سأحكي لكم وبشيء من تصرف قصة طفل غير عادي، طفل ذكي جدا، ربما، غبي جدا قد يكون كذلك، المهم أنكم عندما تسمعون بقصته ستنقسمون إلى فسطاطين اثنين لا ثالث لهما: فسطاط سيعتبر هذا الطفل ذكيا جدا، وفسطاط آخر سيعتبره غبيا جدا، المهم أنكم لن تجدوا من بينكم من سيقبل
بأن يصدق بأن هذا الطفل كان طفلا عاديا، لا أحد منكم سيعتبره طفلا متوسط الذكاء، فهو إما أن يكون في منتهى الذكاء، وإما أن يكون بمنتهى الغباء.
يبدو أيضا بأننا قد ابتلينا برئيس لغز، كهذا الطفل اللغز، أو على الأصح هكذا يتخيله الكثيرون، والحمد لله أني لستُ من أولئك. هذا الرئيس اللغز لا يمكننا أن نعتبره رئيسا عاديا، فهو إما أن يكون خارق الذكاء، وإما أن يكون في منتهى السذاجة، ونحن اليوم عندما نستمع لأحاديث الناس عن هذا الرئيس اللغز، وسواء كان المتحدث من النخبة أو من عامة الناس، فإننا لن نجد من هو على استعداد لأن يصنف الرئيس الحالي تصنيفا عاديا.
فهناك طائفة من الناس، وهي الأغلبية، تعتبر بأن الرئيس عزيز ذكي جدا، وبأن الحوار الذي يعرضه اليوم على المعارضة ما هو إلا خطة في منتهى الذكاء لخداع المعارضة وللتلاعب بها، وأنتَ عندما تسأل أحدا من هذه الطائفة عن الطريقة التي سيخدع بها الرئيس المعارضة في الحوار القادم، وكيف ستتم تلك الخديعة، لا تجد عنده إجابة، وفي ذلك اعتراف ضمني بذكاء الرئيس الخارق، فعدم توفر إجابة عند هؤلاء مع قناعتهم الكاملة بوجود خطة ذكية ما لدى الرئيس يعني بأن عقولهم لم تمكنهم من التوصل إلى ما يفكر به الرئيس عزيز، ولا من تصور ملامح خطته الذكية التي أعدها لخداع المعارضة من خلال الحوار القادم.
وهناك طائفة ثانية من الناس تعتبر بأن الرئيس عزيز هو أقرب إلى السذاجة منه إلى الذكاء، وبأنه كثيرا ما يتخذ قرارات ساذجة جدا، ومن بين قراراته الساذجة جدا دعوته المفاجئة للحوار.
المهم أنه لا أحد في هذه الأيام على استعداد لأن يصنف الرئيس عزيز تصنيفا عاديا، ولا أحد على استعداد لأن يعتبر بأن عرضه للحوار قد جاء من رئيس عادي، وبأن هذا الحوار كأي عرض يأتي من شخص عادي، قد يحقق لصاحبه مكاسب، وقد يتسبب له في خسائر، فكل من الاحتمالين يبقى واردا، والأمر في النهاية يتعلق بتماسك خصمه السياسي وبالقدرات التفاوضية لهذا الخصم ( وهذا هو رأيي الشخصي).
لا أحد على استعداد لأن يطرح ويناقش الاحتمالين، وذلك لأن الرئيس عزيز إما أن يكون في منتهى الذكاء، وبالتالي فهو لا محالة سيخدع المعارضة من خلال الحوار القادم، وإما أن يكون مجرد رئيس ساذج، لا يعرف كيف يتصرف، ولذلك فقد جاء إعلانه المفاجئ عن الاستعداد للحوار كدليل إضافي على تخبطه وعلى سذاجته.
فلينقسم الناس إلى فسطاطين، وليصنفوا الرئيس عزيز وليصفوه بما شاؤوا، ولترفعه طائفة منهم، ولتجعل منه أذكى رئيس عرفته موريتانيا في كل تاريخها، وللرئيس عزيز تصرفات وقرارات تدعم أصحاب هذا الرأي، ولتنزل به طائفة ثانية من الناس إلى الحضيض، ولتجعل منه الرئيس الأكثر سذاجة في تاريخ البلاد، وللرئيس عزيز تصرفات وقرارات تدعم أيضا أصحاب هذا الرأي. فلتختلف الطائفتان وليستمر الخلاف بينهما، أما أنا فأرجو من القراء أن يسمحوا لي أن أشتغل عن ذلك الخلاف الكبير بقصص وحكايات الأطفال الصغار.
تقول واحدة من قصص الأطفال بأن أبا ثريا كان يملك قصرا فخما قرر ذات يوم أن يسافر بابنه إلى بلدة فقيرة لا يسكنها إلا الفقراء، وكان الأب يريد من ذلك السفر أن ينبه الابن إلى أنه يعيش في نعيم ورخاء قد حُرم منه الكثير من أطفال الفقراء. قضى الأب وابنه أياما في ضيافة أسرة فقيرة جدا كانت تسكن في مزرعة بالبلدة الفقيرة وفي طريق العودة دار بين الأب والابن الحوار التالي:
الأب : كيف كانت الرحلة ؟
الابن : كانت رحلة رائعة.
الأب : هل شاهدت يا ابني كيف يعيش أهل هذه البلدة، وكيف كانت تعيش الأسرة التي أقمنا عندها؟
الابن : نعم يا أبي لقد شاهدتُ كل ذلك، فالأسرة التي أقمنا عندها تملك أربعة كلاب ونحن لا نملك إلا كلبا واحدا، وهي تملك بركة ماء لا حدود لها ونحن في منزلنا لا نملك إلا حوض سباحة صغير، ونحن نضيء حديقتنا الصغيرة بمصابيح، أما هم فإنهم يضيئون حديقتهم ذات المساحة الشاسعة بنجوم تتلألأ في السماء، وباحة منزلنا صغيرة في حين أن باحة منزلهم تمتد مع الأفق.
ظل الوالد يستمع لمقارنات الابن الغريبة دون أن يعلق عليها، وذلك من قبل أن يختم الابن حديثه بالاستنتاج التالي:
لقد عرفتُ يا أبي كم نحن فقراء، وكم هم أغنياء!!
تذكرت هذه القصة وذلك بعد أن طالعتُ في بعض المواقع تعليقا نسب إلى الرئيس عزيز وقد رد من خلاله على مداخلات بعض النواب الذين اجتمعوا به في القصر.
ففي الوقت الذي وصل فيه إضراب عمال "اسنيم" إلى يومه الخامس والعشرين، وبنسبة مشاركة تزيد على 90 % حسب تصريحات العمال، وفي الوقت الذي عبرت فيه مدينة "ازويرات" عن تضامنها الكامل مع المضربين، ويكفي أن نعلم بأن العمال قد تسلموا إلى الآن 25 رأسا من الإبل أي بمعدل جمل أو ناقة كل يوم. وقد تنافس سكان المدينة في إظهار التضامن مع العمال، فتضامن المعلمون والأساتذة، النساء والأطفال، الأطباء والممرضون، أصحاب الحرف وتجار قطع غيار السيارات، بائعو الرصيد وسائقو السيارات ، باعة السمك وباعة الخبز، الفنانون والشعراء، الجزارون وتجار المواشي، وحتى نائب المدينة وبعض قيادات الحزب الحاكم لم يستطيعوا أن يقفوا ضد العمال المضربين لقناعتهم بأن ذلك سيكون انتحارا سياسيا بالنسبة لهم، وذلك بعد انقسمت المدينة ما بين مشارك في الإضراب أو داعم له.
لقد اختار الرئيس أن ينتظر إلى مثل هذا الوقت الذي سمع فيه من موالاته تذمرا من تجاهل الإضراب، واختار لأن ينتظر إلى اليوم الذي وصل فيه التضامن مع الإضراب إلى قلب العاصمة "نواكشوط"، حتى وإن كانت السلطة قد رفضت أن ترخص لمسيرة "نواكشوط"، واختار أن ينتظر أيضا إلى أن هدد عمال "اسنيم" في "نواذيبو" بالدخول في الإضراب. انتظر الرئيس كل ذلك ليستنتج بعد طول تأمل بأن إضراب عمال "اسنيم" قد فشل، وبأن هذا الإضراب لم يؤثر على الإنتاج!!
ألا يذكركم هذا الاستنتاج باستنتاج الطفل الذي قرأتم عنه في القصة السابقة؟
قد يكون هذا الاستنتاج الذي توصل إليه الرئيس استنتاجا في غاية الذكاء، وقد يكون في غاية السذاجة، المهم أنه ليس باستنتاج عادي، وإن كان سيظل في كل الأحوال أكثر سذاجة أو أكثر ذكاء، لا أدري أيهما أصلح للاستخدام، من الاستنتاج الذي كانت قد توصلت إليه إدارة "اسنيم"، والذي كانت قد أعلنت بموجبه، واعتمادا على لغة "الأرقام" بأن إنتاج الشركة من الحديد قد زاد في ظل الإضراب!!
فهل سمعتم من قبل هذا بشركة يزيد إنتاجها عن معدله الطبيعي إذا ما دخل عمالها في إضراب، وينقص إذا لم يكن هناك أي إضراب؟
إن القراءة الفطنة لهذا الاستنتاج الذكي جدا أو الغبي جدا تقول بأنه على الحكومة الموريتانية أن تعاقب من كان وراء اكتتب ألاف العمال المضربين حاليا، وذلك لأنه كان قد ارتكب جريمة نكراء في حق شركة "اسنيم" التي يزيد إنتاجها بغياب العمال، وينقص، وبنسبة معتبرة، إذا ما زاول العمال أعمالهم في الشركة!!
حفظ الله موريتانيا..