ينقسم المجتمع في رؤيته للوحدة الوطنية إلى مجموعات متباينة مما جعل من هذه القضية قضية مستعصية على الحل
فمن المجموعة الأرستقراطية التي ترى أن مطالبة الأرقاء والمهمشين القدامى بحقوقهم يترتب عليها سلْبَ مكتسبات البعض ممن يرون أن على الرقيق والمهمش ألا يطالب بحقه
في الحرية والعيش الكريم وأن يظلَّ تابعا كأنما خلقه الله لخدمة الغير ولتمجيده وبالتالي على المهمشين أن لا يتطلعوا لحقوق لا يرى فيها غير المنصف إلا القضاء على مآثر تاريخية قد لا تكون منصفة.
أما مجموعة الفقهاء فإنهم يستندون الى مقولة مشهورة يعملون بجزء منها متناسين الجزء الثاني وهي: العادة كالشرع والجزء الذي تناسوه هو: ما لم تخالفْ
فمما لا خلاف فيه أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال (ألا إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
فهم يدعون الأعراض تنتهك لأنهم اعتادوا انتهاكها من المجتمع فأصبح انتهاكها عادة فانتهاكها إذن من الشرع بالنسبة لهم فإذا سألت أحدهم في هذا المضمار أفتاك بأن هذه عادة عند المجتمع والعادة كالشرع فإذا بينت له مخالفتها للشرع قال لك بأن المجتمع لا تنفعه الذكرى وتلا عليك قوله تعالى ((فذكر إن نفعت الذكرى )) مع أن فهمه للآية غير صحيح لأن الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول مخاطب بها ولم يشترط عليه تحقق الانتفاع بالذكرى حتى يُذَكِّرَ بل قيل له ((فذكر إنما أنت مذكر )) والأدلة كثيرة لا تحصى على أن تحقق الانتفاع بالذكرى ليس شرطا فمنها ما جاء في خبر أصحاب السبت إذ صوّب الله تبارك وتعالى فعل الذين نَـهَوْا وسكت عن الآخرين حيث قال ((وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين يَنْهَوْن عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيس بما كانوا يفسقون (165) الأعراف
ومن هذا يتبين أن "إن" الواردة في سورة الأعلى تفصيلية وليست شرطية
وإن اعتبرنا جدلا أن تحقق الانتفاع شرط في التذكير فلماذا لا يهاجرون عن هذه الأرض التي تنتهك فيها الأعراض وينتشر فيها الظلم لئلا يقعوا في ما وقع فيه علماء بني إسرائيل حيث قال فيهم الله تبارك وتعالى ((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )) (79) المائدة
فإن صاحب المنكر إذا نُـهِيَ عنه ولم ينته لم تجز مخالطته بعد ذلك وهذا مما اتفق عليه أهل العلم
أما والحال هذه فإنه يتضح من أن الفقهاء في هذه الأرض المتصوفين الذين عدلوا الى عقيدة أبي موسى الأشعري التي عدل عنها فما صح عنه عن عقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده وبتصوف غلاة المتصوفة من المتكلمين عن تصوفه صلى الله وعليه وسلم وأصحابه وبرأي مالك اكتفاءا عن ما جاء به صلى الله عليه وسلم مدعين أن الكتاب و السنة لا تتأتى الاستفادة منهما إلا لجماعة المجتهدين الذين زعموا انعدامهم مع أن الله تبارك وتعالى أخبر أن هذا القرآن نور في غير ما آية من كتابه حيث قال (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) (52) الشورى
كما قال سبحانه ((الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم)) الآية (35) النور
فمن المعلوم أن عدم رؤية الشمس لا يعني أنها ليست منيرة وإنما العلة في بصره هو كما قال الشاعر
خفافيش أعماها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم
مثل النهار يضيئ أبصار الورى ويعمي أعين الخفاش
فإن مالكا رحمه الله لم يرضَ أن يحمل أمير المؤمنين في عهده الناس على الموطئ والمدونة وعدل أبو الحسن الأشعري عن عقيدته أما غلاة المتصوفة فإن طريقتهم في التصوف تكرس التبعية وعدم المساواة بين الأفراد فهي تدعو الى التراتب الاجتماعي على أساس في زعمهم ديني يقدس الأسرة المربية ويجعل منها واسطة بين الأفراد وربهم ويطلب منها النفع وكشف الضر وهذا مما يخالف المنهج النبوي والصراط المستقيم فكيف لمنهج يخالف الصراط أن يحقق الوحدة الوطنية .
أما المجموعة الثالثة فهم المثقفون والعامة فإنهم في حيرة من أمرهم فإنهم وجدوا أمامهم صنم التراتب الاجتماعي الطبقي مغلفا بغطاء شرعي والشرع منه براء براءة الذئب من دم يوسف .
أما المجموعة الرابعة فهم الأرقاء السابقين والمهمشون فيوضع أمامهم صنم آخر هو القبول بالتهميش والدونية أو الدخول في حرب أهلية هذا ما يقوله لسان حال المجتمع أي ليس لكم إلا أن تقبلوا ما أنتم عليه أو تفضلوا نتصارع بالسيف كما هي الحال في هذه البلاد من قبل .
وهذا التباين في رأيي ليس مخططا له من قبل الأنظمة المتتالية في هذا البلد اللهم ما كان من دور للنظام المؤسس أما المسؤولية عن تحقيق الوحدة الوطنية فهي على عاتق العلماء والمثقفين ولا أرى في التخندق المذهبي الصوفي المالكي الأشعري طريقا لتحقيق الوحدة الوطنية بل يزيدها تشرذما كما هي الحال في الأمة الإسلامية اليوم وإنما الحل في الرجوع الى العقيدة الصحيحة أي ما كان عليه صلى الله عليه وسلم إذ أن الحق لا يتعدد والصراط المستقيم واحدة كما بينه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ذراعا بذراع قيل أ اليهود والنصارى قال فمن ) ودلالة هذا الحديث وحديث الطوائف المعروف تعني اختصار الطريق المستقيم على طريقه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وزيغ من حاد عنها مؤولا كان أو غير ذلك .
في هذا المضمار فإني أرى ما ذهب إليه حزب تواصل في رؤيته التي تقدم بها وإن كانت لا تخلو من طابع سياسي يمكن أن يكون أساسا للحوار من أجل الوصول إلى وحدة وطنية حقيقية تبنى على أساس إسلامي صحيح يستمد أسسه من الكتاب والسنة.