمواجهم الهادرة وأقدامهم الساحقة!
كنا واثقين أن لا عاقل في موريتانيا سيبادل قدميه في سبيل ثورة سيلعن أبا وأم من حرضوه وقادوه إليها، عندما يبدؤوا تصفية الحسابات فيما بينهم مفترشين مآسيه وآلامه، وكنا ـ ولا زلنا ـ نحمد الله ونثني عليه على أن جنب بلادنا ما يسمونه الربيع العربي، ونسميه النكبة العربية الأكبر في التاريخ، وما سببته من ضياع ومآس وتمزيق وتفتيت، وفناء عبثي يتساوى فيه الموت بدم بارد والموت بآخر ساخن، لا أحد يعرف لماذا مات ولا في سبيل ماذا مات! كنا ولا نزال نحمد الله على أن أحداث بلدنا اليوم ليست مادة إعلامية معتادة ومبتذلة على شاشات الفضائيات، عناوينها سيطر وفجر وهجر ودمر ونزح وذبح وقصف وأختطف ..! وكانوا ـ ولا زالوا ـ يأسفون ويتحسرون على ضياع ما كانوا يرونه فرصة لتحقيق نزوات بتدمير بلد ومحوه من على خريطة العالم، فحمدا لله دائما على أننا بيده لا بيد غيره، إذ تقول الحكايات إن الذي يساعد الغزال على الرعي طوال اليوم رغم وجود القناصة والأسود والضباع والنمور هو " توحيده " فكلما شك في خطر ورفع رأسه عاد للرعي وهو يقول " لو كان حد بيد حد ما يبك حد " 

20. ديسمبر 2014 - 13:28

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا