لطالما قرأ شباب وشيوخ الأمة الإسلامية سيرة النبي عليهالصلاة والسلام قراءة أقرب ما تكـون-حقيقة- للقراءة السردية –الباردة- وخصوصا ما يتعلق بالمراحل الأولى من تلك المسيرة المباركة، وقد نتفهم ذلك في ضوء ما تلا تلك المرحلة من استكمال لبناء الدولة التي عاشت قرونا
من الزمن في صدارة الأمم، وحينها انصب تركيز وعطاء علماء الأمة على ما تحصل من رصيد معرفي ثريٍّ من الأحكام التشريعة –التفصيلة- التي لا تهتم كثيرا بتلك الفترة الزمنية الدقيقة من حياة الدعوة.
إن وضعنا اليوم يشبه إلى حد ما تلك المرحلة وخصوصا أننا نشترك معها في البحث عن إنشاء الدولة الإسلامية –وذلك على أسس سليمة ثابتة ثبوت الجبال الرواسي كما كانت- وهنا يتأكد رجوعنا إلى التفكير والتبصر في تلك المراحل الأولى وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند في تلك الفترة.
أجزم أنه ليس هناك إنسان يعتقد أن ما نحن عليه اليوم في عالمنا الإسلامي هو ما جاءنا به نبينا عليه الصلاة والسلام! كما أن الناظر لحال أمتنا المادي يرى أنها ـ بحكم عوامل كثيرة ـ يمكن أن تكون أحسن حالا مماهي عليه الآن!
حين يسبح المرء بخياله في ما كانت عليه هذه الأمة وماهي عليه الآن يرى أنه بعد انتهاء فترة الخلافة الراشدة إلى يومنا هذا دأب المصلحون في كل زمان على إعادة كيان الأمة إلىما كان عليه ذلك الرعيل الأول الذي تربى على يد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أحسن تربية.
حين ننظر في سيرته صلى الله عليه وسلم نرى أنه بدأ للتخطيط في بناء ذلك المجتمع–الذي أصبح يحسب له حسابه-بامرأة ورجل وطفل وخادم، حتى انتهىذلك التجميع إلى وضع أساس متين لأعظم دولة فيمابعد؛ قوامها مجتمع تربى وتدرج حتى أصبح الحامي للدولة الفتية...
ولهذا فإننا حين نتعمق في التفكير وتحليل تلك الفترة التي سبقت إعلان الدولة الإسلامية في المدينة سنجد واقعا مقاربا لمنا نحن عليه –مع اختلاف في بعض المسائل وخصوصا أن أمتننا أصبح أفرادها يؤمنون بالوحدانية لله– ولكن أصحاب هذا الإيمان لما يحققوا بعد –فعلا وواقعا- ما ارتضاه المشرع واقتضاه الشرع وأراده الحبيب من تمكين لمنهج الله، وبسط لهيمنته على كل شؤون الحياة – بدءا بأخص خصوصيات الفرد المسلم وصولا إلى أعلى رتبة في الأمة وهي مرتبة الحكم، ولهذا فإن الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو المسدد من قبل الله- في تحويل تلك النفوس وتغيير قناعاتها ومعتقداتها حتى أُشربت تلك الكلمة وعملت بمقتضاها دون أن تقطر قطرة دم واحد في الطريق نحو تحقيق ذلك الهدف السامي؛ بل الأعجب من ذلك أنها كانت تُمنع من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كل ما اقترب من الولوغ في الدم، إن المتأمل في ذلك التخطيط المنقطع النظير سيجد عظات وعبر كثيرة لا حصر لها؛ تتجلى في مسايرة ذلك التخطيط –الفريد- للسنن الكونية التي لا تتخلى عن من سلكها.
إن من أراد أن يبني دولة مستقرة ذات سيادة على أسس ثابتة لا يمكن أن يسلك لذلك إلا الطريق الذي سلكه من هو أدرى بالنفوس البشرية وصعوبة تقويمها، كما أنه الأعلم بالنواميس الكونية التي إن سلك المرء طريقا غيرها يوشك أن لا يصل!.
إن من أعظم مسؤوليات قادة أي فترة من الزمان-وحتى الأفراد العاديين- هي أن يبحثوا عن طريقة لتمكين دين الله {وتعاونوا على البر والتقوى....} وذلك على أساس قوي متين يصمد أمام طغيان الأعداء ويستعصي على تغفيل الأتباع والغوغائيين ممن لما يفهموا بعد هذا المعنى السامي.
إن الشواهد على عودة الحكم على منهاج الخلافة الراشدة كثيرة وليس ثمة دليل على حرمان أي زمن بعينه من تحقيق ذلك النصر؛ ماعلى الأمة إن أرادت التمكين إلا أن يتمسك أفرادها بدينهم ويعمل قادتها وفق النظم والخطط المتماهية مع السنن الإلهية التي تحقق لهم ذلك.
