لست ممن ينبهرون كثيرا بما حققته أو تحققه بعض البلدان ذات الاقتصاد الريعي كالنفط والغاز، ( الاقتصاد الريعي يعرفه بعض الاقتصاديين بأنه كل دخل دوري غير ناتج عن العمل ) بل إنني، وغيري كثيرون، لا أعتبرها في الحقيقة حققت شيئا يذكر في ما عدا " غابات " أبراج الخرسانة،
والطرق السريعة والجسور، والسلع والمعلبات المستوردة، ومظاهر الرفاهية الظاهرية.. إلا أن ذلك كله كان على حساب الإنسان الذي هو غاية ذلك كله، وهو من يفترض أيضا أن يكون وسيلته، بعد أن تسببت تلك الرفاهية في خلق أجيال من المدللين لا غنى لها عمن يخدمها بدء بتشغيل المصنع والمصفاة، وانتهاء بكنس البيت والشارع وإعداد الطعام ورعاية الأطفال!
وهو ما بدأت تلك البلدان تتنبه له وأصبحت تفكر في تنويع دخلها، وتغيير العقليات الاستهلاكية لشعوبها، لكنها اصطدمت بواقع تعود تلك الشعوب على العيش المجاني وتعذر فطامها عنه، وتحولها من معتمد على دعم الدولة والخدمات شبه المجانية إلى شعوب حية منتجة، فأصبحت أمام خيارين لكل منهما ثمن، فإما أن تستمر في الاعتماد على عائدات النفط، وفي ترفيه و" تتريف" شعوبها حتى إذا تم الاستغناء يوما عن النفط عالميا انهار المجتمع بانهيار الاقتصاد القائم عليه، أو تضع شعوبها أمام عواقب البقاء على سياسات الدعم، فيكلفها ذلك هزات اجتماعية لم تحصن نفسها ضدها في البدء، عندما اعتمدت الحكومات في علاقتها بمجتمعاتها على شراء رضاهم بمجانية الخدمات المقدمة لهم..!
ما يبهرني حقيقة، هي تلك البلدان التي جذرت ثقافة العمل والانتاج في روح مجتمعاتها من خلال تطوير نظمها التعليمية والثقافية والاجتماعية، وخلقت اقتصادا منتجا يقوم على عمليات إنتاج متسلسلة ينخرط فيها الكثير من الأفراد لتطوير مواردها إلى منتجات جديدة كلية، أي الاقتصاد الديناميكي الذي يحرك عملية الاقتصاد التي بدورها تحرك أنماط الحياة في المجتمع.
فقناعتي الراسخة هي أن مواردنا الحقيقية هي أولا إنساننا بتسليحه بالمعارف والعلوم، وبتنويره وتحرير طاقاته وعقلياته من كل الرواسب وعوائق العمل والإبداع والإنتاج، ثم أراضينا الزراعية باستصلاحها وإدارتها، واعتبارها موردا قابلا للتدهور في غياب البحوث والتطبيقات العلمية، ومياهنا السطحية بالتحكم فيها واستغلالها، ثم ثروتنا الحيوانية بتطويرها وعصرنة إدارتها وزيادة مردوديتها، ثم ثروتنا السمكية بتثمينها وعقلنة تسييرها، وبإدراجها كأحد ركائز أمننا الغذائي ومنظومتنا الصحية، حيث سينتهي الجوع بشقية نقص الغذاء أو فقره، ويختفي العديد من الأمراض عندما يصبع السمك أحد مكونات السلة الغذائية لكل الأسر خاصة منها تلك القاطنة بعيدا عن الشواطئ، بالإضافة إلى مقدراتنا الطاقوية المتجددة من شمس ورياح بالتركيز عليها والاستثمار فيها، وجعل كل واحد من هذه المقدرات في خدمة وتطوير المقدرات الأخرى، والحذر من أن تكون الاستفادة من أي منها مقتصرة على مجموعات أو أفراد، لأن ذلك هو أيضا أحد تعريفات الاقتصاد الريعي.. بل الحرص على أن تكون الاستفادة منها على شكل أفقي بخلق شبكات واسعة من المستفيدين مِنْ و" المفيدين " في تطوير وتثمين هذه المقدرات..
