في كل المحتمعات البشرية وبحكم التداخل في التشكلات التاريخية والاجتماعية التي تنظم صيرورة استمرار أي مجتمع بشري ، تنشئ تمايزات وتفاوتات طبقية واجتماعية وإثنية تتحكم فيها وتحدد ميكانيزماته عوامل عديدة ومتداخلة منها الإقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي كحصيلة
أخيرة تجلت مع الإستقرار الأخير في فكرة الدولة الوطنية الحديثة التي هي امتداد للدولة القومية التي برزت في اوروبا قبل قرون وتكرست كنموذج طاغي ومسيطر مع المد الإستعماري وتصدير النموذج الاوربي للعالم .
هذا الوجود للتباين في كل محتمع وفي كل نسق بشري و على اساسه برزت هويات مثلت بحسب مركزية قوتها هوية اصلية جامعة تتفرع منها هويات فرعية أو هويات ثانوية وبالتعريف الحالي السياسي هويات الأقليات أو الهويات الأقلية ، وتداخلت معطيات كثيرة في حسم الهوية المركزية او الهوية الأصلية الجامعة منها الدين والعرق واللون واللغة وحتى الثروة في الحالات التي تمايزت فيها المجتمعات على معطيات اقتصادية ، وعلى اساس قدرة أي بعد من هذه الابعاد على فرض ذاته على المحتمع تتشكل الهوية وتتحدد انطلاقا من مايتيح ذلك الخيار من مراكز للإنتماء ونقاط للتلاقي .
ومن شبه المستحيل الإستقرار على اي حالة احتماعية لم تحسم فيها الهوية الجامعة على اساس من ارتباط عرقي مؤسس أو ديني جامع أو لغوي سائد وبحسب النموذج السائد وقدرته على التعبير عن الحماعة وعن أواصرها تكون الصورة الإجتماعية النهائية التي تنظم حياة الناس وتفاعلهم مع واقعهم ومع مختلف أصولهم التاريخية وعلاقاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية .
وفي اللحظة الوطنية أو الحالة الإجتماعية الموريتانية تداخلت معطيات كثيرة وأنساق أكثر منها التاريخي ومنها الجغرافي والإجتماعي والذي كانت جصيلته في النهاية هذا المجتمع المركب من عدة اثنيات متباينة من حيث عوامل التشكل ومن حيث الروافد المؤسسة أو الروافد الجذرية للأصول ..فكان العرب المهاجرين بمختلف تشكلاتهم وكان الزنوج الأفارقة بحكم الواقع الجغرافي , وفي كل تركيبة اجتماعية فعل التاريخ والثقافة الأفاعيل في تنظيم البنيات وتوزيع الادوار وتحديد الوجود الراهن .. والتاريخ ليس ملكا لأحد ولايمكن محاكمة معطياته با المنطق الآني أوبا المفاهيم الآنية الراهنة ..ففي الحالة العربية فعلت الهجرات والحروب والمعارك البينية والغزوات فعلا تاسيسيا في بناء التحديات القائمة إذ ساهمت في تحديد بنيات وظيفية وتحديد جماعات وظيفية على اساس من ارتهانات تاريخية لواقع معين محدود في لحظة وسقف زمني استمر به الفعل وتجدد في الأجيال كواقع ..فكانت العبودية وكانت الشرائحية الوظيفية التي جعلت من البعض جماعات وظيفية تمارس ادوارا معينة مخصصة بها وأنتج هذا الواقع ثقافة تكرسه وأحكام من الواقع تأصله وتمجده
واستمر به الزمن لأجيال ما جعل من الصعوبة تجاوزه او تغييره بمجرد شعارات بسيطة او حكايات اكثر بساطة ، هذا عن المكون العربي ، المكون الإفريقي هو الآخر عرف تمايزه وتفاوته وبرز فيه النبلاء والارقاء ومادون ذلك وسيطرت فيه نماذج إقصائية على اساس معطيات عرقية وإثنية وتاسست فيه مجموعات وظيفية مخصوصة هي الأخرى بأدوار معينة تقوم بها ولاتملك القفز او تجاوز هذا الواقع .
هذه النماذج في الحالين العربي والأفريقي الزنجي لم يستطع الدين بقدرته الخلاقة في التغيير وباحكامه السمحة على انتاج بدائل لهذا الواقع او الخروج عليه بل علي عكس ذالك تم تسخير الدين لتكريسها في العديد من الاوجه وتعزيز مصادره وربطها بالدين كمصدر لها وليس المجتمع كفاعل للظاهرة ومنتج لها ، وتحولت بقوة الدين لفعل مرجعي خارج عن السياقات الوضعية البشرية ولا تتأتى مخالفته او رفضه مايعني التناقض الواضح مع المعطى الديني في بنية روحية وعقدية الدين مشرب من أسمى واهم مشاربها .
ومع تشكل الدولة الوطنية دولة الإستقلال او إستيرادها من نموذج اروبا طفت كل هذه المشاكل والحيثيات على السطح وبدا التعامل معها يفرض نفسه لكن وفقا لواقع جديد وقواعد جديدة تستدعي تحاوز الماضي وتعزيز الإستقرار والسلم بمنطق الدولة وفق اسلوب الدولة وسلوك الدولة ، وهنا بدات المشكلة حيث برزت مؤسسة جديدة لم يصلها بعد الوعي المجتمعي ولم تستدعيها الضرورة التنظيمية للمجتمع ، اضف الي ذالك مايفرض عليها ويصاحبها من تدخل خارجي وإقلبمي في ملفاتها وتركيبتها وماتفرضه حدودها الجديدة المصنوعة من ألغام سياسية واجتماعية وعرقية .
