رغم ضبابية المشهد السياسي و الاجتماعي الموريتاني فى هذه اللحظة التاريخية التى تمور بالتجاذبات و التقلبات فى كل اتجاه، يبرز معطى يصعب من الآن فصاعدا تجاهله أو التقليل منه. المستقبل فى موريتانيا سيكون بكل تأكيد لتلك الشريحة الاجتماعية التى يطلقون عليها تكريسا للفئوية
" الحراطين" و التى أفضّل أنا أن أسميها "العرب السمر" الجامعة الموحِّدة.. لماذا هذا الانستنتاج؟
لأن هذه الفئة من الشعب الموريتاني أصبحت مهيأة موضوعيا و ذاتيا للوصول الى قيادة البلاد.
موضوعيا لأنها كما هو معروف و ليس جديدا هي أكثر فئات الشعب هشاشة و حرمانا و أكثرها عددا كذلك.
ذاتيا لأن العرب السمر بلغوا ـ و هذا هو الجديد ـ مستوى من الوعي و التعلّم يمكنهم من تغيير ميزان القوى لصالحهم و لصالح الفئات المضطهدة الأخرى و الشعب الموريتاني عموما.
الحقيقة الجوهرية الأخرى هي أن أمل إنقاذ الهوية العربية لموريتانيا التى تؤرّق الأغلبية الساحقة من الشعب الموريتاني لم يتلاش لحسن الحظ مع يقظة هذا اللاعب الأساسي مضافا إلى النواة الصلبة من النخبة العربية البيضاء التى مازالت على قناعاتها رغم استقالة "خطها الأمامي" و هي الفئة العريضة من المثقفين و السياسيين التى تتصدر المشهد العام رغم أنها ترهّلت و بلغت مداها و "شاخت" و لم تعد قادرة على المزيد من البذل و تنخر فى جسمها أمراض الكسل و الأنانية و الهلع المؤدي للهاث المحموم وراء المادة و المنافع الضيقة، إلى جانب الترف و البذخ ما وجدت لذلك سبيلا، و الاصطفاف الرجعي وراء القبيلة و الجهة... أما عن فقدها البوصلة الأخلاقية و ابتعادها عن عادات المجتمع الحميدة و ثقافته الأصيلة فكارثة تنسحب ككل صفاتها الأخرى على بقية مكوّنات المجتمع و أفراده.. و أما عن استلاب هذا الفئة و انبهارها بالغرب و كأننا فى بدايات القرن العشرين، و غرامها بالفرنكوفونية و كأن الفرنسية هي اللغة الوحيدة فى الكون، و لازمة هذا الغرام أي الاستهزاء و احتقار اللغة العربية و التنكر للانتماء العربي تاركة الساحة كليا لأعداء الهوية من عنصريين و اسلامويين شعوبيين و يساريين مزيّفين فضلا عن النظام الاستعماري الجديد الحاكم الذي يقود حملة التغريب و الأفرقة على نهج أسلافه من الأنظمة النيوكولونيالية بدءا من العرّاب و واضع خارطة الطريق الأول نظام المختار ولد داداه .. عن هذا كله وغيره كثير و أدهى فحدّث و لا حرج..
هل هو المشهد الأخير من أفول حضارة "البظان" المشرقة الذي يذكّر بالنهايات المأساوية لممالك عبر التاريخ عرفت المجد فى أول أيامها؟
أما الفئة المعوّل عليها بالاشتراك مع أشقائها البيض فى إحداث التغيير المنشود، شريحة العرب السمر فما زالت على فطرتها نظيفة غير ملوّثة بالتغريب و قد حماها ـ ورب ضارة نافعة ـ حرمانها من المعرفة و التعليم ومنه المفرنس و التجهيل المُمنهج الذي مورس عليها، حماها هذا كله من الاستلاب الثقافي و الارتباط بالدوائر الاستعمارية فى الغرب و العمالة لفرنسا، و هي لعمري تجارة رابحة عند الكثير مع الأسف من مثقفي الفئة البيضاء. من جهة ثانية ليس لهذه الشريحة ما تفقده و هي بذلك غير مثقلة بالمصالح، مما يساعدها على خوض نضال حقيقي و أصيل.
