تباينت مواقف الدول العربية من المشاركة في مسيرة باريس ضد ما يسمى الإرهاب، فبعض الدول العربية شاركت بشكل علني، وبأعلى مستوى في تلك المسيرة، مثل الأردن، وفلسطين، حيث شارك ملك الأردن، والرئيس الفلسطيني في المسيرة، في حين شاركت دول عربية أخرى على استحياء،
مثل السعودية، التي حضر سفيرها إلى الإليزي متعاطفا، بينما شاركت دول أخرى ثم قاطعت، مثل ما فعلت المغرب، التي انسحب وزير خارجيتها بسبب رفع رسوم مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
لكن الموقف الموريتاني من تلك المسيرة الباريسية كان لافتا، ومثيرا للجدل داخليا على الأقل، فمعلوم أن الحكومة الموريتانية بادرت إلى إدانة الهجوم على المجلة الساخرة " شارلي ابدو" عبر بيان رسمي للخارجية الموريتانية، ثم على لسان الوزير الأول، والناطق باسم الحكومة، وقد بادر البعض إلى إدانة الموقف الموريتاني، باعتبار أن الضحايا كانوا مشتركين في الرسوم المسيئة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، قبل أن تظهر مواقف أحزاب سياسية معارضة، بعضها يرفع شعار " الإسلامي" متقدمة في مواقفها على الحكومة الموريتانية، فرئيس حزب تواصل غرد ـ ربما خارج السرب هذه المرةـ مبديا شجبه لهجوم باريس، ونزع صبغة الإسلام عنه، ورفض تبريره.
موقف كان له ثمنه بالنسبة لحزب تواصل، فقد أعلن عن استقالة مستشار بلدي من حزب تواصل احتجاجا على موقف رئيس الحزب من هجوم باريس، ويستمر الجدل حول هذا الموقف، الذي تجاوز فيه الحزب الإسلامي مواقف الأحزاب الأخرى، وتجاوز حتى موقف الحكومة الموريتانية.
وجاءت المسيرة الباريسية، لتحجم الحكومة الموريتانية عن المشاركة فيها، بأي مستوى، ولا حتى ببيان، وبتلك المقاطعة أشادت أوساط عديدة موريتانية، وطفحت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات تشيد بموقف الحكومة من مسيرة باريس، وبذلك يرى المراقبون أن الحكومة الموريتانية نجحت بشكل كبير في التعامل مع هذا الموضوع، فمن جهة بادرت إلى إدانة الهجوم المسلح، الذي قتل فيه مدنيون في باريس، كموقف مبدئي، تشاطره مع جميع دول العالم، ومن جهة أخرى رفضت الحكومة الموريتانية المشاركة في مسيرة قد ترفع شعارات مسيئة للإسلام في باريس، علما أن المشاركة في هذه المسيرة أصلا ليست إجبارية، ولا يمكن للحكومة الفرنسية أن تأخذها على موريتانيا الرسمية، وهذا الموقف أظهر فعلا أن موريتانيا مستقلة في قراراتها، وسيدة مواقفها، بعكس ما يروج البعض، فقد تجنبت موريتانيا وقوف ممثلها إلى جانب رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو في صف واحد، كما فعل الرئيس المالي في تلك المسيرة، وهو موقف لو حصل كانت ستتلقفه المعارضة الموريتانية، لتفيق من سباتها العميق، وتقول إن النظام الموريتاني يقف مع اليهود، ويشارك في مسيرة ضد الإسلام.
هجمات باريس، أصابت الدول العربية، والإسلامية بحالة من الحرج الشديد، وبدا أن المشاعر، والمبادئ، وربما المصالح، تتشابك في أي موقف من هذه الهجمات، لكن النظام الموريتاني خرج على ما يبدو بنجاح كبير من هذا الاختبار الصعب، فعبر عن مشاعره، وضمن مصالحه، وحافظ على مبادئه، وقيمه، وبذلك لم تترك موريتانيا الرسمية أي فرصة للخارج لينتقدها، ولا للداخل للمزايدة عليها باسم الإسلام، وهي معادلة صعبة كانت الحكومة الموريتانية موفقة فيها إلى حد كبير.
أحداث باريس، وما تلاها من مواقف سواء في فرنسا، أو العالم العربي أظهرت الازدواجية الفاضحة في المواقف من القتل، والإرهاب، ففي دول عربية عديدة أصبح القتل، والإرهاب خبرا يذاع كل يوم على مدار الساعة، والقتلى بالعشرات، والمئات، وتتنوع أسباب القتل، ومع ذلك لا تصدر أي إدانة من أي طرف، وعنما يموت بضع أشخاص في فرنسا، تقوم الدنيا، ولا تقعد، ويطلب من جميع الدول أن تدين الهجوم، وتتضامن مع الضحايا، بغض النظر عن دوافع الهجمات، وطبيعة الضحايا، بل ويطلب زعماء العالم أن يذرفوا دموع التماسيح عليهم، وفي العالم العربي والإسلامي، يطلب أكثر من ذلك ضرورة رفع العتب، وتبرئة النفس من جرم لم يرتكبوه، ولا يقف الغرب عند هذا الحد، بل يطلب التنازل عن قيم، ومبادئ الشعوب المسلمة، إرضاء للغرب الجريح، الذي يتناسى الجرح الغائر الدامي المستمر في العديد من بقاع العالم العربي، بل ويواصل في تعميقه.