يشكل موضوع الوحدة الوطنية صداعا مزمنا للمواطن الموريتاني وهاجسا مؤرقا
حيث يبدو في واقع الأمر لغزا محيرا أخفق الموريتانيون في إيجاد حل له منذ
تأسيس دولتهم إلى اليوم وعلى امتداد الفترات والأجيال المتلاحقة ، ذالك
أن كل الموريتانيين يدرك أن حل هذا اللغز والاتفاق بشأنه هو الضامن
الوحيد لمستقبل الاستقرار والتعايش السلمي في البلد ، ولأنهم يدركون
كذالك أن بحث هذاالموضوع بشكل جدي لايصح دون الخوض في مسائل حساسة للغاية
ولذلك تراهم كلما أرادوا الخوض فيه حاموا حول الحقيقة ولم يقعوا فيها
وانزلقوا صوب المجاملات والمداعبات مراعاة للمشاعر
من هنا وبعد كل ما قيل في هذا الصدد وما كتب أعتقد أنه آن الأوان لوضع
حد لترك المواطن الموريتاني كل هذا الوقت يتردى في هوة سحيقة لاقرار لها
و آن الأوان لأن نعرف وبشكل قطعي من نحن وما ذا نريد لدولتنا أن تكون
بمعنى أنه لابد للموريتانيين من الخوض وبشجاعة ودون مجاملة في تلك
القضايا الحساسة التي تشكل معوقات حقيقية أمام وحدتنا الوطنية والوصول
إلى اتفاق وحسم بشأنها، وهذا ماسيؤدي بنا إلى أن نبني هذاالمقال على
مسارين :
1 المسار الأول: إشكالات ومعوقات الوحدة الوطنية وتتلخص في جملة من
القضايا الحساسة التي لم يحسمها الموريتانيون بعد ومن أبرزها:
أولا : إشكال الهوية المجتمعية ( الإعراق المكونة للمجتمع الموريتاتني )،
رغم أن الرأي العام في البلد يكاد يكون مجمعا على أن المجتمع الموريتاني
يتشكل من أربع طوائف هي : العرب ( مجتمع البيظان )، والولف ، والبولار،
والسنينكو، إلا أن هذا الإجماع لايبدو مسلما به من قبل الجميع وما يزال
يعاني من تأثير الجمر المتقد تحت الرماد وخصوصا في الآونة الأخيرة مع
تزايد محاولات تفكيك وتشتيت مجتمع البيظان والعمل المستمر على النبش في
أصوله والتصريحات التي تطلق من هنا وهناك والتي ترمي دائما إلى التأكيد
على أن هذا المجتمع ليس كله من أصل عربي في محاولة للقول إنه لاوجود
للعرب في موريتانيا بشكل أو بآخر وخصوصا من قبل رموز وقادة حركة افلام
والمؤسف أن مجتمع البيظان نفسه يشكل بئة قابلة لنمو هذاالنوع من الأفكار
وبدأت بعض الأوساط تتفاعل معه وعلى أعلى المستويات وخصوصا بعض رموز وقادة
شريحة لحراطين من أمثال ولد بربص والساموري ولد بي وغيرهم ممن ينادي بأن
يكون لحراطين قومية أوعرقية غير عربية وإن كان هذا مازال محدودا ويخالفهم
فيه غالبية رموز الشريحة من أمثال :بلال ولد ورزك وبيجل ولد هميد وابريكه
ولد امبارك وغيرهم .... ونسي هؤلاء جميعا أن مجتمع البولار أيضا وبشهادة
كل مثقفيهم في الداخل والخارج ليسو من أصول واحدة بل منهم من هو عربي
الأصل ومنهم من هو من أصول فرعونية مصرية كما أثبت ذالك أحد المؤرخين
السينغاليين في كتاب أصدره حديثا والأمر لايحتاج إلى دليل لأنهم يقرون به
جميعا ومع ذالك فالصياغة النهائية لمجتمع البولار يسلم بها الجميع كقومية
عرقية مستقلة ومتماسكة وإن اختلفت أصولها، فلماذا إذن كل هذاالبحث والنبش
المستمر في الأصول المتفرقة لمجتمع العرب (البيظان) الذي يعرف الجميع أن
الصياغة النهائية له أيضا تجعله وبكل المقاييس مجتمعا عربيا بالعادات
والتقاليد واللغة ونمط العيش والحل والترحال والشعر والشعراء والتاريخ
..... وأنه لايوجد فيه على وجه التحقيق من يقول لك اليوم إنه بربري مثلا
أوشئ آخر كما يزعم أصحاب (افلام ) الذين لا يفوتون فرصة إلا ويذكور ون
فيها البربر، إذن لابد من حسم هذاالاشكال وبدون مواربة أو مجاملة ومن
الاعتراف المتبادل بالآخر كما هو الآن، بمعنى أنه من كان بيظانيا فهو
عربي شاء أم أبى ومن كان بولاريا فهو فلاني شاء أم أبى فكلا المجتمعين في
صياغتهم النهائية هكذا، لكن لايعني هذا أيضا أنه فرض عليك أن تكون من
البيظان أو من البولار .... كشخص فكن ماشئت لكننا نتحدث عن مجموعات مكونة
لوطن وهي أكبر من الحالة الشخصية .
