سال مداد أقلام كثيرة من الأوساط الثقافية والصحفية حول موضوع المواطنة والوحدة الوطنية. وتكلم العديد من السياسيين تفصيلا وإجمالا حول الموضوع. وعقدت ندوات ناقشت الأمر وجالت وصالت فيه بيد أن الأمر في نظري ما زال يحتاج إلي كلام في الصميم لم نلامسه حتى الساعة ومازلنا
نبتعد فيه عن الحقيقة تارة ونحوم حولها طورا آخر نوشك ولا نفعل أن نقع في عمقه تشخيصا للواقع ومساءلة لموروثنا ومكاشفة لأنفسنا بعيدا عن وحل الانحياز ومدارك التعصب.
الواقع أن موضوع الوحدة الوطنية يستحق أن نتكلم فيه جميعا وأن نبدي فيه رأينا بشكل صريح وأن نعمل جاهدين من أجل التوصل إلي فعل جماعي ينطلق من الحقيقة ويبني عليها تصورا يقدم العلاج الناجع وينأي عن نكئ الجراح وصب الزيت علي النار وإثارة النعرات وجنوح العاطفة الدينية والحمية القبلية والفئوية واللهث وراء المصالح الضيقة الآنية.
إن هذا الفعل الذي يقرب ولا يباعد يتبع نهج التسامح وقبول الآخر باعتباره أخ في الدين وجار في الوطن ورفيق في الدرب وشقيق في التاريخ والثقافة والنسب هو ما يفرضه علينا الواجب الديني والوطني نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت آخر.
دعنا نكون صريحين ونتجرد من ذواتنا ولو لدقيقة ونحن نخوض في حديث المواطنة والوحدة الوطنية واضعين مصلحة أهلنا ومجتمعنا ووطننا فوق كل اعتبار.
اتفقنا إذا علي هذا المبدأ لكونه شرطا أساسيا يقود للموضوعية ويضع الحواجز الواقية من إتباع السبل كي ما تتفرق بنا ونهلك ونضيع في متاهات قد تكون جزءا من المشكل. وفي هذا المسعى نستعرض المقومات التالية:
1ـ ليطمئن الكل أولا أن هذا الوطن يسعنا جميعا، يجد فيه كل واحد منا متسعا وحيزا وفيرا دونما أدني مضايقة للآخر. وما دام الأمر علي النحو فلماذا نضيقه علي أنفسنا ولماذا لا يضيف هذا العامل المريح والمحفز جدا سعة في أنفسنا ويزيد من مساحة الارتياح والاطمئنان لدينا. لذا فهو في تقديرنا عاملا نفسيا مهما.
2ـ إذا سلمنا بهذا الأمر وهو حقيقة قائمة علينا أن نضع نصب أعيننا حقيقة أخري وهي أننا إخوة في الدين لا ندين بغير الإسلام علي هذا الوطن الفسيح. ويظل هذا العامل الروحي إلي جانب العامل النفسي السابق هو العقد الناظم لمجتمعنا. فنحن نرضي جميعا بمبادئ الشريعة الإسلامية. وما أقرته فهو بالنسبة لنا مصون من الخطأ ومقدس لا تطاله الشبهات. ومن هنا فإن الوعي الجمعي لدينا محكوم بقناعتنا التي لا تتزعزع بانتمائنا لهذا الدين وارتباط حياتنا ومصالحنا به وإيماننا الصادق بأنه هو شفاء الداء الذي نبحث عنه.
3ـ صحيح أن لدينا تنوعا ثقافيا. وهذا التنوع والتعدد مصدر خصب للثراء. وإذا ما تم استغلاله بشكل منسجم وجيد سيكون مصدر قوة وعامل توحد. تقول الحكمة إذا تزاحمت العقول خرج الصواب . وهكذا فإذا تعدد التنوع الثقافي وتزاحم تأسس الرافد القوي وكان ذلك قواما. ولهذا فإن التحدي الذي علينا رفعه هنا هو كيف نجعل من هذا التنوع مصدر ثراء لا مصدر شقاء.
4ـ إن الصراع الذي يتصور بعضنا هو صراع وهمي ينظر له بعض السياسيين والإعلاميين لخدمة أجندة خارجية وداخلية. وهي بطبيعة الحال لا تسهم في تعزيز الوحدة ولا تعمل علي ترسيخ عوامل اللحمة والتقارب بين أبناء البلد الواحد.. صحيح أننا قد نختلف في الطرح علي مستوى أحزابنا السياسية أو تياراتنا الفكرية. ويكون لكل منا رؤيته الخاصة التي يتوخي فيها الصواب. وليس بالضرورة أن تكون هي الرؤية نفسها هي التي لدي الآخر. هذا حق الاختلاف المطلوب لكن هذا الاختلاف يجب أن يختفي مهما كانت مسوغاته حينما نكون أمام قضايانا المصيرية والتي من أهمها وحدتنا الوطنية. لعل المخالف في هذا الشأن إنما يعزف علي وتر حساس لا يعزف عليه إلا شيطان أخرس سعيه واضح بين لا يحتاج الي تبيان وهو ضرب بذلك وحدتنا الوطنية في الصميم و تفكيك المجتمع لا قدر الله.
5ـ نحمد الله أن لدينا من العلماء والمثقفين والحكماء والسياسيين والإعلاميين الراشدين ما يشكل ثروة فريدة من نوعها باستطاعتها أن ترشد وتوجه وتحارب كل فكر دخيل يحمل في ثناياه ما قد يلحق الضرر بانسجامنا وتوحدنا وتعاضدنا.
ويشكل هذا ثروة مرجعية لنا وحصنا منيعا نعود لأحضانه لنستلهم منه وتهتدي بإرشاداته ونتمثل توصياته حينما تخيم علينا أزمة أو يداهمنا خطر يهدد وحدتنا وتماسك أفراد مجتمعنا.
وفضلا عن ذلك يوفر الجو الديمقراطي والحرية الموجود في البلاد البيئة المثلي لتنمية هذه المقومات ونشر ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر ضمن انسجام عام نحتكم فيه لمقتضيات الدستور التي تضمن لكل فرد حريته وتصون له حقوقه.
لنتأمل هذه المقومات بالنسبة لوحدتنا الوطنية وسندرك جليا إذا ما فعلنا ذلك بنية صادقة أنه بمقدورنا تثمينها والعمل علي أساس ما توفره لنا من أساسيات نحن بحاجة إليها أكثر من ذي قبل. فهنالك مخاطر كبيرة محدقة بنا علينا أن نتكفل أمرها قبل أن نضيع في متاهات لا وجود لها في الأصل.
فالتقسيمات علي أساس عرقي أو فئوي التي يحاول البعض إثارتها تشكل في واقع الأمر أكبر خطر يمكن أن يواجهه مجتمعنا وتتنافي مع مبادئ ديننا الحنيف. كما انها لا تمت بصلة إلي الانتماء إلي الوطن والعمل لصالح لم شمله وتوحده. إن لكل واحد منا دور يجب عليه أن يلعبه في سبيل تجاوز الفكر الهدام. وتوجيه قدراته وخبراته للبناء وتنمية البلد لأن ذلك هو وحده الذي يصلح به هم مجتمعنا. فالمسؤولية في هذا المنحي تقع علينا جميعا ولا يمكن أن نتبرأ منها أينما كان موقعنا. وقد قال الحكماء قديما "لا يتم عمل والتعاضد مفقود، ولا يكون فشل والاتحاد موجود"