حظ (الجهاد على بصيرة) من الجهاد والبصيرة / محمدن بن الرباني

جرت سنة الله بأن تكون القوة دولة بين الأمم وأن تكون الغلبة سجال بين الحق والباطل وقد شاء الله سبحانه أن نعيش في دهر كتب فيه على أمتنا الهوان والخور وأذن الله للباطل في أن يصول صولة سابغة تكاد تسد مسد الحق من كل جانب فعشنا في زقاق معتم من تاريخ أمتنا الإسلامية وإن أشد

ما يستهيج الأسى ويكاد يئد الأمل -لولا الثقة بموعود الله الذي لا يخلف وعده- هو طغيان صوتين فكريين منحرفين عن قصد السبيل.
أما أحدهما فنهج منهجا من الغلظة والفظاظة والشدة والتزمت جعل الإسلام دين أغلال وأصرار وقتل ودمار ليس للحياة منه نصيب ولا للحضارة غير التخريب.
وثانيهما سكنت الهزيمة الفكرية والنفسية من أصحابه الأمخاخ فأضحوا أسرى انبهار بمن يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون، فعمدوا إلى الإسلام يمحون منه ما يصادم فكر الغالب المتحكم فضاعت أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا بتنقية الإسلام مما ليس حضاريا مدنيا راقيا بمقاييس المتغلب ولو كان لا يبقي بعده من الإسلام الذي أنزل الله غير اسم أو رسوم لا تنجلي إلا بعد توسم عميق.
أثافي سفعا في معرس مرجل ** ونؤي كجرم الحوض لم يتثلم.
ولو اقتصرت الفئة الأخيرة على العلمانيين أو من لا يزعم أنه يرفع بالدين رأسا لكان الأمر سهلا غير أن الداهية الدهياء والمصيبة النكراء هي أن يأتي نقض عرى الإسلام عروة عروة من الحكم بإباحة رئاسة غير المسلم إلى سلب الجهاد من روحه العقدية ممن يلتحف بلحاف إسلامي لا يلائم هذا الطرح إلا كما تلائم النار زبدة المصيف.
لقد كان مقال الشنقيطي الجهاد على بصيرة منتظما مع خطه الفكري المولع بالطعن في قواطع الأدلة اعتقادا وعملا رغم إيمانية العنوان وتلهف النفوس الحية إليه.
والذين لا يكتفون من المقال بقراء اسم الكاتب أو المقدمة والخاتمة سيجدون فيه واحدا من أخطر مقالات الشنقيطي وهو ما ألزمنا التنبيه على الأمور التالية:
• الأول: أن حسن الاستهلال وصدقه وصوغه بأسلوب أخاذ (لم تعرف البشرية حروبا غيرت وجه الدنيا ومسار التاريخ بأقل ثمن في الدماء والأموال، مثل حروب النبي صلى الله عليه وسلم. والسبب في تلك النتيجة المبهرة هو أنها حروب جسدت روح الجهاد رسالة وغاية وأخلاقا وأحكاما) قد يحمل البسطاء على استبعاد أن يعقب هذه المقدمة الحق غير الحق فيتلقون ما بعدها بعين الرضا والقبول والواقع أن الموضوعية في الحديث عن الجهاد توقفت مع هذه المقدمة الخادعة كما يأتي بيانه.
• الثاني: أن الكاتب كما استهل بمقدمة موضوعاطفية خادعة فإنه كذلك ختم باستنبطات واستخلاصات لا تقل خادعية حين ينزل إلى الواقع محتضنا ثورات الربيع موجها ومرشدا بتوجيهات تحمل بعض الروية ويحالفها بعض الصواب كما هو الحال حين يقول مثلا: "هذه الطاقة الجبارة يساء استخدامها أحيانا بسوء التسديد، وضعف النظر الشرعي، وفقر الحكمة السياسية. فالعزيمة الصلبة والاستعداد للشهادة في سبيل الله لا يغنيان عن العمق الشرعي، والانضباط الأخلاقي، وحسن التقدير والتدبير.  وإذا لم تكن لدى المجاهدين رؤية سياسية وإستراتيجية ناضجة، تحوّلت تضحياتهم انتحارا على أعتاب العدمية".