لقد رأينا دولا قامت من تحت الركام؛ ولكن ساسة تلك الدول سلكوا في طريق نهضتهم كل الوسائل التي تتماهى مع النواميس الكونية الواضحة والمرسومة لمن أراد الوصول إلى أي هدف سام؛ وهنا علينا أن ندرك أن تلك النواميس لا تشترط لمتتبعها أن يكون مؤمنا؛ وهذا أمر جلي حتى في واقعنا المعاصر.
حين نتوقف مع بعض النماذج من سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في سعيه لتأسيس ذلك البناء على منهاج قويم، نجده صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الذي يتماهى تماما مع النواميس الكونية، ولم يحدث في تلك التجربة الفريدة ما كان يمكن أن يقع من أمر لله -يغني عن كل ذلك التخطيط والتعب الذي بذله حبيبنا صلى الله عليه وسلم – ويكفي أن يقول الباري جل جلاله للأمر كله "كن" فيكون كل شيء على ما يرام ويصبح أشد الأعداء في مكة مؤمنون كلهم ولم يتعب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك التعب لتحقيق هذا الهدف، كان كل ذلك ممكنا –وما يزال- ولكن الباري جل جلاله أراد بحكمته البالغة أن تبقى تلك التجربة تجربة بشرية خالصة حتى يكون الطريق مرسومالمن يأتي بعد نبيه باحثا عن الطريق، إن الطريق هاهو ذا مرسوم بأدق تفاصيله محفور في ذاكرة التاريخ ومن تأمل فيه وجده عملا بشريا محكم التخطيط تحيطه عناية الله التي ترعى من يعمل لدينه في كل عصر وأوان، ويتجلى ذلك في لقطات دقيقة تعطينا هي الأخرى دروسا عميقة في معية الله للمؤمنين؛ تلك اللقطات كانت في أوقات تظهر أن العمل البشري مهمى وصل من الحكمة والدقة والحذر سيظل محتاجا لمعية الله جل جلاله، ومن مظاهر تلك العناية حراسة غار حراء -وقد وصل له المشركون- بأن أرسل الله له حمامة وعنكبوتا سكنوا على فمه وحين رأى المشركون ذلك المشهد تأكدو أنه ليس ثمة أحد، وهناك مشهد آخر وهو أنه صلى الله عليه وسلم ورفقته في الهجرة حين سلكوا طريقا غاية في التعقيد–وذلك من البداية- لم يسلموا من سراقة بن مالك، ولكن سراقة أيضا منعته العناية الربانية من الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وساخت أرجل فرسه في الأرض.. هذا غيض من فيض؛ هذه صور متعلقة بالوقائع الظاهرة، أما ما خفي من لطف الله بعبيده فأعظم وأعظم..
هناك نماذج رد فيها رسولنا الكريم ما يمكن أن يكون معارك صغرى مسلحة -بالتأكيد أنها كانت ستؤخر قيام الدولة المنشودة - لما سيكون لها من تبعات.
إن ذلك بدأ في الفترة المكية وإن قال البعض أنه لم تنزل بعد آية القتال فبإمكاننا أن ننتبه لذلك جيدا ونستحضر نواميس الكون التي تسيره، في تلك الفترة التي لو رفع فيها المسلمون سيوفهم لأبيدوعن بكرة أبيهم لعدم تكافئ قوتهم مع قوة خصمهم، إن المتتبع لما لاقاه المسلمون من تنكيل وتعذيب يكاد يجزم ويستسيغ أنه يجب أن يكون للمسلمين حق الدفاع عن أنفسهم على الأقل؛ لكن الهدف أسمى وأعظم من الأفراد ومصالحهم الذاتية.
سنسترشد ببعض تلك المواقف التي سارت وفق نظام الكون العظيم، كما كان فقه المآلات حاضرا فيها بقوة:
أول هذه الوقفات عند البيعة الثانية التي بايع فيها بضع وسبعون من أهل المدينة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، تروي الروايات أنه لما تمت تلك البيعة في سرية تامة غاظ ذلك الشيطانَ وصرخ بأعلى صوته "يا أهل الأخاشب هل لكم في محمد والصبأة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إزب العقبة أما والله ياعدوالله لأفرغن لك، ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم. وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن نضلة، والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا. فقال النبي لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم فرجعوا... يعلق منير الغضبان على استعداد الأنصار لتنفيذ بنود البيعة بل أكثر من ذلك وهو أن يحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لايزال في مكة؛ ولكن الجواب النبوي العظيم –كان صريحا وواضحا- "لم نؤمر بذلك ولكن ارفضوا إلى رحالكم. فكم الفرق بين معركة آنية يسقط بها هؤلاء السبعون شهداء استجابة -لعاطفة جامحة- وانفعالٍ هائج، وبين المسؤولية عن كل قطرة دم "تهراق" دون تخطيط، وتسيل دون هدف. إن دم المسلم أشد عند الله تعلى حرمة من الكعبة المشرفة فكيف –يسال- هذا الدم دون مقابل؟!...
