إن المتأمل في حال أسعار المحروقات في هذا البلد لابد وأن يخرج باستنتاجين اثنين: أولهما أننا أمام حكومة بارعة في التحايل والخداع، وليس في قلبها، إن كان لها قلب، مثقال ذرة من شفقة. أما ثانيهما فهو أننا أمام شعب قد تعود على الاستكانة والإذلال، وقد بلغ به اليأس والإحباط مبلغا عظيما،
وذلك لدرجة أنه أصبح يتصرف وكأنه لا يستحق حكومة غير هذه الحكومة القاسية القلب، والبارعة في التحايل والخداع.
وقديما قالت العرب : "وافق شن طبقة"، ولمن لا يعرف قصة شن وطبقة، فإليكموها، ولكن بنسختها وبأبطالها الموريتانيين، فطبقة في النسخة الموريتانية تعني الشعب، أما شن فهو يمثل كل الرؤساء الموريتانيين، حتى وإن كنا في هذا المقال سنكتفي بشن الست العجاف الأخيرة.
دعونا نبدأ الحكاية من أولها، ودعونا نبدؤها من فجر السادس من أغسطس من العام 2008 يوم قاد شنُّ الست العجاف انقلابا، ويوم أحس بأنه لابد وأن يكسب ود طبقة لتشريع انقلابه. لم يبدأ التعارف بين شن وطبقة بقصة حب، ولا بزواج شرعي، وإنما بدأ بانقلاب وانتهى بخداع واحتيال، كان بطله شن، وكانت ضحيته المسكينة طبقة، والتي يبدو أن حظها مع الرجال كان سيئا، والمصيبة أن المسكينة طبقة كلما خرجت من تجربة "زواج" فاشلة، دخلت في تجربة أخرى أكثر فشلا.
واليوم تعيش المسكينة طبقة أسوأ أيامها مع الرجال، وإليكم الدليل، وإن كنا سنكتفي هنا بعنوان واحد من عناوين بؤس المسكينة طبقة، وهو العنوان المتعلق بارتفاع أسعار المحروقات السائلة.
بدأت حكاية أسعار المحروقات السائلة في يوم 20 ـ 10 ـ 2008، ففي ذلك اليوم أعلن شن عن تخفيض هام في أسعار المحروقات:51 أوقية بالنسبة للبنزين، و 36 أوقية بالنسبة للمازوت.
وبعد ذلك بأربعة أشهر، وتحديدا في يوم 19 ـ 02 ـ 2009، أعلن عن تخفيض لأسعار المحروقات للمرة الثانية، فانخفض سعر لتر البنزين ب13 أوقية، وانخفض لتر المازوت ب21 أوقية.
وبعد ذلك بشهرين أعلن عن تخفيض ثالث، وكان ذلك في يوم 12 ـ04 ـ 2009، فانخفض سعر لتر البنزين ب 20 أوقية، وهو نفس المبلغ الذي انخفض به سعر لتر المازوت.
في تلك الفترة لم تكن علاقة شن بطبقة علاقة شرعية، ولذلك فإن شن كان على استعداد لأن يفعل أي شيء من أجل أن ترضى عنه طبقة، وهو ما جعله يعلن عن تلك التخفيضات المتتالية من أجل كسب ودها، حتى وإن كانت تلك التخفيضات لا تتناسب في مجموعها مع مستوى الانخفاض الحاد في أسعار النفط في الأسواق العالمية. لقد كان الحظ لصالح شن في تلك الفترة، ففي شهر من قبل انقلاب السادس من أغسطس، وتحديدا في يوم 11 يوليو وصل سعر النفط في الأسواق العالمية إلى مستوى قياسي: 147 دولارا للبرميل (هذا هو أعلى سعر يصل إليه النفط في كل تاريخه، وذلك منذ أن أصبح سلعة تباع وتشترى)، ولكن هذا السعر سينخفض كثيرا بعد الانقلاب، فسينخفض بعد شهر واحد من الانقلاب ليصل إلى 100 دولار، وسيواصل الانخفاض ليصل في شهر يناير 2009، أي خمسة أشهر بعد الانقلاب، إلى 33 دولارا فقط (هذا هو أدنى سعر يسجله النفط في القرن الحالي).