وحين يقول "على أن أخطاء المجاهدين وخطاياهم -مهما عظمت- ليست بمسوغ شرعي لتعطيل الجهاد.....ومهما يكن من أمر، فإن المجاهدين المسلمين اليوم لا ينقصهم الإقدام والتضحية، وإنما ينقصهم التبين الشرعي والسياسي..... فالمجاهد الباحث عن الموت في مظانه عصيّ على الهزيمة أمام أعتى جيوش العالم، إنما تهزمه أخطاؤه وخطاياه، ويحميه من الهزيمة أن يكون جهاده على بصيرة شرعية وحكمة سياسية".
وهكذا يدخل القارئ المقال مدخلا ممجدا للإسلام ويخرج مخرجا موجها ومرشدا ومسددا فيغفل عما في العرض مما يعود على طرفي المقال بالإبطال.
• الثالث: أتى الكاتب في مقاله بأخطر الأحكام وكأنها مسلمات وقواعد كلية من ضرورات الشرع وهو في ذلك مدفوع بما صار يبدو عليه من بلوغ درجة عالية من جنون العظمة المعرفي ضاربا عرض الحائط بما من النصوص كفيل بدحض تلك الافتراءات على دين الله وتبلغ تلك الافتراءات ذروتها في قوله:
(مناط الجهاد في الإسلام هو رفع الظلم حصرا، فليس من المصلحة أن يصوغ المجاهدون قتالهم بلغة اعتقادية صارخة، هي لغة الحرب بين الكفر والإيمان، والولاء والبراء).
ويحار القارئ كيف لمبتدئ في علوم الشرع أن يأتي بمثل هذه القاعدة وهي حصر مناط الجهاد في رفع الظلم وهل يوجد بيان عن الله أكثر من بيان القرآن والسنة الصحيحة الصريحة؟
لقد كانت النصوص الشرعية صريحة لمن يدرك ممهدات طرق الاستنباط أن غاية ومناط الجهاد إعلاء كلمة الله وتبليغ دينه، يقول الله سبحانه وتعالى  {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} وقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} سورة البقرة وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} سورالتوبة.
وفي صحيح البخاري " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله "
وفي صحيح مسلم  عن بريدة قال: - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أوصاه بتقوى الله, وبمن معه من المسلمين خيرا, ثم قال: "اغزوا بسم الله, في سبيل الله, قاتلوا من كفر بالله, اغزوا, ولا تغلوا, ولا تغدروا, ولا تمثلوا, ولا تقتلوا وليدا, وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال, فأيتهن أجابوك إليها, فاقبل منهم, وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم. ومثله عن صفوان بن عسال ، ولفظه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ، فقال : سيروا بسم الله ، وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تقتلوا وليدا. رواه النسائي في الكبرى ، وابن ماجة في سننه بإسناد حسن.
وبهذا يتبين زيف ما قال الكاتب: "لم يجعل الإسلام اختلاف الدين مسوغا شرعيا للقتال، فالجهاد في الإسلام ليس قتال الكافر، بل هو قتال الظالم مسلما كان أو كافرا، فهو موقف أخلاقي مع العدل والحرية ضد الظلم والقهر. فالمجاهد يقاتل الظالم لظلمه، لا لعقيدته أو مذهبه"
والحقيقة أن الإسلام يعتبر أن كل قتال لغاية غير إعلاء كلمة الله ليس من الجهاد في شيء ففي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله». متفق عليه.
صحيح أن قتال الظالمين امتثالا لأمر الله هو من الجهاد لكنه غير منحصر فيه بل إن الظلم في مفهوم الإسلام لا ينصرف إلى شيء كانصرافه إلى الكفر فدخول الكفر فيه دخول أولي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} سورة البقرة، وقال: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} سورة لقمان. {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} سورة يونس أي يظلمونها بالكفر والمعصية.
ومن هذا المناط الذي هو إعلاء كلمة الله تتفرع العلل والحكم الأخرى كرد العدوان وحفظ الإسلام، قال الله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة: 194]. وقال سبحانه: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 40]. وكنصرة المظلومين، قال تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} [النساء: 75]. وواضح لمن له إلمام بأساليب العرب أن هذا ليس تعليلا وإنما هو استحثاث وإغراء.
