صديقي محمود / عبد الرحمن ودادي

جمعتني ظروف العمل بمحمود بصديقي الحرطاني الستيني الوقور صاحب اللحية التي غزى الشيب معظمها والنظرة الهادئة والصوت الخفيض.عندما تنظر لمحمود وهو يصلي تحس بأنه لا يقضي واجبا مفروضا بل ينتقل بروحه الى عالم أرحب حيث لا وجود الا للسكينة و الرحمة و المحبة.

من الصباح الباكر نجلس سوية نراقب العمال و نتبادل اطراف الحديث حول قصص الحياة بآلامها و فرحها .

حكى لي عن قدومه لنواكشوط في بداية السبعينات مشيا على الاقدام من ولاية العصابة و كيف استقبله احد أبناء قبيلته من البيظان وعامله كفرد من أفراد الأسرة و حصل له على عمل بسيط ترقى فيه بسبب استقامته و جديته الى ان بنى بيتا في احد الاحياء الشعبية و علم أولاده .

محمود فخور بقبيلته لا تجتمع الا بحضوره و لا يقصر في واجبه تجاهها من التبرع لعلاج مريض او مساعدة لمصاب او دفع دية.

في أحد الأيام خرجت من مكان العمل لشراء بعد المتطلبات واثناء عودتي اتصل بي أحدهم وأخبرني بالحكم على بيرام واصحابه بالسجين سنتين ... عدت حزينا واخبرت محمود بما حصل.

ظهرت علامات الغضب على وجهه الوقور وسألني عن سبب الحكم؟ شرحت له ان الحجة هي التجمع من غير اذن ومقاومة السلطات والعمل في منظمة غير مرخصة.

سألني كيف يسجنونه بسبب التجمع بدون ترخيص و كل البيظان يتجمعون من غير أي اذن في اجتماعاتهم القبلية و امام الرئاسة و في المظاهرات العديدة التي لا يخلو منها أي أسبوع؟

تحدثنا حول تهمة مقاومة السلطات ونقلت له بأمانة الفيديوهات التي تابعتها ويظهر فيها بيرام و أصحابه و هم يحاولون حماية أجسادهم من ضربات رجال الأمن ....

علق بمرارة: إذا على الحرطاني ان لا يحمي وجهه من عصي السلطات والا تحول الى مجرم ؟!!

بعد أيام قليلة بدأ صديقي العزيز يتابع خطابات بيرام على الانترنت وعبر لي عن تأثره العميق بما يقول ....

هذا مجرد نموذج اظنه تكرر آلاف المرات عن نتيجة الظلم الفادح والكيل بمكاييل مختلفة لأبناء الوطن الواحد...

انا شخصيا تجمعني معرفة ببيرام ولد اعبيد واحسست من اول لقاء به بكاريزما وقدرة فذة على الخطابة و لمحت فيه روحا متمردة اثقلها الإحساس بالغبن.

أحيانا كنت اصدم من تقلباته وقبوله المشاركة في الانتخابات التي جمع له حزب الدولة التواقيع الازمة لها ومن بعض عباراته، ولكنني في أعماق نفسي التمس له العذر فمن يرى و ضع الحراطين لا يمكن بحال من ان يتكلم بلغة المتخمين تحت هواء المكيفات البارد، كما ان كل اخطائه لا تبرر بأي حال ظلمه البيّن.

من اهم الدروس التي تعلمت من ثقافة آبائي ان اواجه غضب الطبقات المسحوقة بالحسنى والكلمة الطيبة وأن اضع نصب عيني الأرحام والصلات الضاربة في القدم والدماء التي اختلطت على اديم هذه الأرض وان ما يجمعنا اقوى واصلب من نفثة صدر أثقله الشعور العميق بالظلم.

المصيبة ان من يحكمنا يمتلك قيما مختلفة غريبة على مجتمعنا الذي استطاع عبر قرون بناء لحمة صلبة رغم كل ما فيها من العيوب...

إنها ثقافة الغلبة والقوة المجردة من أي قيم والنهم المنقطع النظير للمال ممزوجة بأخلاق عصابات الأفلام الهندية، والكارثة اننا سندفع جميعا الثمن مالم نقف جميعا في وجه عصابة شيشاوة وقضائها الأعور.

23. فبراير 2015 - 9:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا