بدأت قصة "موريس بنك" تخرج للعيان منذ سحبت رخصته، ووضع مديره السيد "أحمد مكيه" في السجن هو وبعض مساعديه، ليبدو الأمر في البداية حماية للمودعين وزبناء المؤسسة، في الوقت الذي تحمى فيه أيضا العامة من مخاطر الانزلاق في الإيداع، لدى بنك انهار رأس ماله فجأة،
مؤذنا بفصول مما يثير الفضول، في وطن لطالما ظل بلد عجائب وغرائب.
وتتالت الحلقات، فأقيل محافظ البنك المركزي سيد أحمد/الرايس، وبعده أقيل مدير صندوق الإيداع والتنمية أحمد/بوي أحمد، لتتسع دائرة الحلقة المفقودة في حقيقة "موريس بنك"، وليكشف التحقيق خفايا، تنشر بين الفينة والأخرى، ولا تهم في حد ذاتها في بلادنا، التي تغيب فيها المفاهيم الحقيقية للأشياء، وتظهر مكانها الأبعاد الاجتماعية للأمور، التي يتم فهمها في سياق القبيلة "أولا"، وفي سياق توجيه العدالة "ثانيا"، والتماهي بين ما هو وطني، وما هو تجاري، وما هو إنساني اجتماعي "ثالثا"، فيما تبقى قضية ودائع السفارة مهمة جدا "رابعا"، وهي تصورات أساسية في الفهم.
فالقبيلة -هنا- تعنى أساسا برفض القانون، وتعتبر القضية من بدايتها توجها ضد مصالحها ككتلة، واستضعافا لها، ومساسا بقوة شكيمتها وعزيمتها، ولذا كان هذا الوطن يشهد دائما تظاهرات وتمظهرات تجوب الشوارع، وقوفا مع مساجين القبيلة، لا سيما إن كانوا من العيار الثقيل، الذي يمتلك أصحابه رأس المال، وينهضون في مجال الأعمال بقوة.
وبالنسبة لي أعتقد ككاتب لهذه السطور أن وقوف قبيلة أحمد مكيه مع "أحمدها" هو أمر مقبول مبدئيا، وليس سيئا بتاتا، فتاريخيا ثمة قبائل وقفت مع أبنائها في محنات سيئة، لا تتعلق بإفلاس بنك، بقدر ما تتعلق ببيع النهر، أو رهن البحر، أو بيع خطوط جوية بأسطولها، على أن قبيلة ولد مكيه من قبائل الشمال المشهورة بالكرم والعطاء و" الزريك "، فيما ... .
أما توجيه العدالة، فأهم ما فيه من خصال هو أن يغلق بنك دون تطبيق عمليات الانقاذ المقررة له قانونا، فلا تطبق مساطر صعوبات المقاولة في البداية، وتسحب رخصة البنك من قبل البنك المركزي، وفي البداية -أيضا- يحال الملف للعدالة بسرعة البرق، فتبدو الأمور تصعب، وتتشابك خيوطها.
أما التماهي بين ما هو وطني وما هو تجاري، فيظهر في حالة الترابط الوثيق بين مشاكل "موريس بنك"، وبين البنك المركزي الموريتاني، بحيث يتم الحديث عن تقديم ضمانات ناقصة عند فتح البنك المفلس حاليا، ومن ثم التواطؤ بين المركزي وموريس لإبقاء الأخير حيا بأرقام كاذبة بحسب الشائع، والتلاعب بالأرقام على الورق، وفي النهاية يطحن موريس مأمورية ولد الرايس طحنا، فينهيها بعد سنين من الحب والود جمعت الرايس بصاحب القرار الأول، الذي أبقاه محافظا لسنوات، جعلت منه أحد خلصائه، وسمحت للذاكرة الشعبية أن تنسج حولهما أقاصيصا تدور حول "المال، والصداقة، والسر الخفي لأموال الشعب"، ما يعني ضرورة رجوع ولد الرايس للواجهة بعد أيام، ما دام مقدس السر.
أما التماهي فيما بين ما هو تجاري، وما هو إنساني اجتماعي، فيكمن في حالة الترابط القائمة بقوة بين انهيار "موريس بنك"، وبين إقالة أحمد/بوي أحمد، الذي بحسب الشائع المشاع أوكل له صاحب القرار الأول مهمة إنقاذ حياة موريس، لكنه تباطأ، فلم يسرع به نسبه في هذه الحالة، وسقط في فخ "لعنة موريس" على المسؤولين، وكان من المفترض عند الرأي العام أن تكون عمليات صندوق الإيداع والتنمية موجهة للعمل الإنساني، على شكل قروض للضعاف المحتاجين من حملة الشهادات، وأصحاب المشاريع، وعديمي الدخل، لكن موريس العملاق –كما كان مفترضا- كان أحوج لإسعافات الصندوق من شعب ذاق الويل في "إحسانيات" كاذبة، آخرها تقاسم الذئاب البشرية من جوقة المال والإدارة حسب الذائع للحوم السعودية على أعين الفقراء لعلهم يشهدون.