هذا التداخل التاريخي والاجتماعي والسياسي حاليا وترك المشكلة القائمة اليوم كثقب اسود كبير قابل في اي لحظة على إلتهام حالة الإستقرار الوهمية القائمة وظل الدولة الهش الذي لازال يشق طريقه يبحث عن شرعيات للحكم وشرعيات للنفوذ وفرض الدولة كواقع وحقيقة وليست فقط مجرد بنيات تحمي مجموعة مصالح خاصة غير قابلة للإستمرار بالمعطيات الراهنة وغير قابلة للاستمرار حين تقارن بنماذج مشابهة عجزت اولا وفي النهاية فشلت واستسلمت للمجهول والحروب الاهلية
الخطاب الراهن والصعود الطاغي للمطالب الإثنية وحقوق الأقليات وإنصاف المظالم التاريخية ، ليس مجرد طرح حقوقي يتم التعامل معه بأدبيات حقوقية ويعالج بمنطق حقوقي ، ويتم تجاوزه بالقبلات والتعويضات ، هذا واقع إجتماعي معقد وصعب في بلد هش وفي ظل دولة فاقدة لشرعية التاريخ وفاقدة لشرعية الإنجاز ، وفاقدة لشرعية القدرة على التعبير عن الناس ، وأي تعامل لايستحضر الأزمة من أبعاد إجتماعية هو مجرد تأجيل للحظة القلق المنتظرة ولحظة الإنفجار .
والمعالجات القانونية لاتنتج حلا للمشاكل الإجتماعية ، القانون لايبني مجتمع ، التاريخ والعيش المديد والثقافة المشتركة يبنيان مجتمعا ، القانون مجرد إجراء تنظيمي لاحق على التوافق عليه والتسليم بسيادته ، دون ذلك يكون جزء من المشكل لعجزه عن التعبير عن الكل ، ولتوقع البعض بتكريسه لإقصائه وتهميشه وظلمه .
والدولة عبر كل سياساتها العامة فشلت في التخفيف من حدة هذا التباين وهذا الشروخ ، فالفشل على بناء وعي وطني وبناء ترابط جديد يتجاوز الماضي من خلال التعليم كوسيلة من وسائل التنشئة الإجتماعية لايمكن تعويضه ومن العصب إنتاج بديل للمؤسسات التعليمية كوسيلة لبناء التعايش وتكريس المشتركات ، وعلى مرتاريخه ظل التعليم النظامي المعني أولا ببناء مواطن وربطه بوطن ، يسبح في واد يلوك بعض المتجاوزات تاركا الحبل على الغارب مفرطا في المطلوب منه في تكريس مواطنين صالحين ، وواقعه اليوم أنه تحول إلى آبرتايد من خلال وجود نظامين للتعليم واحد خاص بشريحة معينة وآخر خاص بشريح أخرى هو التعليم الحر أو التعليم التجاري .
إن البلدان المكونة من إثنيات مختلفة يصعب السماح فيها بخصخصة التعليم في مراحله التكوينية والتأسيسية ، ولابد من السيطرة على التعليم وتاميمه كقطاع لإنتاج المواطنين النرتبطين بالوطن وليس بتخريج الكفاءات فاقدة الهوية وفاقدة الشعور بالإنتماء ، إن موريتانيا في اللحظة لاتحتاج لكفاءات وتخصصات بقدر ما تحتاج لمواطنين مرتبطين بها قادرين على تجاوز تاريخ المجتمع وإنتاج واقع الدولة وواقع الوطن .. ليس على أنقاض الظلم التاريخي بل على أسس الرغبة في الإستمرار والرغبة في العيش المشترك .
سياسات أخرى عديدة فشلت فيه الدولة وكان يجب ان تكون وسيلته في بناء المجتمع او إعادة تأهيل الناس لواقع جديد غير الماضي الراسب في الواقع والراسخ في الأذهان ، إن الإنشغال بالسلطة والصراع في المجال السياسي ألغى التفكير الإجتماعي وأستبعده من أذهان الكثيرين حتى أستيقظوا على هذا الواقع المفكك بالشعارت والمطالب ، وحسب التجارب والتاريخ المطالب والشعارات لاتبقى طويلا مجرد شعارات إما ان تتحق وإما أن لايتحقق شيء ويضيع الجميع .
إن المطلوب اليوم هو أولا أن تفهم الدولة أنها في المعطى التاريخي ليست جزءا من مشكلة لم تكن قائمة لحظة تشكلها ولا لحظات إستمرارها واستقرارها ، لكنها كواقع تنظيمي لاحق معني بالتعامل مع المخلفات ومعنية ببناء شرعيات التعايش وشرعيات الحكم ، والتحدي الآن هو بناء شرعية التعايش وشرعية الإستمرار على أكثر من صعيد بدأت تهدده المطالب والتحركات التي لاتستمر داخلية فقط بسب العالم المفتوح والقرية الكونية الواحدة والدولة فاقدة للسيادة بسبب المنظمات الأممية والدولية ، وأي نظام لايكسب هذا الرهان لن يستمر ولن يستمر معه المجتمع .