خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه من روحه، وخصه بقسمات وطبائع خاصة به، وسوى بنانه وأفرده ببصمة لا يشاركه فيها أحد لتكون بمثابة توقيعه، ووهبه العقل ميزه به عن سائر مخلوقاته، وأمره بإعماله في الكشف عن قوانين الكون المسخر له، وهداه النجدين وخيره أن يسلك
أحدهما بمحض اختياره، وحمله المسؤولية أمانة أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقنا منها, وحملها الإنسان شفقة واعتدادا. فأسجد الله له ملائكته تقديرا وإكبارا وحسن ظن به، في أنه سوف يحسن اختيار طريق الخير بكدحه وجهده ومعاناته رغم قدرته على اختيار طريق الشر.
ثم جعل منه الذكر والأنثى، وسيلة لحفظ نسله ونمائه، وجعل من آياته فيه اختلاف ألسنته وألوانه، وجعل منه شعوبا وقبائل وأمما وحضارات، تتدافع وتتخاصم ثم تتناحر وتتعارف وتتفاهم، وعد ذلك الاختلاف ضرورة لتطور الإنسانية ونموها وتلاقح الثقافات وارتقائها.
(والإنسان بفطرته طلعة لا يقتنع من الحياة بمظاهر أشكالها وألوانها كما تنقلها إليه حواسه أو كما ينفعل بها شعوره، بل يتناولها بعقله، وينفذ إليها ببصيرته ليعرف حقيقة كل شيء.!!. من أين جاء؟ وكيف صار؟ وإلا م ينتهي؟.
وهو في إشباع رغبته تلك لا يدخر وسعا من ذكاء أو جهاد حتى يبلغ من ذلك ما يطمئن إليه عقله وتستريح به نفسه.
إلا أن انشغاله بمطالب العيش، والاعتمار في غمرة الحياة ينسى أن يفكر، في الغاية من هذا الوجود ؟ وما اشتغال بعيش، وما اغتمار حياة ؟ وقد يتنبه من غفلة أو يستيقظ من نومة، إذا أصابه مرض، أو أصابه عجز، أو نابته نائبة. وشر النوائب عنده الموت، ينزل بقريب أو ينزل بحبيب، ففي هذه الفترات السوداء، يتوقف الانسان مستخبرا: من أين جئنا، وإلى أين المصير ؟.
ولكنها فترات لا تطول. فحوافر العيش تعود فتحفز ويشتد حفزها، والحياة تعود تهتف بحاجاتها ويشتد هتافها، والإنسان منا يلبى جبرا لا اختيارا، ويتركز على يومه، وينسى أمسه الذي كان، وينسى يومه الذي سوف يكون، إلا من حيث ما يطعم، ويلبس، ويلد، ومن حيث ينعم أو يشقى بالحياة...
إن كل نبات وحيوان مركب من خلايا, وكل خلية مركبة كيماويا من كربون وهيدروجين وأكسجين ونتروجين, فإذا تكونت هذه العناصر بنسب معينة كانت الخلية, ولكن كَون هذه الخلية بهذه النسب كما تشاء فلن تستطيع, ولن يستطيع العلماء مجتمعين أن يمنحوا خلية واحدة من حياة النبات فضلا عن حياة الحيوان.
لقد ولغ هيكل عند ما قال:" اعطوني هواء, وماء, ومواد كيماوية ووقتا، وأنا أصنع إنسان" ويرد عليه العلامة كريسى موريسون رئيس المجمع العلمي السابق بالولايات المتحدة الأمريكية متهكما بقوله" إن «هيكل» يتجاهل في دعواه الجينات الوراثية، ومسألة الحياة نفسها، فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها ثم سيخلق الجينات أو حملة الاستعدادات الوراثية بعد ترتيب هذه الذرات حتى يعطيها ثوب الحياة(1) ومن الواضح في هذا الكلام احتياج الرجل إلى المادة والأجزاء والوقت..فبالرغم من تقدم الطب في جميع فروعه وبالرغم من إبداعات العلماء في عصرنا والذين يقدمون لنا أجهزة نأخذ بالألباب وتحير العقول فإن خطابهم ما زال مثل خطاب الإنسان الأول منذ آلاف السنين: الاحتياج و الطلب ..
وبعد محاولة هيكل ينعقد المؤتمر المشهور الذي تداعى له العلماء من جميع أنحاء العالم..