لقد تراجع سعر برميل النفط في الأشهر الخمسة الأولى التي أعقبت انقلاب السادس من أغسطس بما يزيد على 77% من سعره قبل الانقلاب، أي ب114 دولارا، ولم يحدث أن انخفض النفط بمثل هذا المبلغ في كل تاريخ تذبذب أسعاره.
والحقيقة أن حظ شن لم يتوقف عند هذا الحد، بل إن الحظ حالفه في أمور أخرى، منها أن سعر الذهب سيرتفع كثيرا، ومنها أن سعر الحديد تضاعف عدة مرات، وسيحصل شن بذلك على مال وفير، لم يحصل عليه شن آخر من قبله، ولو أن شننا هذا أحسن تسيير هذا المال الوفير، ولو أنه أنفق شيئا قليلا منه على طبقة لألبسها حريرا وذهبا، ولجعل منها أغنى سيدة في المنطقة، ولكنه، وهذه هي المصيبة الكبرى لم يكتف بحرمان طبقة من ذلك المال الوفير الذي حصل عليه، وإنما ظل يسرقها هو وأصحابه "الصعاليك" إلى أن جعلوا منها، وكما فعل إخوة لهم من قبل، السيدة الأكثر فقرا والأكثر بؤسا في المنطقة.
لقد كانت كل تلك التخفيضات التي قام بها شن لأسعار المحروقات إنما هي عملية تحايل لخداع طبقة، والدليل على ذلك هو أن شن أوقف فورا تلك التخفيضات بعد تشريع انقلابه، أو بعد تشريع زواجه إذا شئتم، بل إنه بدأ في سلسلة من الزيادات مباشرة بعد تنصيبه كرئيس منتخب، فأعلن عن زيادة في سعر المحروقات من قبل أن يكمل شهره الثالث من مأموريته الأولى، وكانت الزيادة على النحو التالي: 13 أوقية للبنزين، و4 أواق للمازوت، وكانت تلك بداية لسلسلة كثيرة من الزيادات بلغت في مجملها 30 زيادة خلال أول ثلاث سنوات من مأموريته الأولى، أي بمعدل عشر زيادات في كل سنة.
لم تكن تلك الزيادات مبررة فأسعار النفط ظلت في تراجع وهي الآن في حدود 60 دولارا. لقد وصل سعر البرميل إلى 147 دولارا في الأيام التي سبقت انقلاب السادس من أغسطس، ومع ذلك فقد كانت الأسعار المحلية على النحو التالي: 290 أوقية للتر البنزين و 250 أوقية للتر المازوت. أما اليوم فإنه وفي الوقت الذي لا يتجاوز فيه سعر البرميل 60 دولارا في الأسواق العالمية، فإن الأسعار المحلية عندنا قد وصلت إلى 384 للمازوت و436 للتر البنزين.
فبأي منطق يمكن أن نفسر هذا؟
رياضيا لا يمكننا أن نقدم لكم أي تفسير، فإذا ما تحدثنا بلغة رياضية بحتة، وإذا ما تجاهلنا كل العوامل الأخرى التي يمكن أن تتدخل في تحديد سعر المحروقات، فإنه يمكننا أن نقول، وباستخدام قاعدة حسابية معروفة حتى لدى المبتدئين، بأن سعر لتر المازوت كان يجب أن لا يتجاوز في هذه الأيام 102 أوقية بدلا من السعر الحالي (384 أوقية)، وأن سعر البنزين كان يجب أن لا يتجاوز 109 أوقية بدلا من سعره الحالي الذي يصل إلى 436 أوقية.
وإذا ما تركنا الرياضيات جانبا، وإذا ما حاولنا أن نجيب على السؤال السابق بمنطق محاسبي واقتصادي، فإنه يمكننا أن نقول بأن هذا الارتفاع المستفز في أسعار المحروقات رغم الانخفاض الحاد في أسعارها عالميا يعود إلى الأسباب التالية:
1 ـ إلغاء "الهامش التصحيحي"، أو ما يعرف بالدعم الحكومي لأسعار المحروقات السائلة. لقد وصل هذا الدعم إلى 70 أوقية للتر، وظل في انخفاض مستمر حتى تم إلغاؤه بشكل كامل بموجب مقرر مشترك صادر يوم 24 يونيو 2012 عن وزراء الطاقة والمالية والتجارة. وقد جاء هذا الإلغاء استجابة لتقرير أصدره صندوق النقد الدولي في نفس العام، وادعى فيه بأن هذا الدعم لا يستفيد منه إلا الأغنياء!!
2 ـ الضرائب والرسوم الجمركية: كانت الدولة تأخذ في العام 2012 مقابل كل لتر من المازوت المبالغ التالية، وهي المبالغ التي ستزيد فيما بعد: رسوم جمركية:21.6 أوقية، ضريبة القيمة المضافة : 48.1 أوقية..أي أن مجموع ما كانت تأخذ الحكومة عن اللتر الواحد هو 70 أوقية، وذلك بدلا من دعم اللتر ب70 أوقية، كما كان يحدث سابقا، إنه الإبداع في التحايل والخداع. هذه المبالغ التي تأخذها الحكومة عن كل لتر قد وصلت الآن إلى 75 أوقية عن كل لتر من المازوت يباع في موريتانيا، وإلى 82 أوقية عن كل لتر بنزين.
وبالإضافة إلى ذلك، فهناك ضرائب مستفزة أخرى، يمكن أن نضيفها إلى الضرائب المستفزة التي ابتدعها شن الحالي، فأنتَ عندما تتحدث في هاتفك فإن الدولة تأخذ منك ضريبة على كل كلمة تنطقها، وأنتَ عندما تشتري بنزينا فإن الدولة تأخذ منك بالإضافة إلى السبعين أوقية، أوقية إضافية أخرى عن كل لتر تشتريه من البنزين، تأخذها ثم تدفعها لشركة يسمونها شركة النقل العمومي، وهي الشركة التي لم يعين عليها منذ تأسيسها إلا صعاليك المفسدين، وهي الآن تقترب من الإفلاس بسبب سوء تسييرهم. هذه الأوقية الواحدة مكنت هذه الشركة المفلسة من أن تحصل في العام على ما يقترب من 500 مليون أوقية.
هناك أيضا هوامش أخرى تدخل في تركيبة السعر منها: تكاليف وهامش الموزع: 17.5 أوقية، ومنها هامش ربح محطة الخدمة، والذي يصل إلى 8 أوقية عن كل لتر، وإلى غير ذلك من الهوامش.المهم أن سعر اللتر عند الميناء تضاف له 105 أوقية (ضرائب، رسوم، أرباح)، وذلك من قبل بيعه للمستهلك في العاصمة، أما في الولايات فيضاف لذلك المبلغ تكاليف النقل، والتي تصل بالنسبة لأهل "عدل بكرو" إلى 18.5 أوقية عن اللتر.
لقد ألغى شن "الهامش التصحيحي" الذي كانت تدعم به الدولة أسعار المحروقات السائلة، وهو الهامش الذي كان يصل إلى 10 مليار دولار سنويا، وبعد ذلك أخذ شن يجمع الأموال الطائلة من الأرباح التي يتحصل عليها بسبب انخفاض سعر النفط في الأسواق العالمية، فجمع بذلك مالا كثيرا، وقد ألمح أحد وزرائه بأن الحكومة مستمرة في جمع الأرباح لتعوض دعمها للمحروقات الغازية، ولتعوض ما أنفقته الحكومات السابقة من أموال لدعم المحروقات السائلة، ورغم كل ذلك فإن طبقة المسكينة لم تحرك ساكنا، ولم تظهر أي نوع من الانزعاج.
ولو أن شيئا مثل هذا حدث في دولة أخرى، ولو أن أسعار المحروقات تمت زيادتها في تلك الدولة حتى ولو كانت الأسعار العالمية في تصاعد لقامت قيامة تلك الدولة. أما عندنا نحن فإن الدولة تزيد أسعار المحروقات حتى في تلك الفترات التي تنخفض فيها الأسعار العالمية بشكل حاد، ومع ذلك فإننا لا نفعل أي شيء، ألم أقل لكم بأن العرب قد قالت قديما: "وافق شن طبقة"!؟