لا شك أن العناية بالمدن القديمة و السعي إلى الحفاظ على مكانتها التاريخية و أبعادها الحضارية لإبقائها ركنا مكينا داخل المنظومة الثقافية الشاملة للبلد و في دائرة الثقافة العالمية عبر اهتمام و مشاركة المنظمات الثقافية الأممية و العالمية و الاعتراف و التثمين و الحفاظ على التراث الإنساني
العريق بمقياس جودة العطاء، لهي لفتة كريمة و فكرة عظيمة و غاية نبيلة.
و إنه لمن حق كل الأمم، و منها الموريتانية، التي تحترم ذاتها و تقدر حاضرها و تثق بمستقبلها أن تفخر بآثار ماضيها و أطلال حضارتها التي قهرت عوادي الزمن و أشدها فتكا التغيرات المناخية، و سجلت على صفحاته الخالدة تألق الأجداد المؤسسين و البناة المتمكنين من فن العمارة و التخطيط الهندسي البديع و داخل أحضان جدرانها و سقوفها و في أمان أسوارها المنيعة و شموخ أطوادها الذين تركوا إرثا مخطوطا قيما ونادرا أبدعوا و أودعوا طياته كنوزا من العلوم الشرعية و نبغوا في الآداب و غيرها و في الفنون المختلفة و ما سواها من العطاءات المتنوعة في مجالات الزراعة تحت النخيل و حفر الآبار العميقة و تقنيات الري و وسائل الحماية من عناصر الطبيعة و الغزو و الحروب التي ساهموا بها و من خلالها في الحفاظ على كيانهم في محيط جاف و قاس لا يقبل الضعفاء، وحافظوا فيه رغم كل ذلك على وجههم الحضاري النضر و مكنوا عبره لاستقلاليتهم بقدرات ذاتية عن سواهم من خلال إبداع كل مقومات البقاء و التطور و لضرورات التبادل مع محيطيهم القريب و البعيد حتى شكلوا فيه وصلة جوهرية و مرجعا للعطاء الغزير ذاع صيته و كثر مرتادوه للنهل من ينابيعه و منه مبعوثوه إلى العوالم الأخرى مسلحين بأدق المعارف و بشوارد صفات الألمعية في حفظ و سرعة البديهة و قوة الاستنباط و التأويل و الاجتهاد.
و لكن هذا الإرث التاريخي الذي اعترفت به و صنفت المنظمة الأممية اليونسكو إرثا إنسانيا تجب حمايته و قد ثمنه الرئيس محمد ولد عبد العزيز و تعهده و رعاه بأن جعله محط اهتمام و محل احتفاء بمدنه سنة بعد أخرى، قد يتعرض بهذا التلاحق الزمني المتقارب إلى تناقص قيمته التراثية و التاريخية و العلمية من خلال:
- كثرة عدد القادمين و المُستقدمين و الزوار الذين يحملون معهم كل أسباب تلوث المحيط و تهديد المعالم الأثرية و المعمارية بوطء الأقدام و ضجيج محركات السيارات و هي الآثار و المعالم التي تعاني أصلا من وطأة الزمن و فتك عناصره،
- تمييع القيمة الحضارية و التاريخية و العلمية للإرث العظيم و تجريدها من جوهرها و إطفاء بريقها و قتل أسباب تحفيزها للأجيال المتعاقبة على حفظ المعاني السامية لتاريخ أجدادهم و إبقاء جذوته متقدة تحثهم و تدفعهم إلى الصمود في وجه العولمة،
- استنزاف أموال البلد العامة و الخاصة في مجالات لا تأخذ شكل الاستثمار الإيجابي في الأعمال الباقية التي تستفيد منها حركية المدن الاقتصادية أو في أوجه مدرة للدخل تأخذ وجه الاستمرار و التمدد و الانتشار و التطور. أموال طائلة يرجع ثلثاها على أقل تقدير إلى المدن الكبرى في جيوب المتسولين الذي يسألون الناس إلحافا و شعراء المناسبات و إضفاء الصفات المستعارة جزافا و المبتذلة للإرضاء المدر عند الطلب و الغاوون الذين لا فكاك للشعراء منهم و من تقاسم الغنائم و إياهم.. جوقة متكاملة قوامها كل المترفين الذين لا يهمهم الإرث الحضاري في قيمته العليا و لا التوازن الاستثماري الذي يمكن من خلال الاحتفاء به و تثمينه أن يخلق لمناطق البلد إسهاما و إمعانا في إرساء العدالة و التكامل بين المناطق و الجهات و إبراز و تجسيد أوجه التقاسم و التكامل العملي في ذلك.
و إن الوضع الذي ما يزال يحيط بقيام هذا المهرجان و المنهجية المتبعة في إعداده و المحاصرة من طرف الخلفية الثابتة المستندة على الانتقائية و الزبونية و اعتماد بعض الارتجالية و سطوة المتنفذين باسم التاريخ و معالمه ليستدعي على وجه الاستعجال أن يتم العمل ميدانيا على تنقية أجوائه بوصفه حدثا بارزا بحق، و بإزالة شبح هذه الأخطار عن المدن الأثرية العريقة؛ أخطار متمثلة في هذه المعوقات التي تحجب قرص شمس سخاء تاريخ هذه المدن الفياض بالعطاء و المرصع بالأمجاد في كل أوجهه، و السعي إلى إبعادها معوقات تكررت في المراحل السابقة و حالت دون استفادة هذه المحطات التاريخية والإنسانية و ساكنتها كما كان ينبغي و يليق من أهمية و أبعاد تظاهرة الاحتفاء المشروع الأمر الذي ستعانيه حتما النسخة الجارية، فإن الأهداف المحددة و الآمال المعقودة لن تتحقق و إن الأموال التي توجه لتصرف كل عام في تنظيم هذه المناسبات ستظل عرضة لخطر الترف الثقافي العقيم و التسول المرضي الرخيص و الإعلام المبتذل و الغاوين المائعين و شعر التكسب المخل بمضامين و جوهر الحدث في علميته و مضمون إسهاماته ضمن الموروث الإنساني المشترك.