إلى أي أفق يتجه الإعلام المرئي و المسموع، ببعض ما ينتابه من خور وبعد عن الأداء الرصين، في بلاد ما زالت تئن تحت وطأة النشأة المتعثرة و لعنة "الماضوية" المتجذرة في بواطن العقل السحيقة لجمهور الأمة و إن لم يعترف بذلك إلا أهلُ المعاناة من جرائها مع قلة حيلتهم و هوانهم على الغالبية
العظمى من رافضي التحول البناء أصحاب السطوة و الحظوة و المقدرة على الدفاع عن الإرث التسلطي و إن مرحليا - و هيهات - عن عرين باطل ينتمي قلبا و قالبا إلى زمن ولى يشفع للذين مضوا من أهله دونهم أنهم أمة قد خلت لها ما كسبت؟
و ما هي أسباب هذا الحنث بالقسم الضمني للقلم و الكلمة حين احتراف الإعلام و اختياره نهجا حياتيا في وقت تزخر فيه الساحة الإعلامية، الغاصة بالقنوات التلفزيونية و الإذاعات و المواقع الالكترونية و المنشورات الورقية، بشباب حيوي و جدير يمتلك ناصية الحرف و قوة و سحر بيانه على خلفية قدرة حقيقية أبان عنها في استيعاب راق لمستجدات التكنولوجيا الإعلامية التواصلية و المعلوماتية و توظيف مهاراتها بجدارة و الاستفادة من محتوياتها؟
و إذا لم تكن الأسباب متعلقة بغياب القدرة على الأداء المهني ترى أين يمكن لها أن تكمن إذا؟
إنها أسئلة من بين أخرى تستدعي أجوبة قد يكون منحسرا في سياقها وحدها تصحيح مسار الإعلام المتعثر و توجيهه إلى خدمة الوطن و انعتاق المواطن بوصفه "سلطة رابعة" حقيقية لا تقوى بدونها السلطات الأخرى على تأدية أدوارها كاملة و لا يجد في وجودها الشعب معينا على إدراك همومه و تحسس و حمل قضاياه إلى منابر الإفصاح و فضاء الحلول.
و لكن لا سبيل إلى الإجابة عن هذه الأسئلة و غيرها ما لم يتم الاطلاع عن كثب و بمنطقية تمليها الموضوعية و الأمانة العلمية و الاستقصائية المحايدة على حيثيات قيام حرية الفضاء السمعي البصري و خلفية إنشاء القنوات و على معايير و شروط تسليم التراخيص. كما أنه من الضروري جدا معرفة مدى خضوع هذه الوسائل الإعلامية للمعيارية المهنية و هامش حريتها الذي تتيحه حرية التعبير و التزامات مسطرة المنظومة الأخلاقية للمهنة و قيود و إملاءات و ثوابت المهنية، و هي الوسائط التي أضحت وحدها العيون و الآذان الراصدة بدقة لحراك العالم و حمل أصدائه و الحافظة المكينة لتفاصيلها لا تبليها الأزمنة و لا تغير فيها الإرادات و النوايا السيئة و قد أضحت تمتلك لذلك كل الوسائل الفنية و الإمكانات العلمية بفضل التقدم الهائل لوسائل الاتصال و تطور المعلوماتية المذهل و تحديدا في شقها الإعلامي الذي أصبح "عراب" كل التحولات المتلاحقة.
و إنه لا بد لمن يستحضر الظروف التي نشأت فيها القنوات الفضائية الموريتانية تلفزيونية و إذاعية و ما اكتنف هذه النشأة من كبوات و تفاوت في الاستجابة المعيارية. و لمن يعلم من هم رواد الفكرة، السباقون إلى مضمارها. و لمن يعرف ما نوع الحوافز و المبررات التي حررت طرق المغامرة الشاقة من أشواك السير و سهلت البدايات البالغة التكاليف مع العلم يقينا باستحالة الأرباح على المديين القصير و المتوسط، إن تم النجاح، لا بد إذا لكل هؤلاء أن يفصلوا بين أمرين هامين هما ظرف النشأة و مبررات القيام.
صحيح أن تحرير الفضاء السمعي البصري شكل يوم أعلن عن إطلاقه ضربة معلم، في ساحة سياسية و ثقافية و إعلامية قفراء جرداء لا وسائل بها تطال الخبر أو تصنع الحدث وسط غياب الكادر البشري المهني المؤهل لذلك، و كما كانت إذ ذاك و بذلك أيضا ضربة مستحقة حينها للشعب الموريتاني الذي لديه الكثير ليقوله نثرا و شعرا و بالتقليد الشفوي، و الكثير لا ضير عنده في تمريره بالصورة عن واقع أمره و كبير اختلافه أسوة على الأقل - و من دون الضرورة القصوى لذلك - بما اعتاد على مشاهدته في قنوات العالم من حوله إقليميا بشقيه الغرب-إفريقي و المغاربي و عالميا بشقيه العربي-الإسلامي و الدولي الانفتاحي.
