تبدو أطراف المشهد السياسي الوطني - معارضة وموالاة- تمر بلحظة من اللحظات الحرجة في تاريخها السياسي الراهن؛ ذلك أن الجميع وصل بعد سنوات من الشد والجذب ، والترحال والرحيل إلى قناعة مفادها أن البلد في أزمة تزداد تعقيدا كلما ازددنا تجاهلا لها وهذا ما جعل رأس النظام
يطالب علنا بحوار يقول إنه جاد وشامل ، وجعل المعارضة تقبل به مبدئيا هي الأخرى ، ولكن قناعة الطرفين بالحوار تضفي وراءها أزمات عميقة من أهمها نوع الحوار التي تتطلبه الأزمة ومواضيعه ومخرجاته وأهداف كل طرف منه ، وأزمة الحوار نفسه ؛ ذلك أن الحوار في حد ذاته يشكل أزمة لجميع الأطراف موالاة ومعارضة وإن كان الأزمة الآن أظهر في صف المعارضة منها في صف الموالاة أو قل يتم الحديث عنها علنا بينما أزمة الموالاة يتململ منها في " الركن القصي من غرف النوم " بتعبير الصفحفي وديعة ، وفي السطور التالية أتناول الموضوع في نقطتين : حوار الأزمة ، وأزمة الحوار
1- حوار الأزمة :
من الجميل أن تقر بالواقع ولا تهرب منه وأن تعرف أن هذا البلد يرزح تحت أزمة خانقة متعددة الأبعاد ، متشابكة الخطوط ، متداخلة العوامل، ولكن الأجمل أن تتبع هذا الأقرار بحوار يعالج الأسباب ولا يقف عند المظاهر، يغوص في " العمق" ويتحدث في " الصميم" وفي السطور التالية أرسم سمات هذ الحوار :
- حوار جامع :
لكي يكون الحوار حلا لما نعانيه من أزمات اجتماعية وسياسية وأمنية لا بد أن يشرك فيه الجميع دون إقصاء ولا استثناء ، يجب أن يشرك فيه كل الفاعلين والمهتمين بما يجري في الوطن ومن يحملون رؤى ومشاريع من سياسيين ونقابيين وعمال وحركات حقوقية واجتماعية ومجتمع مدني فلا يكون حوارا مقصورا على فئات دون أخرى ولا على جهات دون أخرى؛ لأن ذلك من شأنه أن لا يؤدي للغاية المطلوبة منه ؛ وهي الخروج من الأزمات التي نعاني منها، وربما يشعر المقصيين من الحوار بأن البلد ليس بلدهم وأنهم لسيوا معنيين بما يساعده في النهوض والاستقرار، وهذا ما يدفعهم إلى التطرف أكثر في الخطاب ، والزهد أكثر في الوطن والانتماء إليه وبالتالي يجعلهم مشاريع أدوات جاهزة يستخدمها أعداء الوطن لتقويض استقراره في أي لحظة، وإشعال الحرائق فيه في زمن الحرائق المشتعلة.
