لو أنصف الزمن لما كنت بحاجة الي تذكير الكثيرين ببعض المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها فلسفة ما بات يعرف في عصرنا هذا بالعولمة , لكن الحادث الذي إستفاقت عليه العاصمة باريس صباح الأربعاء الماضي وكيفية التناول والتعاطي معه من قبل الكثير من وسائل الإعلام والمثقفين
والمحللين والصحفيين العرب قبل الغربيين ناهيك عن التنديد الذي تسابقت اليه الدول العربية علي نطاق واسع وغيره من آليات التناول "الخاص" الذي حظيت به حادثة جريدة شارلي إبدو هو ما جعلني أختار الرجوع بنا جميعا لتأمل المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها فلسفة العولمة ومن ثم محاولة إستقراء علاقة ما قد يمكن الكشف عن وجودها بين أهم تلك المفاهيم وبين حادثة شارلي إبدو تحديدا ؟
شخصيا أختلف جذريا مع معتنقي الفكر الإسلامي القتالي ـ حتي لا أقول الجهادي ـ ذلك أن الإسلام دين حياة وإحياء وليس دين إعدام وإتلاف ودين حضارة ورقي وليس العكس معاذ الله وهو أمر يتضح جليا من نصوص الوحي بشقيه ومن مقاصدها لايجهله الا السطحيون أصحاب الفهم القشوري المجزوء ,ورغم أنني شخصيا لست مع أعمال العنف وإستخدام السلاح بإسم الدين ورغم أنني أشجب وأستنكر حادثة شارلي ( أسبابا ونتائج ) الا أنني أردت هنا أن ألفت الإنتباه الي رسالة واضحة حملتها كيفية التعاطي مع حادثة شارلي علي الصعيد الثقافي والإعلامي أساسا , رسالة مفادها أنه ينبغي أن نفهم نحن المسلمين والعرب أن المفهوم الأساسي الذي تقوم عليه فلسفة العولمة هو مفهوم التنميط الذي يعني في حقيقته صبغ العالم بمختلف حضاراته وخصوصياته الثقافية ـ بما في ذلك الدينية ـ والإجتماعية بصبغة نمط واحد. لكن الأدهي في الأمر هو أنه توجد في العالم المراد تنميطه ثلاثة أنماط حضارية بالأساس هي النمط العربي الإسلامي والنمط الغربي الديني والنمط الغربي اللاديني وبما أن فكرة التنميط هذه تسعي لصبغ العالم بصبغة نمط واحد لايمكن المزاوجة فيه بين أي من الأنماط الثلاثة المذكورة, فيبقي الحل في إختيار نمط معين ستسخر له كل الوسائل التي ستمكنه لاحقا ـ ووفق إستراتجيات طويلة النفس ـ من تحبير وجه العالم ووجهته بلونه الخاص , لكن الذي ينظر بتفحص لطبيعة القوي الفاعلة التي كانت وراء فكرة التنميط هذه يجد أن هناك نمطين مستبعدين رغم تفاوتهما في الإستبعاد من حيث المسافة هذين النمطين هما : ( النمط العربي الإسلامي والنمط الغربي الديني ) أما الأول فعلاوة علي النظرة التي ينظر لحضارته ورميها بالتخلف والظلامية فلم تكن مجتمعاته أصلا علي المستوي الذي يخولها الوصول للمشاركة في رسم السياسات والقرارات المصيرية للعالم فهم مجرد مستهلكين للأفكار ومستهدفين بالخطط لاعلاقة لهم البتة بالإنتاج والتخطيط ... وأما النمط الغربي المتدين فسبب إستبعاده يعود الي الضلوع التاريخي للكنيسة ونظام الإقطاع في ظلم الإنسان وضرب العقل والقيم والمبادئ الأساسية للحضارة الإنسانية في الصميم , كلها أسباب توضح مجتمعة حظ النمط الغربي الملحد في الإختيار لتصدر المشهد وصبغ الواقع المعاش لمنتسبي الأنماط الأخري بصبغته التي تقوم علي فكرة " لااله والحياة مادة " بل وفكرة " نزع القدسية عن كل شيئ حتي الإله " المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه فلسفة