إن الجهاد في الإسلام ليس موقفا عقديا فحسب بل هو ذروة سنامه وهو العقد الذي هنأ الله بموجبه المؤمنين: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} "
ولمكانة الجهاد وعظيم منزلته تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل ثم يحيى ثم يقتل كما في الصحيحين «والذي نفسي، بيده لولا أن رجالا من المؤمنين، لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل». متفق عليه وفي الحديث المتفق عليه أيضا قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: «لا تستطيعونه» قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه»، وقال في الثالثة: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى». متفق عليه .
• الرابع: تجاهل الشنقيطي مراحل تشريع الجهاد التي جاءت متدرجة كما هو منهج الإسلام ولم يكلف نفسه عناء أي إشارة إلى تلك المراحل مع أن إدراك تلك المراحل هو وحده الكفيل باستيعاب الآيات القرآنية وعدم ضرب بعضها ببعض وعدم تعسفات التأويل إلى حد اللعب كما فعل حين زعم أن القتال والجهاد فيما سوى الآيات التي ذكر جهاد عهدي وهي مسألة من مضحكات التأويل.
إن الناظر في جهاد النبي صلى الله عليه وسلم يجده كان منقسما على أربعة مراحل:
- الجهاد بالقرآن وتبليغه والصبر على الأذى وكف اليد وذلك طيلة مقامه في مكة وسنة من مقامه بالمدينة قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} سورة الفرقان {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)}سورة الحجر .
- مرحلة الإذن دون الإلزام التصدي لرد عدوان المعتدين، أي القتال الدفاعي، ونزل في تشريع ذلك قوله عز وجل: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} (سورة الحج: 39 – 40).
- مرحلة الأمر بقتال من قاتل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} سورة البقرة.
- مرحلة الأمر بقتال الكفار حتى يؤمنوا أويعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} سورة التوبة {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} سورة التوبة.
لقد ذهب الجمهور إلى أن كل مرحلة من هذه المراحل ناسخة لما قبلها ومن العلماء من مال إلى بقاء هذه الأحكام منطبقة على كل وضعية مشابهة لها فيكون حكم الكف في حق من لا يطيقون المغالبة وحكم الإذن في حق من يمكنهم الدفع ويشق عليهم البدء ويكون حكم حصر القتال على من قاتلهم في حق من لا يستطيعون أكثر من ذلك، أما حين تقوى الشوكة فالحكم قتال كل من يقف في وجه الدعوة الإسلامية حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وهذا القول أليق بسماحة الإسلام ومرونته ولو سلك سبيله الكاتب لحل من الفقهي السياسي بركن غير مهيض.
• الخامس: زعم الشنقيطي أن القائلين بوجوب الجهاد متأثرين بالفقه الإمبراطوري وهذا ينسجم مع نهجه في سب الصحابة ونسبته إليهم عمل ما لم يشرع وهي لعمري فضلا عن كونها قدحا في من زكاهم القرآن {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} سورة التوبة فإنها تهمة تجانف الحقيقة ذلك أن الصحابة كانوا فيما قاموا به من نشر للإسلام ممتثلين للنصوص الآمرة بقتال الناس كافة حتى يكون الدين لله وما زادوا على إكمال المشوار الذي بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت بداية حربه خاصة بقريش ومن حارب أو نقض عهدا ثم أخضع كافة من في الجزيرة هجوما لا دفاعا ثم غزا غزوة تبوك هجوما لا دفاعا ثم جهز جيش أسامة هجوما لا دفاعا ثم جاء الخلفاء من بعده فواصلوا هداية الناس وتبليغ الدين لهم وهو ما يعبر عنه المستشرقون ومن على شاكلتهم بتوسعات الإمبراطورية الإسلامية.