لا نقول ان كل شروط هذا النضال قد اكتملت لديها و لدى القوى الجماهيرية المناضلة عموما بل هناك الكثير من ما يجب توفرُه على مستوى تعميق الوعي السياسي و وضوح الرؤى و المبادئ و على مستوى توحيد نضال القوى المختلفة من أحزاب و منظمات. من هذه المبادئ التي يجب توضيحها و التأكيد عليها لأنها شرط كل نجاح هي حقيقة الهوية العربية لهذه الشريحة التى لا يرى أبناؤها و لا أحد غيرهم فرقا بينهم وبين أشقائهم البيض. و من المعلوم أن قوى عديدة فى حربها اليائسة على الهوية العربية ككل و محاولة تقسيم و تمزيق الأغلبية العربية للشعب الموريتاني تعمل جاهدة بدافع من العنصرية المحضة أن تلحقها بالقوميات الزنجية اعتمادا على مجرد لون البشرة.. و من هذه القوى من يبحث فى عناء شديد عن "تراث" وهمي لهؤلاء القوم لتخلق لهم قومية ثالثة خاصة بهم. يوجد هذان الاتجاهان معا فى المنظمات البولارية مثل "فلام" و "لا تلمس جنسيتي" و حركة "ايرا" العنصرية القريبة منهما و عند بعض النقابيين و الحقوقيين.
يتعمّد العابثون فى هوية العرب السمر تجاهل الحميمية و القواسم المشتركة بين هاذين المكوّنين من لغة و تاريخ و مُعاش اجتماعي و سايكولوجية و مشاعر و تطلعات الخ... و لا تقتصر محاولة التشويش و التلبيس على تمييع شخصية العرب السمر بل تتعداها إلى السعي إلى الصاق تهمة محاربة الاسلام بهم و نشر التشيّع فى البلاد لأن أحدهم و هو السيد بيرام ولد عبيدي و حركته المعادية لوحدة "البظان" أقدم فى لحظة من الهوس على حرق كتب فقهية يعتمد عليها هؤلاء فى ثقافتهم الدينية، أو لأن بعضا من سفهاء هذه الحركة يروّجون لمواقف مؤيدة لمذهب التشيع الفارسي الإيراني على صفحات التواصل الاجتماعي نكاية بالمذهب السني الذي ينعتونه جهلا بالمكرّس للعبودية.
على كل حال فان هذه الهرطقات و الحملات العدائية ليست ذات بال كونها تصدر عن أقلية قليلة ـ ولو كانت مرتفعة الصوت و تحظى بتغطية من إعلام مُأدلج شعوبي و متغرّب ـ أقلية من المغامرين الذين تحركهم أياد أجنبية و لا يمكن أن يُجعل منها الشجرة التى تحجب الغابة. فالعبرة بما عليه جمهور هذه الفئة التى خطها النضالي مرسوم منذ أمد بعيد من خلال "الحر" و "نجدة العبيد" و غيرهما من المنظمات الحقوقية و النقابية، و لم تكن فى أي يوم انفصالية أو عنصرية. لقد شارك هذه الشريحة فى نضالها ضد العبودية و من أجل المساواة كذلك قوى سياسية و مثقفون مناضلون من مكوّن العرب البيض.. فهاهم البعثيون يجعلون فى السبعينيات من القرن الماضي قضية الرق و الحراطين فى أولويات مبادئهم و يصدرون فى ذلك التاريخ أول دراسة تحليلية شاملة لهذه الظاهرة.. و الوثيقة متداولة الآن فى الأوساط السياسية و الإعلامية الموريتانية.. و هاهم الكادحون يرفعون منذ نشأتهم شعار الدفاع عن الطبقات المسحوقة و من ضمنها الفئة السمراء، و الحركة الديموقراطية (MND) المنبثقة عنهم تلعب دورا أساسيا الى جانب الناصريين و البعثيين فى إرغام نظام ولد هيداله على إصدار قانون تحريم الرق الشهير.
لن تتوقف الفئة العربية السمراء بطبيعة الحال فى النضال من أجل القضاء على بقايا العبودية و مخلفاتها و لا شك أنها تدرك ضرورة الاستعداد فى نفس الوقت للعب دور قيادي إلى جانب الذين أشقائهم العرب البيض و كذلك من الأخوة الزنوج الوطنيين من أجل انتشال موريتانيا الحبيبة من التفكك و الزوال لا سامح الله.
مع ذلك فإن وعي هذه الفئة بتلازم دورها القيادي مع تجذرها فى انتمائها العربي شرط حتمي لتحقيق هذا الهدف الوجودي.