تلك في اعتقادي هي ثروتنا الحقيقية التي ينبغي أن تكون عائدات أي ثروات أخرى، بترولية كانت أو معدنية، مسخرة وموجهة لتطويرها لا سببا في إهمالها أو " التبطر " عليها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يبدو أن هناك من يعي هذا الجانب ويعتقد هذا الاعتقاد، إذ لا مجال من هذه المجالات إلا وتم استكشافه مؤخرا ووضع القدم على أولى درجات سلم تطويره والاستفادة منه، وإن كنت غير جازم ماذا كانت ستكون النظرة لهذه المقدرات لو كنا أصبحنا بلدا نفطيا، وانشغلنا بتعويض ما فاتنا من ترف غيرنا النفطي.. كوننا مجتمعا اتكاليا باذخا غير منتج وهو فقير، فما بالك إذا وجدنا أنفسنا فجأة أمام تدفق دولارات النفط ، ألن نصبح " جعان طايح فبسيسه " كما يقولون؟!
أشعر دائما أنه حتى ولو كنا نسبح على أنهار من النفط، فإنه لا بأس عندي في تأجيل استغلاله حتى " تعصرنا وتعركنا " ظروف الحياة، وتتفتح عيوننا أكثر، وتتحسن وتتوطد أنظمة ووسائل رقابتنا الذاتية، ونضطر ـ تحت ضغط الحاجة ـ لتشغيل عقولنا وطاقاتنا، ونتعود على قدر من المشقة والجهد والتعب والتفكير في سبل توفير متطلبات الحياة.. وقد بدأت أرى بعض ذلك، فقد رأيت شبابا يعملون بالشركات المعدنية تحت أشعة الشمس والغبار، ورأيت بعضهم يمارسون أنشطة إنتاجية كانت بعيدة عليهم، بل رأيتهم يمارسون الزراعة بظروفها الصعبة المتعبة، الزراعة التي قال لي أحد المزارعين مع بداية حلمنا النفطي إنها سوف تزدهر باستغلال النفط.. فقلت له إن العكس هو الذي سيحدث، إذ لن تجد الأراضي الزراعية من يلتفت إليها أو يتحمل مشقة استغلالها والمجازفة بالاستثمار فيها، في وجود أنشطة أخرى متاحة بفعل ريع النفط أسهل ممارسة وأقل مجازفة وأكثر وأسرع ربحا..
منذ ستينات أو سبعينات القرن الماضي، والشركة الموريتانية للزرابي في مكانها بمقاطعة لكصر بنفس البناية والوسائل ونفس الإنتاج، حيث ظل إنتاج هذه الشركة يقتصر على إنتاج قطع من السجاد وبكميات محدودة نظرا لندرة المواد الأولية المتمثلة في وبر الإبل، بالإضافة إلى نقص الموارد والوسائل اللازمة لتكوين العدد الكافي من اليد العاملة وتطوير وزيادة الإنتاج، مما جعل هذا النوع من السجاد يأخذ طابع إنتاج حرفي غالي الثمن لا يمكن تسويقه إلا من خلال عرضه في المعارض التراثية الدولية، أو باقتنائه من طرف بعض المؤسسات الرسمية كالرآسة والوزارات بهدف التشجيع.. فلا أثمانه متاحة للكثير من المستهلكين، ولا هو ملب لأذواقهم من ناحية ألوانه وتصاميمه أمام أنواع السجاد المستورد.
