كلمة الإصلاح هذه المرة ستتوجه إلى مساجد المؤسسات الرسمية التي أصبحت ولله الحمد منتشرة وشبه عامة في جميع المؤسسات الحكومية الرسمية العامة منها والخاصة المدنية منها وكذلك المؤسسات الأمنية والعسكرية .
وهذه ظاهرة جديدة نشكر الله عليها حيث وفق القائمين على هذه المؤسسات ببناء هذه المساجد للعمال بجانب عملهم اليومي ليؤمن المسلم بذلك أداؤه لأعظم وأهم أركان الإسلام في وقتها كما قال تعالى:(( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)) أي مؤقتة بزمن لا يجوز تأخيرها عنه فالمولى عز وجل جعلها من أهم وأعظم أركان الإسلام حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن أداء المسلم لهذه الصلاة يكون علامة للفرق بينه وبين الكافر فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : .
كما أن النصوص متواترة على أن الصلاة هي أول من يبدأ به للنظر في سجلها يوم القيامة فمن سلم منها فما سواها أهون ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع .
فوجود هذه المساجد للصلاة فيها يـبين استعداد المصلي في الجماعة لمناقشتها يوم القيامة إلى جانب العمل اليومي الدنيوي لصالح المسلم نفسه وهذا يلخص هم المسلم في الدنيا : درهم لمعاشه أو حسنة لميعاده كما يفند وجود المسجد بجانب العمل للآخرة مقولة بعض العلمانيين بفصل الدين عن الدولة مع أن هذه المقولة لا يمكن أن تصدر من مسلم ولو كان علمانيا لأن كونه مسلما يمنعه من ذلك الاعتقاد المنبئ عن قصر النظر في حياة الإنسان وما يحيط بالإنسان .
فالعلماني بمعنى الاشتغال بالعلم في جميع ميادينه التفكيرية والنظرية والتجريبية المتعلق بكل شيء خلقه الله في السماء والأرض وما بينهما ، فهذا الاشتغال في العلم مطلوب للإسلام ويمدح عليه المسلم فهو مأمور به إسلاميا يقول تعالى ((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور )) .
أي بعد ذلك إليه تحشرون ويقول تعالى : (( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) أي استعملوا أفكارهم العلمية في معرفة ما سخر لكم لصالحكم من كل ما في السماوات والأرض جميعا وذلك تفضلا منه .
ومن هنا أشاد الإسلام بهذا النوع من اكتساب العلم فقال تعالى : (( ويرى الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك )) ويقول تعالى : (( بل هو آيات بـينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون )) .
كما أن المولى عز وجل حصر الخشية منه في من أتاه الله العلم يقول تعالى: (( إنما يخشى الله من عباده العلماء )) .
أما العلمانيون الذين يجعلون العلم ربا ينسبون إليه كل حركة أو مصير في الدنيا وأنه هو المرجع الوحيد في تصريف الأشياء فتـلك الأفكار زينها الشيطان من قبل لقارون حتى قال بعد ما رأى نفسه محاطا بالأموال وأنواع الكنوز التي كان يستعمل علمه وأفكاره في تحصيلها حتى قال (( إنما أوتيته على علم عندى )) فكان نتيجة مصيره هو وعلمه وماله واضحا في قوله تعالى : (( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)) .
فمثلا العلماني البيولوجي تعلم أن جسمه مركب من خلايا هي النسيج المكون لبدنه وأن هذه الخلايا تموت وهو حامل لها وتحيا في مكانها خلايا أخرى وهو حامل لها أيضا ولا يعرف كنه هذه الاماتة والإحياء ولا يتحكم في ذلك لا إماتة ولا إحياءا فهي في الصعود في عمره تموت الخلايا وتحيا خلايا أقوى منها وبعد شبابه يصير العكس حتى ينتهي الأمر إلى الخلايا النهائية التي لا تستقـبل علما ولا تمسكه ، يقول تعالى : (( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا )) .
أما هذه العملية فيقول فيها المولى عز وجل : (( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء )) .
فالعلماني المسلم عندما يعلم ذلك ويقرأ الآيات المطابقة له يزيده ذلك إيمانا يقول تعالى : (( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومن ما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم )) أي أن إيمانهم ليس إيمانا تـقليديا ولكنه إيمان مبني على العلم والتفكير والنظر في آيات الله التي فيها قوله تعالى (( وفي أنفسكم أفلا تبصرون )) .
أما العلماني المادي فيقول فيه تعالى : (( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحو بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين )) .
هذه معادلة ينبغي النظر إليها بين أنواع الحاملين للعلم فمنهم من يزيده إيمانا ومنهم من يجعله ربا تنتهي إليه الأشياء مع أن المولى عز وجل يقول (( وإليه يرجع الأمر كله فأعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عن ما تعملون )) .
ومن هنا نعود من دلالات آيات الله البينات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بتبـيـيـنها للناس كما قال تعالى : (( وأنزلنا إليك الذكر لتبـين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )).