الموقف الثاني حين أرسل المشركون رسالة لعبد الله ابن أبي أن يحارب محمدا أو يسلمه لهم أو ليغزون المدينة ويستأصلوا أهلها عن بكرتهم؛دب الرعب في المنافقين وأرادوا تنفيذ رسالة قريش، وفعلا بدأ ابن أبي العمل على ضوء ما أرسلتله قريش، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين علم بالخبر تدارك الموقف بحكمة القائد الذي لا تحكم تصرفاته العواطف الهوجاء فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم! فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا.
هنا يعلق منير الغضبان –أيضا- على هذه الكلمات التي أخمدت تلك الهبة:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب هؤلاء الوثنيين بالأسلوب الذي يفهمونه ويركز على أخوة النسب وهو الذي جاء إلى البشرية جميعها بأخوة العقيدة، ويركز على رابطة الماء والطين، وهو الذي جاء رحمة للعالمين ويركز على شعور القوم والأهل والوطن بين من؟! بين المسلمين والمشركين. لماذا؟ ليحبط كيدا أكبر من عدوٍ أعظم، ليضيق هوة المعركة، ليخذل بين الأعداء جميعهم، فيجعلهم حلفاءه ضد عدو مشترك واحد."ويضيف أيضا: إن الذي يتبادر لذهن الشباب المسلم في هذه العجالة هو الجهاد في سبيل الله؛ والابتداء مباشرة بحرب هؤلاء فهم العدو الداخلي، قبل الابتداء بقريش، وحتى لا يكون لدينا هوادة في دين الله، وحتى لانخاف في الله لومة لائم. لا بد من حرب هؤلاء الوثنيين، وكسر شوكتهم والقضاء على هذا الجيب الداخلي، إلى آخر هذا النغم الذي يعتبر التخلي عن المعركة جبنا وهوادة في دين الله ومداهنة على حساب العقيدة اهـ.
أما الموقف الأخير في هذه العجالة فهو حينما كانت هنالك محاولة أخرى تنادى فيها الأوس والخزرج للنزال! حتى أنهم حددوا مكان اللقاء القادم – وسبب ذلك هم المنافقون، العدو الداخلي للكيان الوليد- إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم تدارك الموقف بحكمة القائد العبقري وذكر الطرفين بخطورة العودة إلى الجاهلية "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم" ثم ذكرهم بما من الله عليهم به من وحدة الصف......
إنها هي الطبائع البشرية، في القديم والحديث، لا تختلف كثيرا عن بعضها، إن ما تم معها من مرحلية وتدرج في القديم برعاية ربانية على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم هوالطريق الوحيد والأقوم لرد النفوس والطبائع لذلك المنهج الصافي الذي شابه ما شابه في الأزمان الغابرة.
إن المعركة الدائرة اليوم -باسم الإسلام- وما يدور من تقتيل في الشرق والغرب، تحت شعار إعادة الدولة الإسلامية –حسب زعم أغلب الحركات الإسلامية- فإنه لابد من الرجوع إلى تلك الفترة الزمنية الغابرة وقياس هذه التصرفات الحالية على تلك التصرفات النبوية السامية، إننا نجد في كتب السيرة التي تتوقف مع ما بذل في تلك الفترة الحساسة –فترة التأسيس-نجد أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قد اختار منهجا -لا يمكن للباحثين عن النتائج التي توَصَّلَ إليها ـ من بناء للدولة الإسلامية على منهاج الحق- بد من اتباعه، إنمابذل حينها من التخطيط والحوار وبناء اللبنات الإسلامية بأفراد يحملون فكرا رصينا وفهما حقيقيا للمنهج الجديد منهج الله الوسط الذي لا غلو فيه ولا تفريط هو الوحيد القادر على إعادة ذلك البناء.
هنا يمكن أن نفهم بعضا من أجزاء الخلل الواقع اليوم من اختلال كبير في المسار العام للأمة سواء تعلق الأمر بمن يرفعون راية الجهاد أو تعلق بالحكام وأحيانا يتعلق الأمر بالحركات التصحيحية المنتشرة في الأمة مع تبيان في ما تقدمه هذه الحركات للأمة لا تخطئه العين..
إن حكامنا الذين حكمونا طيلة عقود من الاستبداد كبتوا فيها الحريات واغتصبوا الحقوق ولفقوا التهم للأبرياء....... كل هذا ولد ردة فعل متباينة من قبل شباب الأمة، إذ سلك كل طريقا يرى من خلالها أنها هي الأصلح لاستعادة الحقوق والحريات إضافة إلى تحكيم ذلك المنهج الأسمى في شتى مجالاة الحياة.
أما آن لأبناء الأمة أن يعرفوا أن الدم لا يأتي إلا بمزيد من الدم؟؟ وأن الحوار والتفاهم –حتى مع الأعداء- هو الطريق الأقوم لبناء المجتمعات ونشر السلم فيما بينها؟