ففي عام 1959م عقد مؤتمر في نيويورك، من الغرب والشرق وأوربا وكان فيهم عالم من أكبر علماء الإتحاد السوفيتي آنذاك اسمه ألكسندر أو باليه وكان شيوعيا. بقي هذا المؤتمر قرابة أسبوع, والموضوع الذي تداعوا واجتمعوا من أجله, هو محاولة الإجابة عن سؤال: هل يمكن إيجاد خلية واحدة عن طريق التفاعل الكيميائي؟
بحثوا ثم بحثوا ثم إنهم انتهوا إلى القرار التالي:
" لا يستطيع العلم أن يوجد الروح ولا الخلية الواحدة عن طريق تفاعل كيميائي والعلم لا علاقة له بالروح لأن العلم يسير في طريق والروح يسير في طريق آخر(2)
فالروح هي التي تعطي الحياة القدرة على الاستمرار، وفي حالة فقد الروح أو خروجها من الجسد كلية فإن الحياة تنتهي سريعا من هذا الجسد، فيموت ولا يستطيع أي مخلوق إعادتها للجسد أو إعادة الحياة إليه. والروح هي سر استمرار الحياة وامتدادها، ولا يعلم حقيقتها إلا خالقها.
(إذا رجعنا قليلا إلى (المرحلة الخلوية) قبل تكوين الجنين فإننا نجد أن الحياة موجودة في الحيوان المنوي للذكر، وفي بويضة الأنثى قبل أن يتم التلاقح بينهما، فالحيوان المنوي الحي لا يلقح بويضة ميتة، وكذالك البويضة الحية لا يلقحها حيوان ميت، بل إن حيوية الحيوان المنوي لا بد وأن تكون بدرجة عالية حتى يتم التلقيح، وذالك أن الرجل حين يجتمع بالأنثى فإنه يقذف إليها بمئات الملايين من الحيوانات المنوية، التي تدفع في رحلة وسياق الحياة نحو الهدف وهو البويضة، ولا ينجح في إنهاء تلك الرحلة إلا بضعة مئات فقط من الحيوانات، حيث يستطيع حيوان منوي واحد منها فقط أن يخترق جدار البويضة ليتم التلقيح بينهما، وعند ذالك لا يستطيع أي حيوان منوي آخر اختراق جدار البويضة، وعندما يتم التلقيح بين الحيوان المنوي والبويضة يمشج كل منهما ما عنده من مادة الحمض النووي DNA الموجودة على هيأة كروموسومات(chromosomes) تحمل عناصر الصفات الموروثة مع ما عند الآخر من صبغيات، لتتكون بذالك خلية كاملة العدد من هذه الصبغيات (نقطة الأمشاج) وذالك أن كلا من الحيوان المنوي والبويضة يحمل في داخله نصف العدد المميز للخلية البشرية من الصبغيات، فالخلية العادية تحمل ستة وأربعون من لكرموزومات موزعة بين الحيوان المنوي 23 كرموزوم والبويضة كذالك. وهكذا تتكون خلية جديدة هي النواة الأولى للجنين وهي الزيجوت zygote، الذي يستقر بعد ذالك بيوم أو أكثر في (قرار مكين) وهو جدار الرحم لتبدأ بعد ذالك مرحلة جديدة من مراحل الانقسام الخلوي والتكاثر الخلوي والتخلق والتمييز إلى أنسجة، ثم أجهزة وأعضاء ، حتى يكتمل تدريجيا المظهر العام الخارجي والتركيب الداخلي للجنين الإنساني(3).
فمنذ الأسابيع الأولى تبدأ الأعضاء في التكوين مبتدئة على شكل براعم وتجمعات خلوية تأخذ في التميز تدريجيا لتصل في النهاية إلى شكلها الطبيعي البشري المميز، وحتى الأسبوع السادس فإننا نجد أن الجنين ينمو طوليا بمعدل مليمتر واحد كل يوم، وبالطبع فإن مليمتر واحد زيادة في النمو الطولي يعني إضافة ملايين الخلايا الجديدة لجسم هذا الجنين النامي، ويلاحظ أن أعلى معدل للنمو يكون بعد نهاية الشهر الرابع من الحمل، حيث تكون أجهزة الجسم قد أخذت شكلها النهائي، ويكون المظهر الخارجي مميزا للجنين البشري، فالوجه والأطراف والأصابع والأعضاء التناسلية قد أخذت جميعها الشكل المميز، وخلال المرحلة السابقة يكون الجنين قد مر بمرحلة العلقة متعلقا بجدار الرحم، مستمدا غذاءه من هذا الجدار بما فيه من أوعية دموية وأنسجة تتحول تدريجيا إلى «المشيمة» وبعد ذالك يأخذ الأشكال المعروفة في علم الأجنة وهي:
النطفة، العلقة، المضغة، العظام والعضلات، التصوير، التسوية والتعديل،اكتمال الجنين..
نترك منظار علم الأجنة قليلا. ونقرأ في القرآن قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾.(4)
وبعودة إلى منظار علم الأجنة من جديد فإننا:
نشاهد الجنين حي بكل ما للحياة من معنى وبكل ما لها من مظاهر وعلامات تدل على وجودها، فها هي...يتواصل...