العلمانية لمن لايعرفها وهي فكرة بات العالم للأسف يعيش مقتضياتها إن لم نقل يتمثلها ـ بمافي ذلك بعض المسلمين ـ في شكل شعارات براقة لايرفض ظاهرها سوي الرجعي المتخلف ’ فالذي يري كيف نجح البعض في إستنفار وتجنيد كافة الأقلام والتصريحات لوسائل الإعلام لتجريم وإستنكار حادث جريدة شارلي إبدو دون أدني مستوي من تجريم الأسباب التي أدت ببعض المراهقين (علي مستوي الفكر أو العمر ) من شباب المسلمين الي الهجوم عليها وإستهداف كتابها وساخريها وهو في الحقيقية الإساءة الي الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم ,
بل ومن يري بعض المنتسبين الي الإسلام وهم يعتبرون ضمنيا في حديثهم الي بعض وسائل الإعلام أن الإساءة علي الرسول العظيم صلي الله عليه وسلم هي من حرية التعبير ويقرون أن الإساءة عليه صلي الله عليه وسلم تتساوي مع الإستهزاء بالكنيسة الكاتوليكية وغيرها
ومن يري زعماء وقادة عرب ومسلمون يتصدرون مسيرة باريس التي تحمل رسوما وشعارات مسيئة للحبيب صلي الله عليه وسلم ويطئطئون رؤوسهم ويتزلف بعضهم ويسيرون كلهم جنبا الي جنب مع من دنس ثالث الحرمين وأولي القبلتين... دون أن ينبس أي منهم ببنت شفي ترفض أو تدين علي الأقل الإساءة الي نبينا العظيم صلي الله عليه وسلم في ظل رضوخ تام وعجز حتي عن دعوة باردة لعدم الخلط بين شجب القتل وبين إنتهاز الفرص لإعادة نشر ورفع الصور المسيئة لخير البشرية بأبي هو وأمي صلي الله عليه وسلم بإستثناء القرار الشجاع للحكومة المغربية التي قررت الإنسحاب من المسيرة بسبب رفع الشعارات المسيئة بعد أن إشترطت مشاركتها بعدم الإساءة عليه صلي الله عليه وسلم وهو قرار تميزت به مشكورة دون غيرها من الحكومات العربية التي شاركت بكثرة وحرارة وحماس وإستفاقة غير مسبوقة لضمير الحكومات العربية المسلمة ثاره مقتل 17 فرنسيا في حين لم يفلح أكثر من 2000 شهيد وآلاف الجرحي في غزة و 100000 شهيد وأكثر من مليوني نازح سوري تحت وطئة الثلوج و6000 شهيد وقرابة 20000 سجين مصري علي الأقل راحوا ضحية إرهاب الإحتلال الغاصب والمستبد السفاح الأسد والإنقلابي القاتل السيسي في إثارته بل وفشلت في تحريك عشر مارأيناه أمس في مسيرة باريس من حماس الزعماء العرب
ومن يري بأم عينه بعض المثقفين والإعلاميين المسلمين يتشدقون بحرية التعبير ويعتبرون أن الإساءة علي المقدسات هي من حرية التعبير وهي مكفولة بالدساتير ويرون أن مايسمونه بقيم الديمقراطيات العتيقة أقدس عندهم من نبي القيم والكرامة عندنا صلي الله عليه وسلم ’ يجزم أن العالم تم تنميطه بنمط اللادين الذي لايعترف بالمقدسات أصلا أحري أن يحترمها ’ نمط ينظر للدين بنظرة الرفض من الأساس وللإنسان بإزدواجية حتي من حيث الحق في الحياة ويشعر للآخر بضرورة التماهي معه ’ ويعطي نفسه الحق وحده في تصنيف القيم لينمطها هي الأخري بقيمه فيقيس الآخر إنطلاقا من قيم ومبادئ عالمية عامة في ظاهرها ’ خاصة بنمط معين في حقيقتها . فهل ستكون العقود الماضية كفيلة بكشف حقيقة وأساس ما يسمي العولمة ؟؟؟ ! وهل حان الأوان ليستشرف المطبعون من المسلمين المآل الخاسر لرهان التماهي ؟؟؟! وهل سيظل النمط المذكور مستبدا بحكمه ومصرا علي صبغ العالم بلونه الخاص ؟؟؟! وما ذا سيفعل بقيمة كبري من قيمه وهي قيمة التناوب السلمي علي السلطة ؟؟؟ !!!