- حوار شامل :
وليؤتي الحوار الثمرة المتوخاة منه لا بد أن يكون شاملا لكل المواضيع التي تهم جميع الأطراف يناقش إشكال الوحدة بكل تجلياته ( مشكل الرق والإرث الإنساني وواقع شريحة لمعلمين ؛ بحيث يضمن انعتاق الأرقاء من ربقة العبودية والاسترقاق الظالم ، ويرد الحقوق للمهجرين والمبعدين ، ويضمن للمعلمين كرامتهم الإنسانية كمكون من مكونات هذا المجتمع عانى كثيرا وما زال يعاني للأسف ) ، يناقش مشكل الهوية الوطنية والإشكال اللغوي القائم ، يخوص في أس الأزمات المتلاحقة على هذا الوطن وهو علاقة الجيش بالسياسة ودور كبار الضباط في إفساد الحياة السياسية ، يتناول التعليم وأزماته المتلاحقة ( المناهج التربوية ، واقع المدرسين وظروفهم ، البنى التحتية المهترئة ، منح الطلاب ، قوانين التعليم والقصور الواقع فيها ..) ، يتحدث عن الإدارة (تعيينا وتيسيرا وتحييدا وحيادا) ، يناقش واقع الشغيلة ( العمال اليوميين " الجرنالية " ورواتبهم ، والضمان الصحي لهم ، علاوة الخطر ، وحمايتهم من حوادث العمل والتكفل بهم ، احترام ممثليهم في مجالس الادارة والتعامل معهم كشريك اجتماعي مهم ..) يتناول بعمق الفساد وكل مظاهره ( الزبونية والمحسوبية والاختلاس المالي والانتقائية في محاربته وصفقات التراضي والتغاضي ) ، يتناول المؤسسات المحورية في أي عملية سياسية حقيقية ( المجلس الدستوري ، اللجنة المستقلة للانتخابات وكالة الوثائق المؤمنة الإدارة الاقليمية( الولاة الحكام )وعلاقتهم بالعملية الانتخابية ) يحدد دور الإعلام العمومي وجعله إعلاما عموميا حقيقة لا ادعاء فهو للأسف أقرب إلى كونه إعلام نظام لا إعلام عموم ، يحدد طرق التعيين في كبار الوظائف وتحديد مأمورياتها ( البنك المركزي ، اسنيم ، المؤسسات الكبرى مثل الجامعات ...) ، يتوقف وقفة كبرى مع ثنائية التناقض التي تحكم هذا البلد " بلد غني وشعب فقير" ما سبب استمرار هذه الثنائية المتناقضة وما طرق الخروج منها ؟ يقف الحوار مع الاهتزاز المتزائد في النظام الاجتماعي وانتشرار الجريمة ما هي أسبابه وما هي أهم الطرق لعلاجه ؟ يقف هذا الحوار الشامل وقفة عند التقسيم الإدراي وإشكالاته الحقيقية وإعادة النظر فيه بما يضمن تنمية شاملة واستقرارا حقيقيا بعيدا عن التقطيع القائم في أغلبه على الزبونية والمحسوبية والنظرة الانتخابية والذي لا يضمن تمتع المواطنين بحياة كريمة في وطنهم...
هذا بالطبع ليس كل ما ينبغي أن يقف عنده الحوار بل هو فقط مجرد نماذج ...
- حوار صادق
ولنستطيع أن نحقق ما نصبوا إليه من الحوار لا بد أن ندخل إليه بنيات صادقة ، وبقلوب مفتوحة ؛ ولكي يحصل هذا لا بد من بعض الممهدات التي تعطي إشارة في هذا الاتجاة أهمها القيام ببعض الخطوات الملحة الآن ومن أهمها إطلاق سراح سنجاء الرأي السياسي وخصوصا الحقوقيين ، وحل مشكل عمال اسنيم المضربين ، وتلبية مطالب الطلاب المقاطعين وإعادة المطرودين منهم إلى مقاعدهم الدراسية ونزع كل مظاهر "التأزيم المفتعل من وحدات التأزيم " المادي منها والمعنوي " صاحب الرأي السياسي منها " أو صاحب " الطمع المادي " .. إن القيام بمثل هذه الخطوات من شأنه أن يطمئن بعض الفرقاء على جدية النظام ، هذا بالإضافة إلى فتح الوظفية العمومية أمام أطر المعارضة بوصف التوظيف حقا لكل مواطن لا يرتبط بالموقف السياسي ، ولا بالموقع .. إن الدخول في حوار نتعدم الثقة بين أطرافه لن يكون صادقا ولن يجدي ؛ لأن نفسية الجميع ستكون" نخدعه قبل أن يخدعني " أو "نتغدى به قبل أن يتعشى بي "..
