يبدو لي من يريد الحديث عن الشأن الوطني كمن يهدي الغيوم البيضاء في سماء صيف أشهب لايكسر فيه مخ ولا يدر فيه ضرع .. والسبب في ذلك من وجهة نظري يرجع بالأساس إلى وجود إعلام متهور وكتاب أدمنوا بعض الكتابات المحروقة الشبيهة بالجثث في طور التعفن ..!
يهدفون من خلالها إلى إحداث حالة من الاكتئاب المزمن لدى من يؤمنون بمشروع التغيير البناء..!
إننا نعاني من لعنة سوداء أنجبتها الأحكام الدكتاتورية التى عششت فينا عقودا من الزمن ، وأسوء ما أنجبته تلك الحقب هو خلق قطيعة كاملة بين المثقف والنظام بحيث أصبح الاقتراب من السلطة بعبع ساحر لا يقصده إلا طامع متزلف أومصفق منبطح ، وهو لعمري فهم سقيم وخلل جوهري في فهمنا للحياة السياسية..
وكأننا نساق نحو المجهول كما يذهب الأغبياء إلى حتفهم مكبلين بسلاسل الموت الرحيم ..!
إن الذين يغتصبون الورق الأبيض صباح مساء ويحبلوه بالأكاذيب والأراجيف وأعراض الناس لايسعون إلى خير عميم ولاتعنيهم المصلحة الوطنية في شيء ..
فإلى متى ستظل تسطو علينا عصابات الأقلام الحمراء والشهوات المادية وتدوس على أحلامنا البيضاء قبل أن تخرج من أكمتها ..
لا أحد يتحمل المسوؤلية في هذا الوضع غير المريح أكثر من النخبة التى تعيش في أبراجها البعيدة عن واقعنا المحاصر بالتحديات الجسام وهو أمر يملي على الجميع أن يكون في خندق الوطن بدل توجيه الطعنات من الخلف والاستقواء بحراب القدر .
قد يحدث أحينا أن يكون الوطن شبيها بالمرأة حين لايمنح حبه إلا لعاشق جاهز لزرع قلبه بين يديه ومستعد لحرق دمه في خدمته حتى وإن جار عليه .. أما نحن فقد حرقنا وطنا وتفرجنا على رماده تذروه السوافي ..!
إن المتابع للأحداث الوطنية لايمكنه الخروج إلا بهذه النتيجة المرة التى تعكس عمق الهوة السحيقة بين من يعيشون للوطن ومن يعيشون على حسابه .
إذ تبدو الوضعية معقدة وكارثية إذا لم يتم وضع مسار جديد وعقد سياسي أخلاقي ينهى ذلك التحريم "المحرف" الذي يخافه المثقف حين يقترب من السلطة ويدافع عن قناعته بكل تجرد وموضوعية .. فليس قطعا مكان المثقف في الصفوف الخلفية سواء في الموالاة أو في المعارضة .
وإذا لم نستطع التغلب على هذه الإشكالية فستظل ديمقراطيتنا التى ننشدها ناقصة وبعيدة المنال إذ أن أولى مقومات الديمقراطية هي : وجود نخبة واعية تغلبت على نزواتها الفردية وتكيفت مع الواقع الإقتصادي والإجتماعي ، أما المقومة الثانية فهي وصول الشعب إلى مستوى عالي من النضج يستطيع من خلاله استعاب الأسلوب الديمقراطي لتسيير الحياة السياسية ..
والمقومة الثالثة هي وجود عقد وطني يعلي قيمة المواطنة وتذوب في وجهه كل الفوارق الإجتماعية .
وإننا اليوم بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى السير في الإتجاه الذي يحقق هذه المرتكزات وإلا فإننا سنظل ندور في نفس النقطة مغمضي العينين .. مثل تلك الدواب التي يقوم الرعاة بجلب الماء عليها من الأبار العميقة ، حيث يقومون بوضع لثام على عيونها بعدما أثقلوها بالدلاء فلا ينتهي يومها إلا وقد تحطمت ظهورها أو لفظت أنفاسها دون أن تبرح نقطة انطلاقها وهي التى توهمت أنها تسير بخطى متسارعة وتقطع آلاف الأميال .