لقد ظلت هذه الشركة في مكانها ووسائل إنتاجها، لكنها مع ذلك كونت مجموعات من النسوة اللاتي أصبحن يتقن هذه الحرفة، ولا تزال قادرة على تكوين المزيد منهن لو توفرت لها الموارد، وهي بالتالي بنية تحتية قائمة سيكون من المفيد جدا استغلالها في قيام صناعة نسيجية بشكل أوسع، فقد تركزت اقتصاديات مهمة وقامت حضارات كبيرة على النسيج عبر التاريخ، كالحضارات الفارسية والعثمانية والصينية، ولذلك استمدت السجادة ( التركية ) عندنا اسمها من تركيا.. إلا أن السجاد الإيراني هو اليوم من أفخر أنواع السجاد العالمي بزخارفه وألوانه وملمسه وجودة خيوطه، وتصل عائدات إيران منه سنويا 440 مليون دولار و80% بالمائة من إنتاجه موجهة للتصدير.
لا يوجد بيت موريتاني، في الحضر خصوصا، إلا وبه سجادة على الأقل، ومن لا يستطيعون اقتناء السجاد الفاخر من المواطنين يلجأون لاقتناء الأنواع العادية منه، ذلك أنه من أساسيات أمتعة وديكور البيت الموريتاني.. مما يجعل صناعته بهدف تغطية السوق المحلي أولا صناعة مجدية بشرط أن تكون منافسة ومتنوعة وملبية لأذواق الجميع، وذات أسعار تأخذ في الاعتبار مستويات المستهلكين، ليكون منها الفاخر بالنسبة للقادرين، ومنها المتوسط ومنها ما دون ذلك. وقد تدخلت خيرية " اسنيم " مؤخرا في هذا القطاع وذلك بتمويل مراكز لتجميع الوبر داخل البلاد، لكن ذلك سيظل في إطار محدود يكرس النظرة لصناعة النسيج كنشاط تراثي، وليس كمورد اقتصادي هام لو أحيط بالعناية لعادلت مردوديته قطاعات حيوية أخرى، ولتفوق على تلك القطاعات بسهولة ممارسته في كل مناطق البلاد، وبقدرته على استيعاب أعداد كبيرة من نساء الريف العاطلات بل وحتى رجاله، فالنظرة السائدة عندنا بكون النسيج نشاط نسائي بحت هي نظرة تخصنا فقط لكنها ليست مسلمة، فالكثير من معامل النسيج بالعالم يشرف عليها ويشغلها رجال..
فالمطلوب إذن هو استيراد خيوط النسيج المتوفرة عالميا بنوعيات وألوان مختلفة، بالإضافة إلى أدوات وآلات النسيج اليدوي، وتكوين النساء على تقنيات النسيج الحديثة، وأنا متأكد من أن النساء الموريتانيات قادرات بعد تكوينهن على إنتاج أنواع فاخرة من السجاد بنمنمات ورسومات هندسية وألوان لا تقل جودة عن تلك المستوردة والموجودة اليوم في الأسواق المحلية، ولا تعارض بين إقامة معامل نسيج عصرية بهدف تجاري، وإبقاء شركة الزرابي على الجانب الحرفي التراثي من إنتاجها إذا كانت ترى ضرورة للإبقاء عليه..
والنسيج يتميز دون غيره من الأنشطة بكونه أحد الأنشطة غير المعقدة، والتي لا تتطلب مستوى من التعليم ولا الكثير من الوسائل، حتى أنه يمكن تركيب آلات للنسيج اليدوي في غرفة من طين أو كوخ من قش في قرية نائية.. ومن المعلوم أن أريافنا وقرانا تتميز بهجرة الرجال إلى المدن بحثا عن عمل وبقاء النساء بدون عمل ما عدا أعمال المنزل، ولنتصور المداخيل المهمة التي ستدرها صناعة النسيج لو تم تكوين مجموعة من النسوة بكل قرية وكل مدينة وتزويدهن بخيوط وآلات النسيج، على أن تكون تلك الوحدات الإنتاجية تحت إدارة وإشراف وتأطير تنسيقية واحدة، وخير من يتولى تلك التنسيقية هي شركة الزرابي الحالية " ماتيس " بحكم خبرتها وتجربتها الطويلة في هذا المجال، لتكون المناطق الداخلية مناطق إنتاج، وتكون العاصمة مركز تجميع وتسويق. فالملايين التي يتم تخصيصها سنويا للتعاونيات النسوية، والتي تصل لكل تجمع نسوي بمبالغ ضئيلة بسبب كثرة تلك التجمعات فتضيع دون أن تكون لها مردودية، لا على الدورة الاقتصادية ولا على التعاونيات نفسها، لو تم توجيهها لإنشاء مجمعات نسيج في الداخل لكانت فائدتها أكبر وأعم.