وسيعود ولد بوي أحمد من بوابة أخرى-قدس الله سره-، كما قدس سر صاحبيه: ولد الرايس، وجامبار، أو هكذا علمنا خبراء عالم الكهنوت، وعالم الناسوت واللاهوت، وهكذا يشرح المتفيقهون في عوالم "البنكنوت"، وحقيقة "النهبــــنوت" الوطني.
أما ما يتعلق بفرض القرار الخارجي وطنيا، فهو الحديث عن دور السفارة الأمريكية في فرض الأمر الواقع على موريس بنك، وعلى الجهات المختصة في الدولة، بحيث أن عدم تمكن السفارة من سحب بعض ودائعها المودعة لدى البنك، كانت وراء وضع الأختام والأقفال على أبوابه، وسحب رخصته، ووضعه أمام العدالة، وهذا الأمر يفهم منه الكثير، فالوطنيون من المودعين والمؤتمنين ليسوا من الأهمية بمكان نظرا لضعفهم عن مجابهة التزاوج بين السلطة والمال، الذي تظهر مضامينه مقروءة في قضية موريس، لكن عندما يتعلق الأمر بودائع لسفارة القطب الواحد، بالنسبة لمن مر يوما بالقانون الدولي، أو بالعلاقات الدولية، ومفاهيم الحرب العالمية الثانية فإن الأمور تبدو مفهومة، و لا بد أن تأخذ منحى آخر، فسفارة الولاية المتحدة ليست لعبة يتأرجح فيها المتأرجحون.
ولا ننسى السياق العام لقضية "موريس بنك"، وهو سياق حرج، تتدافع فيه نخبة الوطن لرهن مصيره ومساره لعلها تترشح لمأمورية أخرى، فيما سيتم تغيير مادة دستورية حلفت الأيمان المغلظة فيها على بقائها، وستنسف، وستعاد البلديات والنيابيات مرة ثانية في سياق أسلوب المحاصصة البديع، وكل ذلك يحدث خدمة للشعب.
وخدمة للشعب يعج المناخ الوطني حاليا برياح محاكمات قريبة-ربما- سيتعرض فيها القضاء بالتمحيص، والتدقيق لأموال الخزينة العامة المنهوبة على مدى سنوات، والتي عصفت هي الأخرى بوزير المالية المقال اتيام/جمبار، الذي سيعود من باب مجلس الشيوخ –حسب المسرب-، ليكون نال جزاءه المعتاد، فكلما فشل أحدهم في تحمل الأمانة صار رأس "المشيخة"، وترقى الدرجات، ونال التكريمات، وبلغ الأماني، وحظي بالتهاني.
وسيتعرض القضاء لحالة الإفلاس، التي وضعت فيها الأيادي الآثمة شركة الكهرباء الوطنية، تلك الشركة التي تقاسمتها الضباع والذئاب والسباع البشرية، التي لا ترحم، وليست من رحم يرحم، فهذا الوطن تاريخه الحقيقي هو تاريخ السلب والنهب والحروب القبلية، والقتل بالأوفاق والجداول والسيوف والرماح، أما التاريخ الآخر فهو تاريخ مشكوك فيه.
وإذا كان المناخ هو ذلك، فإنه أيضا ينطبع حاليا بطابع معالجة ملفات العنصرية، فبيرام/الداه وأزلامه يتساقطون في الفخاخ والمصائد –بحسبهم-، فيما يدرس رعاتهم الخارجيون امكانية سعاة الصفر، التي أعدوا لها –بحسب خبراء ومحللين-، والسفير الأمريكي الجديد يعالج الأمور، وكأنها أخطاء إدارية في سفارة بلاده، ولا نشكك شخصيا في أنه صاحب الحل والعقد عالميا ووطنيا في كثير من المشاكل، فأمريكا دولة التدخلات القوية، وتفرض سياستها وفق ما تراه هي من مصالحها المصونة بالقوة والسلاح.
ذلك هو مناخ قضية موريس التي تترجم بجلاء حقيقتنا، فمن خلال نظام "الكومسيوه" يمكن فهمنا وفهمها، كما أنها توضح حقيقة برامجنا الإنسانية الاجتماعية، التي يتكالب أقوياؤنا عليها، فالفقراء منا ساعة التقسيمات والمساعدات هم الأغنياء النافذون، وفي حيانتا لم ننقذ فقيرا حقيقيا من مزابل أخطائنا، التي نشرناها في البر والبحر، شاهدة على أن الفساد والسرقة والرشوة عاشوا على أديم أرضنا بعزة وكبرياء.
وتحتاج قضايانا لوقفة طويلة جدا، وفتح ملفات كثيرة جدا، ومن حكمة الشريعة الإسلامية أنها أعلمتنا وحذرتنا من "وقفة طويلة جدا جدا جدا ....".
وسنعود إلى موضوع "البنكنوت" الموريتاني في كتابة أخرى، نتعرض من خلالها للقروض المجحفة، وازدهار الربويات في بلادنا الإسلامية، وستكون البداية مع شنقيط بنك بحكم زبونيتنا له.