في زمن لا أدري متى هو!!.. وفي مكان قريب من حاسوبي، وضعت "خوذة البيظان" على رأسي، وتمددت باسترخاء داخل آلة رقمية افتراضية تتنقل بين المنافع من أجل تحديد نسبتها!!.. في بُعد سابع، أو ثامن، لا أدري، ارتشفت كأسا من الشاي الساخن وأنا أتأمل الشاشة الرقمية المعقدة التي تقابلني..
إنها تشير إلى اقتراب الآلة السابحة في ذلك الفضاء الرقمي من أحد الثقوب البيضاء!! لا تعجب فالثقوب السوداء الموجودة في الفضاء الخارجي تبتلع كل شيء، أما الموجودة في فضاء هذه الخوذة فتتقيء كل شيء!!
تم اكتشاف "آلة البيظان" في عام 2015 من أجل التنقل بين المنافع واستقصاء درجة فوائدها!! اخترعها شعبي العزيز من أجل تسهيل تحصيل منافعه!!.. تمخضت الآلة عن جهد علمي جبار قام به بعض التجار في ظل مشروع سري جبار حمل اسم "الكبة بروجكت Z"، تكلل باختراع الآلة التي تنافست على ملكية حقوقها وأرباحها كبريات الشركات العالمية!!.
كنت أتصفح الإنترنت كعادتي، فإذا بموقع "الحرية" - المقيدة طبعا، فلا شيء مطلق السراح تماما في هذا البلد!!-، يعرض خبرا مفاده أن "المجلس الأعلى للشباب يفتح المجال أمام كل الشباب الراغبين في الإنضمام إلى مجلسه التنفيذي"!!
فرحت وحزنت في آن واحد، فرحت لأنها فرصة للتحقيق بعض المصالح الأخرى!، وحزنت لأن السباع الشابة تتطاحن عليه الآن!..
لكني استغربت للمركز المطوب، فالشباب الحائر مدعو إلى الترشح للمجلس التنفيذي!! عجبا، أيعقل هذا، من أروقة الشارع والبطالة إلى المجلس التنفيذي مرة واحدة!! وعبر الإنترنت.. عالم الدعايات والأكاذيب..
إذا كان النجاح في مسابقة حقيقية يتطلب الفوز على نصف سكان البلد، والنجاة من عسر الوساطة، والمرور من تحت أعين الظلمة الذين سيدخلهم أقرباؤهم الذين جروا إلى وظائف الناس بغير حق، في جهنم! إذا كان النجاح في تلك المسابقة التعيسة لا يوفر لصحابه سوى مرتبة صغيرة تمكنه من العيش كمحروم في هذا البلد، فما بالك بما وراء عضوية المجلس التنفيذي للشباب من منافع يحلم بها أكثر العاطلين عن العمل الآن!!
على كل حال، لن أخسر شيء بالتسجيل، كما لم أخسر شيئا من قبل - فيما عدى الطوابع الجبائية - في إيداع أكثر من ملف لدى أكثر من هيئة مسابقات لعينة!! وكما هو متوقع فإن التقدم السياسي في المجلس يشبه التقدم السياسي في الحزب الحاكم حسب ما أعتقد، وقد يساعدني في بناء منزل في تفرغ زين، والزواج من الشابة الزينة!!..
لا تقل لي إن هنالك من يحمل هم بناء هذا الوطن أكثر من حمله هم بطنه وفرجه!، لكن قل لي "قد يهتم بوطنه إضافة إليهما"، لأصدقك!، ومثل هذا إن وُجِد، فهو في بادية نائية، يتبع بعيره، شاردا بدينه ونفسه!..
لكن.. أيُعقل أن يعلن مبتكروا "مجلس الشباب" الذين يحتفظون بكامل حقوقه، وأرباحه بطبيعة الحال!، عن مشاركتهم للمتسكعين!! هل هي لعبة سياسية تافهة أخرى يضحكون بها علينا؟.. هل يبنون بيتا عاليا من التصفيق لا أصل له، ويدعون الناس إلى الجلوس فيه!!
سأستخدم الآلة لأتأكد من أنني لن أضيع وقتي في ما لا يفيد، فنحن البيظان لا نفعل إلا ما يعود علينا بالنفع!، واختراعنا هذا هو أعظم اختراع في الوجود!
لقد رأيت أكثر من 5 ملايين، عفوا، أكثر من 5 آلاف شاب وشابة في لقاء الرئيس السابق!.. كان من بين الحضور كثير من المهرجين والناعقين، وأيضا الصالحين!! ولن أنسى ذلك الشاب الطريف الذي أثار انتباه الرئيس باستغلاله فرصة اللقاء لإضفاء جو من التضحية والبطولة - لا ثمن لها إلا التعيين!! - على انفصاله عن المعارضة في سبيل الإرتماء في أحضان مشروع الرئيس!! أو ذلك الصحفي النحيل الخجول المعارض الذي حيرته مقابلة الرئيس المدافع عن مشروعه، وجعلته يتعثر في معارضته وكلماته ونظراته!!..
هل سيتركني القائمون على هذا المجلس أتدخل في شؤونهم، وأشاركهم في منافعهم، أنا الغريب المجهول؟!..
يعترضني الآن ثقب دودي، ومن المعروف أن الثقوب الدودية المعتادة تربط بين المجرات البعيدة، وتختصر الطريق على المسافرين بينها (إن وُجدوا)، لكن ثقوب هذا العالم الرقمي الصغير تقودك إلى القصر الرئاسي مباشرة!!..
تفاديت الثقب الدودي الرئاسي بصعوبة.. اقتربت من مقر حزب التكتل، المؤشر يشير إلى عدد سالب!! أمر الآن أمام إحدى المنظمات الحقوقية السخيفة.. المؤشر يشير إلى ما لا نهاية من السالب!!.. أمر من فوق كوخ متواضع صغير مرمي في أطراف العاصمة، تعلوه مئذنة صدئة ينبعث من حولها نور متوهج، إنه مسجد صغير مبارك.. يرتفع المؤشر - فقط أمام المساجد - إلى ما لا نهاية من الموجب!!
اقترب الآن من مقر الشباب!.. جن جنون المؤشر، إنه يصفق كثيرا - ربما مثل الشباب -.. لقد توقف تماما عن الحركة، وظهرت رسالة غريبة على الشاشة تقول: "نجوم السماء أقرب لك من الإنتفاع مع هؤلاء!!"..
نزعت الخوذة عن رأسي بإنهاك.. لقد تبخر الترشح، وتبخر معه المجلس.. قمت بحذف الموقع والشباب من متصفحي.. علي أن أسجل أولا في قائمة التائبين من هذا الإرتزاق..