ثانيا: إشكال هوية الدولة ولا يزال يعاني هو الآخر من عدم الحسم المسلم
به من قبل الجميع فهل نحن متفقون واقعيا على أننا دولة عربية مسلمة
إفريقية الانتماء القاري أم أن هناك من يرى غير ذالك، والحقيقة المرة أن
هناك من لايريد أن تكون موريتانيا إلا دولة إفريقية افرنكفونية مسلمة
مثلها في ذالك مثل السينغال ومالي ... وإن لم يعلنه صراحة وبالتالي يجب
نقاش هذاالاشكال وحله بشكل موضوعي ومرض للجميع .
ثالثا : إشكال اللغة المسيطرة أو الرسمية بتعبير آخر ومن المعروف أن
موريتانيا في هذاالواقع ليست البلد الأوحد الذي تتعايش فيه قوميات مختلفة
لها لغات مختلفة ومع ذالك لابد أن تكون واحدة من هذه اللغات هي اللغة
الرسمية أو المسيطرة سواء كان ذالك بسبب سعة الانتشار أكثر من غيرها ولو
كان أصحابها في البلد أقلية كما هو الحال بالنسبة للولفية في السينغال
وسواء كان بسبب أكثرية الناطقين بها كما هوالحال في معظم بلدان العالم
كأمريكا وفرنسا والمغرب ومالي ... لكن لابد من حسم ذالك وتسويته أيضا
بشكل طوعي لاإكراه فيه وبعيدا عن إقحام لغة أجنبية لاتمثلها شريحة من
شرائح المجتمع وأعتقد أن كلا الحالين ينطبق على العربية ممثلة باللهجة
الحسانية في موريتانيا.
2 ــ المسار الثاني : المآلات الحتمية أو النتائج التي لابد أن نصل إليها
بعد تقرير كل ماسبق وحسمه، بما أنه لايمكن وجود أو تصور وطن بلا هوية
قومية ولالغة مسيطرة ولاديانة عقدية لابد أن يصل الموريتانيون إلى حسم
بشأن هذه الثوابت وأن يجلسوا لنقاشها وتقريرها بموضوعية ودون تشنج وأن
يضعوا حدا نهائيا لحاضر ومستقبل هذاالبلد بشأن الثوابت الأساسية .
وتأسيسا على ماذكرنا فإن مآل الوحدة الوطنية في موريتانيا لابد أن يصير
إلى واحدا من ثلاث احتمالات :
ــ الأول : أن تكون موريتانيا دولة عربية القومية إسلامية الديانة إفرقية
الانتماء الجغرافي ديمقراطية النهج السياسي وأن يسلم كل أ بنائها
ومثقفيها بذالك دون حرج ولاضغائن ولاأحقاد حتى لا يورثوا الأجيال اللاحقة
تركة ثقيلة من الضبابية وعدم الحسم في الثوابت مرة أخرى من أجل التعايش
السلمي القائم على أساس الاحترام المتبادل وتكافئ الفرص والعدالة
والمساواة بين الجميع في ثروات الوطن، ولاضير بعد ذالك إذا أتت
الديمقراطية برئيس للبلاد من غير العرب كما وقع في أمريكا دون أن يؤثر
ذالك على هوية الدولة ...
ـــ الثاني : أن تبقى موريتانيا دولة هشة تطبعها الضبابية في كل شيء لاهي
عربية ولاهي فرنسية وتعيش على فوهة بركان قد ينفجر في أية لحظة لاقدر
الله ولاسمح وبالتالي قنبلة موقة عندما تنفجر ستودي بالجميع ولن ينجو
منها أحد وتبقى المشكلة مزمنة وحلها مؤجل يتم ترحيله من جيل إلى جيل ومعه
للأسف ترحل الأحقاد والضغائن وهو أمر غاية في الخطورة ولم يعد مسموحا به
.
ـــ الثالث : أن تنقسم الدولة إلى دولتين كما بات البعض يدعو لذلك علنا
وبلا خجل : دولة عربية إسلامية في الشمال ، ودولة إفريقية افرنكفونية
بحتة في الجنوب (سناريو السودان )
هذه هي المآلات الحتمية للوحدة الوطنية في موريتانيا و ما قدمنا هو
المدخل الصحيح لها فإما أن يفهم الموريتانيون أن معنى (وحدة وطنية ) هو
الاعتراف المتبادل بالآخر كما هو أو كما يريد لنفسه وليس كما أريد أنا
وأن يفهموا أن الوحدة الوطنية هي الشراكة والتوحد في الوطن الذي يجب أن
نرسم ملامحه وثوابته معا ووفقا لمعطيات واقعنا الاجتماعي والتاريخي وعلى
أساس المبادئ والقيم التي نرضاها جميعا لوطننا وأن نتفرق فيما سوى ذالك
بمعنى أن لكل منا الحق في أن يكون مايشاء وأن يمارس من الأعمال والمعتقات
مايشاء وأن يتزوج من يشاء ويرفض من يشاء وكل ذالك ليس على حساب الوطن
ولاوحدتنا الوطنية لأننا حددنا ملامحها العامة ( هويتهاــ ديانتها ــ
لغتهاــ قيمها ) فهذه ملامح وطننا وتشكل وحدتنا الوطنية ونختلف فيما
سواها على أساس التنوع والثراء وليس الصدام والتعارض.