2- أزمة الحوار :
لم يكد الحديث يبدأ عن الحوار وقربه حتى أثار أزمات بعضها صامت وبعضها صاخب والذي يهمني هنا هو تلك الأزمات الصاخبة التي أثارها الحديث عن الحوار والتي تجري الآن في القطب السياسي من منتدى المعارضة والوحدة ؛ ذلك أن الأحزاب المنضوية تحت هذا القطب رغم طول شراكتها ومقارعتها معا للأنظمة المتعاقبة على البلد لم تستطع أن تبني ثقة متبادلة تمكنها من الصمود في وجه الإشاعات والخلافات ، ولعل الأزمة التي أثارها هذا الحوار داخل هذه المعارضة مردها إلى :
- مواقع أطرافها :
من المعلوم أن من بين أطراف المنتدى من لا يعترف بشرعية النظام القائم ولا بالانتخابات التي أفرزته ومن بين أطرافها من شارك في جزء من تلك الإنتخابات وحصل على مكاسب منها يحاول توظيفها في تعزيز مكانته السياسية وحضوره داخل الساحة من خلال القيام بجهد سياسي يمكن البلد من الخروج من أزمته السياسية العميقة، فبين من يرى في الحوار مع النظام اعترافا بشرعية مفقودة وإنقاذا لنظام بات قاب قوسين أو أدنى من من السقوط بسبب الأزمات التي يعاني منها داخلية والعزلة التي تلاحقه بحسب وجهة نظره خارجيا ، وبين من يرى ألا مناص من الحوار مع نظام عجزت المعارضة مجتمعة - وفي عز صعود الربيع العربي- في إسقاطه أو حتى إضعافه؛ يبدو من الصعب اتفاق الطرفين على الحوار بسب اختلاف نقطة الانطلاق في التحليل .
- أهداف أطرافها :
من أسباب تباين مواقف المعارضة من الحوار مع النظام أهداف كل طرف منه ، فبعض أطرافها لا يخفي رغبته في إلغاء الانتخابات النيابية ليتاح له المشاركة فيها من جديد ليستعيد بعضا من المكاسب التي فقدها بسببب مقاطعته للانتخابات الماضية والتي كلفته كثيرا على مستوى الشعبية والموارد المالية والحضور اليومي في الساحة من خلال المنابر التشريعية، ومنها من يريد تعزيز واقع الحريات في البلد مع أنه غير مستعجل من أجل حل البرلمان وإن كان لا يمانع في ذلك شرط أن يكون ضمن رزنامة من الإصلاحات الشاملة شمول مواضيع الحوار السابقة الذكر ، ومنها من يريد من الحوار أن يكون الوسيلة المثلى لنزع أظافر النظام ومراكز قوته بعد أن عجز عن نزعها بالوسائل الأخرى ، وهو ما يفسر الخلاف الدائر حول شروط حزب التكتل لدخول الحوار
...
- حاجة بعضها لبعض :
من الغريب أن تكون حاجة بعض المعارضة بعضها لبعض سببا من أسباب أزمة الحوار عندها ، فبدل أن تكون هذه الحاجة مصدر قوة ودافعا للوحدة أكثر والتضامن أكثر أصبحت – في نظري – سببا من أسباب أزمة المعارضة ، فالذاهبون إلى الحوار أو الراغبون فيه بحاجة إلى أن تذهب المعارضة مجتمعة ؛ فذلك يقوي موقعهم وموقفهم في الحوار ، والمتمنعون عن الحوار بحاجة إلى أن يبقى معهم الطرف الآخر حتى لا يظهروا أمام الرأي العام بمثابة الرافض للحوار السياسي وهو ما لا ينبغي لحزب سياسي؛ وهذا ما يفسر تمسك كل طرف بالطرف الآخر رغم تباين الرؤى واختلاف الرؤية في شأن الحوار؛ فلو لم تكن الأطراف بحاجة بعضها إلى بعض لذهب المحاورون إلى الحوار وقاطع المقاطعون ، أضف إلى ذلك الضريبة التي ستدفعها المعارضة مجتمعة لو انفض عقدها وتفرقت وحدتها الحالية ذلك أنها الآن تحاول أن تؤسس لشراكة واسعة داخل الطيف المعارض من خلال المنتدى فلو فشلت في ذلك فلن تستطيع في الأفق القريب إنتاج تجربة جديدة على مستوى المنتدى انتشارا وتمثيلا ...
إن المعارضة مطالبة – في نظري – أمام هذا الوضع ألا تتعجل في أمر الحوار قبولا أورفضا وأن تحرص على وحدتها، وأن تضيق الهوة بين أطرافها ، يعني باختصار أنه على المعارضة أن تكون أكثر حزما في سياستها وأكثر سياسة في حزمها فلا تجنح إلى "العدمية" المطلقة، ولا إلى "الابراكماتية" المفرطة ، وقديما قيل : "خير الأمور أوسطها" ..