مازال السياسيون يُجهدون أنفسهم في الحديث عن حوار مرتقب يجري في ظل ديمقراطية "استعراضية"،بين أجنحة سلطوية متنافسة. إن الديمقراطية هي في الأساس مفهوم مُتنازع عليه بين أنظمة الهيمنة الحزبية وقوي النفوذ السلطوية التي يأخذ الحوار بينها أشكالا مختلفة،
ولكنها لايمكن أن تتجاوز عتبات الفشل المتواصل منذ أول تلك الحوارات إلي الآن. فماهي الأسباب التي تدعونا إلي الجزم بفشل الحوار قبل أن يبدأ؟ ..وهل حان الوقت لكي نبدأ في البحث عن ما يحقق انتقالا ديمقراطيا حقيقيا ؟
الديمقراطية كمفهوم سياسي وثقافي واسع ،غير محدد وغير مستقر ، لايمكن أن تتحقق بصورة فعلية إلا من خلال عمليات بناء طويلة ومفتوحة .والانتقال الأوتوماتيكي الذي روجت له "لبروبوغاندا la propagande " الغربية ،ليس صادقا أو معقولا ،فكل بلد ينتمي لثقافة مختلفة وتاريخ من الممارسات الاجتماعية والسلطوية الخاصة به ،لابد له أن يتحرك في إطار خطة "انتقال ديمقراطي" مدروسة وواعية ،لها أهدافها وأجندتها ومتوافق عليها شعبيا .. والمفاهيم التي ترافق الديمقراطية الحديثة، كالأحزاب السياسية ،ومنظمات المجتمع المدني ،ومنظومات القوانين ، والمواثيق الدستورية، كلها لاتزال عاجزة عن تحيق أهداف التحول الديمقراطي المنشود ..فالأحزاب والمنظمات القائمة تعمل خارج الأطر الصحيحة للممارسة الديمقراطية الواعية وتعيد إنتاج الواقع القديم بكل قيمه ومعطياته المتخلفة وتضعه في ثوب "ديمقراطي استعراضي"..
إن هذه الديمقراطية الاستعراضية هي مايجري الحديث عن حواراته هذه الأيام، وهي ما يتم بواسطته تقاسم النفوذ والاستحواذ علي ثروات الشعوب في بلادنا وغيرها ...إن المتمعن في سلوك المتحاورين يدرك عمق الفجوة بين مايتحدثون عنه لوسائل الإعلام وما يمارسونه في الواقع السياسي داخل أحزابهم ومنظماتهم ومراكزهم السلطوية ....
إن التوافق في الحوارات السابقة لايصب في مصلحة المواطن الموريتاني ولايهدف إلي تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي توافقي مدروس وملموس،لكنه يوفر فرصة للأشخاص المسيطرين علي المواقع السلطوية( في المعارضة والنظام)، ويلبي طموحا نفعيا محدودا ومؤقتا ،ويتجاهل تماما أي بناء جدي لمستقبل مشرق ، يحقق من خلاله المجتمع كله أهدافه الكبيرة في الرقي والازدهار..
ولو تناولنا الآن شروط المعارضة الوطنية للدخول في حوار بناء مع النظام ، فسنجد أنها تتركز حول توفير آليات تضمن الشفافية في الانتخاب... ونحن نعلم أن الديمقراطية الاستعراضية في الدول المتخلفة لاتُنتج أكثر من "سلطويات انتخابية"هي نفسها أكبر عائق أمام بناء قواعد متينة للديمقراطية الواعية ..
فمالذي يعنيه أن ثلثي البرلمانيين والعمد والشيوخ الموريتانيين هم أشخاص لايمتلكون الكفاءة أو المعرفة الضرورية التي تُخولهم خدمة الأهداف الديمقراطية التي يتم انتخابهم من أجل بلوغها ؟
بل إن ممارسة المنتخبين الموريتانيين هي نفسها ماظل يمثل أخطر التحديات التي واجهتها المسيرة الديمقراطية في بلادنا ..فمن التسول في مكاتب الوزراء ..إلي الوساطة لحصول الأشخاص غير المؤهلين علي الوظائف في الدولة..إلي حماية من يُعاقبهم القانون حتي إذا كانت جرائمهم كبيرة.. إلي تشريع كل الانقلابات التي جرت حتي الآن.. إلي التأييد المطلق لكل إجراء تتخذه الحكومات مهما كان متناقضا مع مصالح مُنتخبيهم ...كل ذلك يعبر عن فشل متواصل تراكمه الديمقراطية الاستعراضية التي تمارسها القوي السياسية المُعارضة ... أما الموالاة - فحدث ولا حرج- فالأحزاب داخلها مجرد وسيلة للتكسب والتملق والتنافس الشرس علي المنافع التي تدر بها جيوب من في السلطة من العسكريين أو المقربين منهم .ولاتحمل تلك الأحزاب أو المنظمات الداعمة للأنظمة الحاكمة كلها أي مشروع سياسي حقيقي، ولكنها تمارس أدوارا جدية في مسرحية الديمقراطية الاستعراضية.إن ما طرحته وستطرحه تلك الأحزاب في الحوارات السياسية (المسابقة والقادمة) هو ما يُمثل بكل تأكيد موقف حاكم البلاد وإرادته في التوافق وقبوله بالتنازل .فهم موافقون إذا قرر ذلك الحاكم (الكهنوت) تعيين رئيس لحزبهم من العارضة !. ومؤيدون أشد التأييد إذا زج بكبرائهم ووزرائهم في السجون !ومصفقون بارعون إذا أدلي بحديث أو تصريح من أي كلام كان أمامهم !...
إن مايطمح إليه المواطن الموريتاني هو استعادة واعية لزمام المبادرة من أجل تنمية الممارسة الديمقراطية وتحقيق الانتقال السلمي إلي الديمقراطية المدنية من خلال شروط واضحة وغير متضمنة في بنود الحوارات السابقة وهي:
- إعادة تأسيس الأحزاب السياسية الوطنية ،بحيث تكون :ديمقراطية ومحدودة العدد ومدعومة ماديا وإعلاميا من الدولة ، لكي تنهض بمشروع التحول الديمقراطي علي المستويات الاجتماعية والسياسية كافة....
- صياغة نظام جديد يحدد معايير اعتماد المنظمات والهيئات المدنية استنادا إلي المؤهلات الحقيقية والوعي المدني الصحيح ..
- إنهاء تسلط الجيش علي السلطة من خلال المنع البات لتولي العسكريين رآسة الدولة بأي وسيلة كانت .
- وضع المعاير المهنية لكل قطاعات الدولة ومراجعة جميع التعيينات في الوظائف الحيوية والعامة استنادا إليها ..