نحن أيضا كما هو معروف بلد ثروة حيوانية معتبرة، أنشأنا لها مؤخرا وزارة خاصة أطلقنا عليها وزارة البيطرة، وإن كان الأنسب تسميتها وزارة " الإنتاج أو الاقتصاد الحيواني " الذي هو كلٌ يشمل كل ما يتعلق بالثروة الحيوانية، من تربية وانتجاع ومراعي وأعلاف ولحوم وألبان ومشتقاتها بالإضافة إلى الجلود والقرون والأظلاف.. وليست البيطرة التي تُعني فقط بالجانب الصحي للحيوانات سوى جرء من ذلك الكل. مع أن تسمية القطاع لن تكون هي المحدد لنجاحه أو فشله، وبالتالي فما قلناه هنا ليس سوى " فكرة اعتراضية " تنطلق من تسمية الأشياء ـ عادة ـ تبعا لمدلولاتها..
ففيما عدا الجزء اليسير الذي تستوعبه الصناعات التقليدية الجلدية مما تنتجه المسالخ يوميا من الجلود، فإن وجهة الباقي منها هو التلف، أو ما يشتريه أجانب بأثمان بخسة يقال إنهم يصدرونه لنيجيريا التي تعتبر الجلود مادة غذائية في بعض مناطقها! في الوقت الذي لدينا صناع تقليديون مهرة منذ عقود وهم يُشغلون معامل بسيطة لصناعة أنوع جيدة من النعل، لكنهم أيضا، على غرار شركة الزرابي، يعانون من نقص الوسائل والموارد، ويعتمدون على وسائل بدائية مما يجعل ما ينتجونه من النعل محدود الكمية وغالي الثمن!
هذا النشاط لو أحيط هو الآخربالعناية، وتم النظر إليه كنشاط له مردودية كبيرة، فسيكون له أثر كبير في مجال التشغيل واستغلال الموارد المحلية، لكن ذلك لن يتحقق إلا بإدخال وسائل الإنتاج العصرية في صناعته، كالتقنيات الحديثة لدباغة الجلود وصباغتها وتلميعها وتقويتها وأدوات نقشها وماكينات الخياطة الخاصة بها، وكلها متوفرة في الأسواق العالمية، ولا ينقص سوى طلبها ومن ثم تكوين الصناع، وكل من لديه موهبة في هذا المجال على هذه الأدوات، وإقامة وحدات إنتاج عصرية يتم التركيز في إقامتها على المناطق الداخلية أساسا لتشغيل العديد من العاطلين عن العمل هناك، وخلق أنشطة موازية بعضها لجمع وإعداد الجلود، وبعضها لدباغتها وتلميعها، وبعضها الآخر للإعداد النهائي والتصنيع، وذلك لتوسيع شبكة المستفيدين. ومهما تكن نوعية هذا النعل فإنها ستظل ذات جودة أعلى من الكثير من المنتجات القادمة من الصين مثلا والتي أغلبها ابلاستيكي، وستتميز عنها بكونها صناعة وطنية تطال فوائدها وعائداتها أكثر من جهة.
وطبعا فإنه من المطلوب مرافقة الطموح لهذه الأنشطة الانتاجية، سواء كانت نسيجا أو صناعات جلدية، حتى إذا ترسخت واستوطنت تكون الخطوة الموالية هي تحويل معامل صناعتها يدويا إلى مصانع آلية للتوسع في الإنتاج والبحث عن أسواق عالمية لتسويقه، فإذا كنا لم نمتلك بعد التقنيات والموارد اللازمة للصناعات الثقيلة، فإن الصناعات الخفيفة في متناولنا وهي الأنسب لنا حاليا، وخصوصا منها تلك التي نمتلك موارد بشرية صالحة لها..