يتنافى مفهوم القيم في نسقه العام مع ظاهرة التسول، ومن المشين جدا أن تكون اللحظات التي يعتقد فيها الشخص المعنوي، أو الشخص العادي أنه مسؤول هي وقته الذي يتقمص فيه جلبابه المتسخ متسولا عطف الآخرين المخذولين، نافيا عنه صفة الزعامة المزعومة،
ومرشدا إلى حقيقته الجوفاء الواهية، حيث لا يزيد على متذرع بخيوطه العنكبوتية، المنسوجة من كلمات منمقة، ورسومات كاريكاتورية سيئة ومسيئة، من خلالها يتم التطاول إلى سماء حرية التعبير، وفي حناياها وثناياها تشنق قيمة الحرية، ويدق الإسفين في نعش الإنسانية، إذ تتجاوز بسرعة البرق إلى الهدف السامي لأصحابها، وهو مرقوم ومبذول في ناصية كاذبة، تتخذ مطية إلى التسول باسم الصحافة وحرية التعبير.
وهذا ما فعلته "شارلي ايبدو"، ففي الوقت الذي شغلت فيه الرأي العام والخاص، وتكالب الجبناء على تبرير شناعاتها، ونعتها بأنها فن راق، وبأنها وعي تام بقيمة حرية التعبير، التي تعتبرها الصحيفة: "حقا أساسيا"، فإن هذه الرعناء سرعان ما انكفأت راجعة إلى الرومنسية الغربية من جديد، تلك الرومنسية التي قوامها المادية المفرطة، والبحث عن الرأسمال بأية طريقة، حيث الجشع والطمع يحركان النفوس الأمارة بالسوء الآثمة، وحيث يمكن فهم ماهية الغرب، وجوهر الفلسفات النفعية التي تحكمه، وتحركه.
وإذا كان المتضامنون مع صحيفة شارلي كتبوا عبارات تضامنية، حاولوا من خلالها أن يظهروا أمر الجريدة بأنه محاذ للفن، لصيق بطريقته، فكتب أحدهم: "الفن قتلني"، وكتب آخر: "أنا اليوم صحفي"، فإن غمامة العاطفة الجياشة انقشعت من فوق رؤوس الجميع من عشاق شارلي، معربة عن حكمة واضحة، تفيد أن من يمتلك نيات سيئة من المستحيل أن يكون فنانا بالمعنى الصحيح للفن، فما بالك إذا كانت النيات السيئة لشارلي ايبدو تستحيل إلى مجسمات كاريكاتورية فجة، تنم عن قبح في أخلاقيات ومبادئ شارلي.
يتقاتل أنصار شارلي من الغربيين على نصرتها، يتبارون في الخطابة، يسبون الصلف الإرهابي، ويحاولون أخذ شارلي بعيدا في أحضانهم عن غابة الوحوش، لكن شارلي تنتفض، وتبتعد عنهم رافضة لحظة الانكسار العاطفي، تغيب شارلي في غياهب جبها، وفجأة تنفجر على موقعها الالكتروني، كاتبة نص تعزية فريد من نوعه على أحبائها ... لا ...، وتعلن الحداد على موقعها على أرواح ذاب فنانوها في مفاتن خال وجه شارلي ... لا ...، وتغلق شارلي عليها باب غرفتها لتتذكر بحس فني مرهف أيامها الدافئة في أحضان أكثر من رجل على طريقة الانحلال ... لا ...، إن شارلي سبقت الجميع إلى المادية المطلقة، ولا وقت لديها تضيعه في هرطقات الفن، وبكائيات الشعراء.
شارلي على موقعها http://www.charliehebdo.fr/ وضعت عبارة واضحة: " Charlie hebdo a besoin de vous pour survivre."، شارلي تحتاجكم أيها المحسنون لكي تبقى على قيد للحياة، UN DON FAIRE هكذا خاطبتكم من خلال موقعها الأليكتروني، ولا وقت لدى شارلي لتضيعه في البحث عن الجناة، أو في التفلسف في الحياة، أو التدبر في الممات، فشارلي غربية العطر والهوية، تحسب الأمور بالماديات، وتتفانى في التحصيل، وتتفنن في التسول من أجل ملء حسابها من جيوبكم أيها العشاق، فبدل أن تهدوها رسمة، أو دمعة، أو وردة، أو كلمة قدموا شيكا على بياض، أو ارسلوا من بطاقات ائتمانكم ما تشتري به فساتينها، وكحلها، وعطرها، ورحلاتها الماجنة، وما تضع به السيليكون في شفاهها ونهديها الآثمين، إن شارلي تحب جيوبكم.
وعجيب أمر هذه الدنيا فعلا، فحين يكون المتضاحكون يفبركون مقام تبتل في حرم الجمال والفن يكون تضاحكهم موسما لجني ثمار ريع الخمارة، وليست شارلي في حقيقتها إلا خمارة، وإلا مخمورة تتمايل بين الدهاقين والزبناء، وتبيح عرضها، ومن ثم تسألهم: حين سكرت هل كنت نقية؟ ...جلدوني- لماذا؟ ...
تمارس شارلي عهرها المكشوف على مرأى ومسمع من الجميع، وتثق في عشاق الرذيلة، فهم حماة الديار الباريزية الأنيقة، وهم الذائدون عن حياض العفن باسم الثقافة والفن والحقوق والحريات.
والأولى بشارلي ايبدو وعشاقها أن يخجلوا من تشبيه الحب العذري، والفن الراقي بالكاريكاتيرات المسيئة، وبالتسول باسم اللحظة، التي تستدر فيها عواطف المانحين الطالحين، وليت فرنسا تطبق حرفيا في حالة شارلي المتسولة، التي لا تتبتل في محاريب الهوى والغرام، ما كتبته نازك الملائكة ذات يوم في مشنوقة ما .. في مكان ما ..، حيث تقول نازك على لسان الإخوة المعربدين من هول مساس لا أدري نوعه: "قتلناها غسلا للعار .. ورجعنا بيضة السمعة أحرارا".