أي دلا لتها على وضوح ما جاء في هذا الإسلام وصدقه سواء ما جاء في النص القرآني الذي يتـلى أو ما جاء في الأحاديث التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي يهمنا من إيراده الآن من تلك الأحاديث هو ما له علاقة وثيقة بمساجد هذه المؤسسات الرسمية ومن هم عمارها .
فعـند إلقاء نظرة ولو عابرة على عمار هذه المساجد فسيتذكر المسلم بسرعة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصف للصحابة سكان أهل الجنة .
عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : متفق عليه .
وعن ابن عباس سهل الساعدي رضي الله عنه قال : مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل جالس عنده ما رأيك في هذا فقال رجل من أشراف الناس ولله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيك في هذا فقال يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال ألا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير من ملئ الأرض مثل هذا متفق عليه .
هذه الأحاديث وما في معناها كل من دخل هذه المساجد وقت الصلاة فيها لا شك أنه سترد على فكره هذه الأحاديث ويتـيقن صدقها لأنه سيشاهد فحواها .
فهو سوف يجد هذه المساجد مملوءة بالمصلين ولكن أغلب هؤلاء المصلين إن لم نـقـل كلهم هم من ضعفاء وفقراء المسلمين فلا يكاد المسلم يرى من بينهم من هو معين بمرسوم أو قرار بل جلهم هم من عمال فئـة س . د . ب أما فئـة(أ) القصيرة أو الطويلة أو المعينـين بقرار أو مرسوم أو صاحب رتبة عليا عسكرية أو أمنية أو طبيب فإذا كانوا موجوديـن أو بمعنى أوضح لا يوجد منهم إلا قـليل فسوف لا ترى وزيرا ولا مكلفا بمهمة ولا مستشارا ولا مديرا فكل هؤلاء بلباسهم الأنيق في المكان الأنيق في الوزارة أو الإدارة أو الشركة ....... الخ لا تقع عينك على واحد مهم مع أنهم مكلفون كلهم بمهمة إقامة الصلاة في الجماعة وفي وقتها .
ولكن كل هؤلاء سوف تري بوابه أو حارسه أو كاتبه ...الخ فالمؤذن والإمام وقارئ الحديث بعد الصلاة والمستمع له الجميع من الموظفين من الفـئات أعلاه ويمكن أن ترى شخصا أو شخصين من فـئات أكبر ولكن ذلك في النادر القليل الذي لا يغير من القاعدة العامة .
ومن ما تجدر ملاحظته هو أن هؤلاء الموظفين ذو الرتب العليا مثـقفون ولا شك أنهم يعرفون أن الصلاة في الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة والدرجة المعطاة من الله فسر حجمها العلماء بأنها تملأ ما بين السماء والأرض.
فإذا كان بواب الوزير إلى آخر ما معه من عمار المسجد يعودون كل يوم إلى منازلهم بسبع وعشرين درجة من صلاتهم للظهر في الجماعة (وصلاة الظهر كما هو معلوم أول صلاة صليت على الأرض) والوزير إلى آخر ما معه من اللائحة يعود آخر النهار إلى بيته بدرجة واحدة عندما يصلي وحده في مكتبه أو منزله مع أن جميع هؤلاء المثقفين أصحاب الشهادات في الدنيا يعرفون جيدا معنى الربح والخسارة فيما بين من أعطي له هذا العطاء في سلعته درجة واحدة ومن أعطي له فيها سبع وعشرون درجة ولا سيما إذا كان يوم هذا العطاء هو يوم الآخرة الذي يود المرأ لو يفتدي فيه من عذاب يومئذ بـبنيه وصاحبته وأخيه ...الخ آخر الآية.
وأود أن أوضح هنا أن الأحاديث التي أوردت هنا المتعلق منها بدخول النار يمكن أن لا يتـناول هؤلاء لأنهم مسلمون قطعا وعقيدتي أنا أن من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ولكن الأحاديث يصفون نوعين من المسلمين تشابها عندي مع موظفي المؤسسات فـلم أكتب هذا وعظا ولا تأنيبا حتى ولا درجة ملاحظة أود التنبيه إليها ولكن فقط أقارن بين ذلك المنظر وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى نعلم ويعلم الجميع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذه الأحاديث أثناء مرور هؤلاء المصلين من أمامه وهو ينظر إليهم وفي نفس الوقت ينظر إلى الجالسين في مكاتبهم عن هذه الدراجات بأبسط تحرك في أقـل زمن .
فالطريق إلى هذه المساجد من المكاتب لا تستغرق دقيقة وزمن الصــلاة لا يستغرق خمس دقائق فأين الخلل ؟
مع أني ولله الحمد اعـتقد جازما أيضا بأن كل أولئك الموظفين الكبار هم من المسلمين وربما من القانـتين المنفقين المستـغفرين بالأسحار وهم الآمرون ببناء المسجد ونرجو لهم صدق الوعد في قوله صلى الله عليه وسلم : .
ولكن البيئة والعادات والتقاليد هي الإ له الذي يصعب التخلص من عبادته لصالح عبادة الواحد الأحد الذي لم يـلد ولم يولد ولم يكن له كفـؤا أحد.