و لن يفوت مطلقا كل من يتمتع بأقل قدر من حاسة الشم الاستعلامية أو أدنى مستوى من الاستقصائية الموضوعية إدراك ما تتمحور حولها رسالة كل قناة من القنوات و محطة من المحطات الإذاعية من توجه فكري ضعيف و انتماءات ضيقة تلامس ما هو غير معلن من الانتمائية الانحسارية لدائرة رأس المال المضمخ بالقبلية و العشائرية الريادية الفئوية و الشرائحية و بالتزاوج بين رجال الأعمال و المصالح المالية العمومية؛ و من الجهوية و الانتمائية السياسية في حيز الملون منها بمحامد العصر في صميم محاوره الاديولوجية و مبتغياته المحسوبة مفاهيميا على الديمقراطية.
و إن هذه الملامح التي لا تخفى، و من دون أن تزعج هي وحدها التي توجه دفة هذه القنوات و تصهر كل برامجها في بوتقة واحدة و توجهها معا لأفق أكثر انفتاحا على العقليات من الداخل و بعيدا عن الطموحات في الخارج، فاستراحت بذلك من عناء المعالجات الملحة لكبريات القضايا المرتبطة بالوحدة و التنمية و عن جدية المهنية فاحتمت في ظل تدابير البقاء السهل بصناعة إعلام هش يستخرج مادته من رغبات العقلية الجمعوية المسترخية و التي لا تريد الدخول في سياق العصر. فلا عجب من هنا أن يكون لكل قناة خيمتها الشعرية بديكور خلفياته موغلة في القدم دون أن يحمل الشعر المتداول بين ركائزها و في جنباتها ما يصحح المفاهيم المغلوطة السائدة من ناحية و يسحب الأمة و البلد إلي مراقي التقدم و ساحة بناء دولة القانون و المواطنة و الازدهار و التقدم من ناحية أخرى. كما أنه لا عجب مطلقا أن يغيب التحليل المبني على جدية البحث المحايد عن الخبر و استقصاء مضامين المادة الإعلامية المفيدة للمتلقي تنير له درب المعاملات المدنية و تحيطه علميا بمقتضيات الساحة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و المدنية بكافة أوجهها.
و لعل ضعف هذا المحتوى الملحوظ للقنوات الفضائية و المحطات الإذاعية، يوحي للمتتبع بمدى النقص و ضعف المخرج الإنتاجي الذي تعانيه، خصوصا الجانب الإخباري منه، باعتبار أنه يمس الرأي العام الوطني، عكس البرامج التي تهتم بمجالات مختلفة والتي يمكن أن تكون مصدر ثقافة وعلم مجرد وتبن للآراء بالنسبة للمشاهدين و المستمعين، ولا تأثر على رأي الشارع بشكل مباشر وعميق.
و نظرا لفجاجة الطرح الإقصائي و ظاهر القصد الاسترضائي الذين تتم ممارستهما داخل هذه القنوات و الاذاعات و مُسْتظَلهُما التحيزُ الواضح و المنهجية لتيارات فكرية بعينها وسياسية لا تخفى و مفاهيم انحسارية جهوية و انتمائة فئوية و عشائرية صارخة في قمقم الماضي-الحاضر فقد باتت هذه القنوات أبعد ما تكون عن القدرة على تأدية الدور المنوط بها و أقرب ما تكون إلى الترجل و السقوط المهني والإعلامي الفاضح إلى الهاوية بشباب لا جريرة له سوى أنه تحمس أكثر من اللازم لخوض غمار إعلام مرئي و مسموع أراد له أن يلازم عمره و طموحه حتى يدخل به و معه البلاد عصر البناء و الرقي.
فمتى ما يراجع أهل الإعلام المرئي و المسموع مسار وسائلهم و متى ما يعلموا أنهم فعلا قد أدركوا هذا المبتغى و دفعوه إلى طريق المهنية و الحياد و المواكبة، فإنهم سيجنون ثمرة الخلود بما قدموا لبلدهم من أسباب البناء و العدل و الاستقرار و بما أرسوا من سلطة رابعة هي الرقيب على غيرها من السلط، ناهيك عما سينتظم لهم من أسباب الاستقلالية المادية و زيادتها باضطراد.