• السادس: عمد الشنقيطي في سبيل إثبات دعواه أجنبية العقيدة على الجهاد إلى خلط وتدليس لا يليقان بباحث فضلا عن مفكر ومنظر، فخلط بين العلاقات الشخصية والمعاملات الفردية وبين العلاقات الدولية كما يخلط بين مراحل الجهاد قائلا: (ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بمسالمة الكفار المسالمين، بل استعان بالعديد منهم سياسيا وأمنيا ودعائيا: أفرادا مثل أبي طالب، والمطعم بن عدي، وعبد الله بن أريقط، وصفوان بن أمية، ومعبد الخزاعي.. ودولا مثل الحبشة.. وقبائل مثل خزاعة.. قال ابن هشام "وكانت خزاعة عيْبةَ نُصْحٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلمُها ومشركُها، لا يُخْفون عنه شيئا كان بمكة)
والحقيقة أن هذه الأمثلة ليست محل نزاع فلا قائل بعدم جواز التعامل مع أفراد المشركين، كما أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم في ذمة المطعم بن عدي كان قبل تشريع الجهاد في مرحلة الكف وكذلك اللجوء إلى أرض الحبشة ومعاهدة خزاعة في مرحلة قاتلوا الذين يقاتلونكم ولم تكن خزاعة ممن يقاتل المسلمين بل كانوا ممن يناصرونهم ويوالونهم فليس في الأمثلة دليل على عدم ارتباط الجهاد بالعقيدة.
• السابع: وقع الشنقيطي في خطأ جسيم حين مزج بين صناعة الفتوى وصناعة التنظير والتقعيد حين يقول (فليس من المصلحة أن يصوغ المجاهدون قتالهم بلغة اعتقادية صارخة، هي لغة الحرب بين الكفر والإيمان، والولاء والبراء) فقد يكون هذا الكلام مقبولا كفتوى خاصة لواقعة أو وقائع معينة حسب ما تمليه مصلحة الجهاد وإكراه الواقع، لكنه لا يصلح أن يكون قاعدة تنظيرية شاملة مجردة كما يبدو في المقال.
• الثامن: أراد الشنقيطي بهذا المقال إطلاق حملة لعسكرة ثورات الربيع العربي: بدأها بقوله: (إن أمتنا صبورة شكورة، لكن الاستبداد وظهيره الدولي أوغلا في إذلالها بهمجيتهما، وأرغماها على حمل السلاح، وقديما قالت العرب "احذر غضبة الحليم". وقد برهنت الأعوام الأربعة التي تصرمت منذ اندلاع الربيع العربي المجيد أن الثورات ضد المستبدين الفاسدين قد تكون سلمية، لكن الثورات ضد القتلة السفاحين لا يمكن أن تكون إلا عسكرية). وما فات الشنقيطي هو أن هذه الدعوة الخطيرة غير مضمونة العواقب خاصة مع تأمل الشواهد التاريخية (مقتل الحسين ووقعة الحرة وغيرهما) والشواهد الواقعية (الأزمة الجزائرية والسورية) في الوقت الذي بلغت فيه التجربة التركية مراحل متقدمة بعد كثير من المحاولات والمراجعات والصبر على السلمية لذلك كان رفض منطق العسكرة من طرف أهم الحركات الإسلامية الوسطية (الإخوان المسلمين حيث يكون لهم تنظيم فعلي وقرار كما في مصر واليمن) مبدئيا تأسيسا على قواعد ونصوص الشرع وشواهد التاريخ أما الحركات الجهادية فتنظر بالريبة إلى تنظيرات أمثال الشنقيطي وهكذا يتوقع أن تصطدم هذه الدعوة بهذا الواقع وتكون محدودة التأثير بل ربما لن تؤثر إلا عاطفيا على مراهقي الفكر الذين يقرأون الكاتب لا المكتوب.
ولا يعني نكران هذه الدعوة الاستسلام للطغاة والإذعان لهم بحال لكن يجب أن يظل ذلك في حدود لا تصل حد العسكرة كالتشويش الإعلامي والدبلوماسي والاقتصادي وسائر مجالات النضال، وعلى الثوار أن يبدعوا طرقا غير تقليدية وليست العسكرة إلا صبا للزيت على النار، والجهاد لا ينحصر في القتال فهناك جهاد التعليم، وبث الوعي ورد الشبه ولانحرافات الفكرية والجهاد بالمال وكل ما يحتاج إليه المسلمون لأن الجهاد هو بذل الوسع انتصارا لشريعة الله، ورفعا لكلمته في الأرض على بصيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن هنا نقول مطمئنين إن ما ورد في مقال الجهاد والبصيرة قليل الحظ من الجهاد والبصيرة إذ لا يؤسس إلا لعسكرة حربية في صفوف المسلمين.

2. مارس 2015 - 0:16

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا