الوطن والدم والسياسة / جعفر محمود

ﻗَﺪْ ﻛُﻨﺖَ ﻓِﻴﻨَﺎ ﻣَﺮْﺟُﻮًّﺍ ﻗَﺒْﻞَ ﻫَٰﺬَﺍ .. لايليق بكاتب ولا بصاحب موقف أن يقف ضد وطنه في لحظات الوجع الكبير ، لايليق بأي صاحب فكر أو صاحب وجهة نظر أن يتحامل على وطنه لحظة المصابات الكبرى ولحظة الفجائع .. لايليق بأي معارض ولا بأي ناقد أن يقف ضد وطنه وضد أهله وشعبه

 لحظة الألم ولحظة القهر .
  إن رفض و معارضة أي نظام لاتعني معارضة الناس ولاتعني معارضة الوطن ولاتعني التشفي ..التشفي لايليق بالرجال ولا بأصحاب المواقف ، ولايستحق صفة معارض من لايتألم لألم شعبه ، إن الأنظمة تلام لقسوتها وتلام لعنادها وتلام لفسادها لكن تلام المعارضة حين لاتكون شعورا وطنيا كبيرا ودفقا إنسانيا هائلا يعوض كل العجز في النظام ..إنه لافرق بين نظام يفسد ومعارضة تتشفي حين يأتي الفساد و أهله ، ولافرق بين نظام يقتل ومعارضة ترقص على الجثث وتتاجر بألوان الشهداء وأسمائهم ورتبهم .. ومعارضة لاتقف مع وطنها وشعبها حين يبكي وحين ينزل الدمع من وديان الوطن وجباله هي معارضة لاتستحق شرف الإنتماء ، و لاتستحق اسم معارضة وطنية ، وفي أحسن توصيف وتشبيه هي نسخة كربونية من بعض المعارضات العربية التي تأتي على ظهور دبابات المحتل وتحمل الموت والتقسيم والخراب للأوطان والشعوب .. إن المطلوب من المعارضة أن تكون تعبيرا عن الناس عن كل القيم السامية والنبيلة التي لاتقدمها الأنظمة والتي تتوق لها الشعوب والمجتمعات وحين لاتنجح في التعبير عن هذا لاتستحق الصفة .
الحادث الأخير للجيش كشف للأسف عن قصور لدى بعض النخب وغياب كبير للمسؤولية لدى البعض الآخر ، إن من ينتظر حادثا مؤلما كهذا ووجعا داميا كهذا.. ليحاسب النظام ويصفي الخصومة قبل أن يبرد الدم وقبل أن تجف دموع الحزانى ، وقبل حتى أن يطمئن من ينتظر خبرا عن جريح ، كمن ينتظر زلزالا أو هزة أرضية أو عاصفة بحرية تخلف كارثة وضحايا وخسائر ليجد فرصة من خلالها يناقش عجز النظام وفشل النظام وضرورة تصفية النظام.. على حساب الجثث والدموع والآلام.
الألم ألم وطني والوجع وجع في القلب الموريتاني والضحايا ليسوا جزءا من النظام بقدر ماهم كل لايتجزء من موريتانيا من كل شعبها ومن كل وديانها ومن كل أنهارها وسهولها ، والتضامن معهم ومع ذويهم تضامن مع الوطن والمطالبة بفتح التحقيق وبالمسائلة مطلب وطني والمطالبة بالتكفل بذويهم ودفنهم بمراسيم لائقة مطلب وطني ومسعى نبيل .. لكن الغير وطني واللانبيل بالمرة هو الحديث عن اعراقهم وألوانهم ومناطقيتهم ، هذا حديث لايحترم الدم ، ولا يحترم الدموع ويرقص على الجثث ويلعب صاحبه بكل الثوابت وبكل الخطوط الحمر ... من يفكر بهذه الطريقة لايحترم لحظة الموت الجليلة ، ولا يريد التضامن مع الشهداء ولا ينشد خير الوطن بقدر ما ينتج نقاشا آخرا عن عنصرية حتى في الموت وحتى بين أصدقاء الخندق الواحد والنهاية الواحدة.. واللحد الواحد.
لا استطيع ولايمكن لي أن أجد أي مبرر لمثل الكلام الذي قاله الأستاذ وديعة عن ضحايا الحادث ، هل كان هناك موعد مع الموت محدد تم له انتقاء خاص ومهمة خاصة بعث فيها البعض لكي لايعود .. هل كان من العرف لدى المؤسسة العسكرية إعلان الحداد على ضحاياها وعطلته هذه المرة عمدا بسبب رتب وأسماء القتلى ، ثم إن الحداد في النهاية قرارا سياسيا وليس قرارا عسكريا وتطالب به الجهات السيادية السياسية وهي التي تعلنه وليس الجيش .. والدعوة إلى الحداد تسقط مع هذا النوع من التعابير والتصاريح وتصبح مجرد فرصة للمزايدة والمتاجرة بكل شيئ حتى الدم .. من يملك قدرة لإطلاق هذه التصاريح في هذا الوقت لايملك القدرة أبدا على الدعوة أو الحديث في طرح وطني بخيارات وطنية ثابتة وأصيلة .
كل شعوب الدنيا لهم ملفات عالقة ولهم ملفات سوداء حالكة السوداء ، لكن في لحظات الوجع تتكاتف الأيدي ويقف الجميع مع الوطن ومع ترابه ودماء أبنائه ، ولا أحد يفكر في جزئيات بسيطة الزمن والوعي كفيلين بتجاوزها ، وهنا لاتشكل رعبا لنا ولاتشكل قلقا نحن أصحاب تاريخ مشترك قاوم فيه بكار ولد أسويد حمد ، وقاوم فيه الحاج عمر تال الفوتي .. سالت فيه دماء العربي الأصيل والزنجي الإفريقي الأبيض والأسود النبيل .. سالت عند النهر وسالت تحت الجبل ودعوات كهذه في وقت كهذا لن تزيد الدم إلا سخونة ولن تزيد الوطن إلا رفعة ولن تزيد الوطنية إلا إتقادا وحماسا ولن تزيد كاتبها إلا جفافا في العقل والقلب ..
الكاتب الحر لايقف ضد وطنه ، ولاتوجد سابقة لكاتب حر في التاريخ  يتشفى في شعبه ويفتح الأكفان عن شهداء وطنه ليعرف ألوانهم وأعراقهم وعلى ذاك الأساس يترحم عليهم أو يحجب الرحمة ..الكاتب الحر مثقف صاحب حس مرهف ونبض إنساني في عروقه وفيضان أخلاقي يرفع دوما من حسه ويجعله يرتقي نحو الذرى ويقف دائما مع الناس والوطن ، ولايليق به أن يتحول لبائع قيح وكاتب طاعون ..وقتها ينتقل من كاتب حر ومثقف حر إلى مثقف من مثقفي الطين والمستنقعات وحقول النفط  الذين لا يشمون رائحة الدم ولا توقظهم الآهات البريئة ولاتعنيهم الأوطان ولا إستمرار الشعوب .

22. فبراير 2015 - 1:21

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا