كانت موريتانيا ولاتزال ملتقى للحضارات ، ومثابة لتلاقح الثقافات ، وأبناؤها سفراء فوق العادة ، شرقا في العديد من الأقطار العربية ، وجنوبا في عمق الأدغال الإفريقية . ينتقلون من أرض الى أرض ، ومن بلد الى بلد ، تفحص بصيرتهم الناقدة الناس والحياة ، في مغامرة زكية نبيلة تسعى
إلى تفوق عظيم ، تنهض به إرادة غلابة ، تقهر المصاعب ، و تجعل المستحيل ذلولا ، لسان حالهم ينشد لإمرئ القيس :(فلو أنما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال ،،، ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد الؤثل أمثال )، وقوله (بكى صاحبي لما رأ الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا،،،فقلت له لاتبك عينك إنما نحاول ملكا أونموت فنعذرا) .
وبما أن فرص العمل في موريتانيا كانت ضيقة وأبواب الوطن مغلقة أمام الشباب وطموحاتهم ، فلم يخرج الموريتانيون الى المجهول بكل أعبائه، ومشاقه، اختيارا ولابطرا و لم يتمردوا على نعمة وارفة كانوا يعيشون فيها ، ولكن عصف الجفاف بقوت البلاد التي نزحت من البدو نحو مدن ناشئة لم توفر أبسط مقومات العيش الكريم ، مما حدى بالشاعرالكبيرأحمدو ولد عبد القادرأن يكتب قصيدة "كواليس التصحر" :( مرت بقربي حمائم ثكلى وردن الغدير وسرن عطاشاً جنوباً جنوباً ..)، و قصيدة " السفين" (رحلنا رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون ...) .
وعلى إثر كتشاف الأورانيوم والمنغنيز في دول وسط إفريقيا توجهت نخبة من الموريتانيين إلى هذه البلاد التي شهدت حركة ازدهار وانتعاش في عجلتها الاقتصاديّة ، بعد ذلك بدأت هذه الدول تشكل وجهة لشبابنا الذين اختاروا العمل في الميدان التجاري. وسلكوا نهج الرعيل الأول من التجار الموريتانيين في تلك المنطقة ، عندما كانوا شجرة عربية أصيلة في الغابة الإفريقية تؤتي أكلها إيمانا و نماء وعطاء وأصالة ومعاصرة .
يقول الخليل النحوي في كتابه " بلاد شنقيط المنارة والرباط " : (والحق أن التجاروالدعاة الشناقطة أولئك الجنود المجهولين الذين لم ينضووا تحت لواء دولة ذات منعة ولم يسيرهم سلطان ولم ينتظموا في جيش أوخلف قائد بعينه ، هم الذين واصلوا حركة الفتح في إفريقيا واستطاعوا زرافات ووحدانا أن ينشروا الإسلام في مناطق واسعة من القارة وليس لهم من العدة والسلاح إلاالحكمة والموعظة والأسوة الحسنة ، وقد كابدوا في ذلك من المشاق القدر الكبير) .
وفضلا عن ذلك لعب التجارالموريتانيون في إفريقيا دورا كبيرا في التعريف بالبلاد وعاداتها وتقاليدها ، ومثلوها أحسن تمثيل بأخلاقهم الحميدة وسلوكهم المتمدن ، وإصرارهم العظيم على تحقيق الأهداف التي سافروا من أجلها ، فكانوا "كسابين وهابين ".
لذلك يحق لبلادنا أن تفخربأفراد جالياتها في إفريقيا الذين ساهموا في بناء الإقتصاد الموريتاني من خلال ما جلبوه من عملات أجنبية تسهم في تنشيط الدورة الاقتصادية ، وعائدات وتحويلات تخلق العديد من فرص العمل للشباب ، فضلا عن ماقدموه في ميادين العمل الخيري أو المساعدات الإجتماعية ، أو العون والإيثارالإنساني ، علاوة على المساهمة في النهضة العمرانية في العاصمة وبعض المدن الموريتانية الأخرى .
وفي الوقت نفسه كانوا يعيلون آلاف الأسر الكبيرة المؤلفة من الأصول والفروع والأطراف ، ومعلوم أنه لوكانت هذه الأسرالموريتانية بلا معيل لحصلت كارثة في الدولة ، ومع ذلك لم نسمع أن لهذه الجاليات عقارات أونوادي أومصانع خارج البلد ، وهومايعني قوة ارتباط أفراد هذه الجاليات بوطنهم فحسب .
لقد لفت انتباهي إلى هذا الموضوع أن السلطات الأنغولية قامت مؤخرا باعتقالات واسعة في صفوف الموريتانيين وابتزازهم، وقبل ذلك تم تسفيرالكثير منهم ، ولم تكن هذه أول مرة يحدث فيهاهذا النوع من المضايقات لا لهذه الجالية فحسب ، وإنما جرى ذلك للعديد من جالياتنا في إفريقيا ، التي لم تجد في أغلب الأحيان نصيرا من طرف الدولة الموريتانية الإ "بعد أن يسبق السيف العذل" ، لأن الدولة لم يكن لها في كثير من هذه الدول سفارات أو قنصليات رسمية تسعى لتقوية العلاقات مع هذه البلدان من أجل العناية بشؤون التجار الموريتانيين ، الذين هم في أمس الحاجة إلى الوقوف معهم في جميع قضاياهم ، بمافي ذلك مسألة الإحصاء والأوراق الضرورية الأخرى.
ومن المفارقات أن موريتانيا التي لديها سفارات في العديد من الدول التي لاتوجد فيها جاليات موريتانية ، لا ترى ضرورة لحد الآن أن تكون لها سفارة أو قنصلية رسمية في دولة مثل الغابون التي وصلها التجار الموريتانيون في ستينيات القرن الماضي، ويوجد بها في الوقت الراهن آلاف التجار النشطين من بلادنا .
وفضلاعما سبق تنظرالجاليات الموريتانية في إفريقيا إلى حكوماتها المتعاقبة نظرة عتاب واستغراب لأنها تشاهد يوميا ماتقدمه بعض السفارات في تلك البلاد من خدمات جليلة لمواطنيها ، مع ما تلاحظه من حرص لبعض الدول على رعاياها ،مثل قصة مشروع "الأحواض الناضبة " الشهيرة بين موريتانيا والسنغال ، التي قبلت فيها هذه الأخيرة التراجع عن مشروعها الإستراتيجي الكبير، بعد أن هددتها موريتانيا بطرد العمال السنغاليين في حالة عدم توقف هذا المشروع ، الذي كان من شأنه أن ينهض بمجالي الري والزراعة في السنغال ، ورغم ذلك انحازت هذه الدولة إلى عمالها داخل موريتانيا ، وسحبت الآليات والمهندسين الذين حضروا لتنفيذ هذا المشروع .