(الشرطة ،حرس الرآسة ،أمن الطرق)
تستدعي دراسة النظام السياسي الحديث ،الأخذ في الاعتبار مفاهيم القوة والقانون والعلاقة بينهما .وإذا أردنا أن نميط اللثام عن الممارسات السلطوية في أنظمة الحكم الموريتانية المتعاقبة ،فإن الحدود الفاصلة بين القوة والقانون ستتلاشي تماما ،
ولن تبدو مختلفة إلا إذا استعرضنا تاريخ أجهزة القوة وأمعنا النظر في أسلوب ممارستها وطرق إدارتها للشأن العام و درجة اقترابها وابتعادها من تطبيق القوانين ومدي رعايتها للفساد وحمايتها لأركان النظام ...فهل نحن أمام ظاهرة سياسية حديثة؟ أم أن الأمر يتعلق بأسماء متغيرة لأسلوب واحد ؟وكيف يمكن للقوة أن تَختزل بداخلها مفاهيم الحق والقانون والشريعة والدين؟
يُعرف علماء السياسة والقانون النظام السياسي الحديث بأنه:(مجموعة المؤسسات التي تتوزع بينها آلية صنع القرار السياسي) بحيث تنظم مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية المختلفة وظائف القوة وتوزع عليها الأدوار المنوطة بها في إطار عملية تنفيذ القوانين ، ويتمثل التداخل بين القوة والقانون في أن القوة" تتأسس علي القانون" وتستمد شرعيتها منه. أما القانون فترجع أصوله إلي الدستور والشريعة المعمول بهما في ذلك البلد .
جهاز الشرطة في الدولة الحديثة هو المسوؤل عن الأمن الداخلي ،ومحاربة الجريمة والانحرافات السلوكية المختلفة ،وتنظيم المرور داخل المدن ،وتنفيذ القوانين العدلية من خلال الشرطة القضائية .لكن قطاع الشرطة الموريتانية لم يكتف يوما بهذه الأدوار المؤسسية ،ولم يمارسها انطلاقا من خلفية مؤسسية ومهنية ،لكن هذا الجهاز تأسس منذ البداية علي ضعف في الوعي المدني ونقص في الخبرة الأمنية وجهل في بعض الأحيان بالقوانين ، وقد أدي غياب التكوين المهني وسياسة الاكتتاب الفوضوي والمحسوبية والقبلية والجهوية إلي أن تنحرف مسيرته منذ البدايات الأولي عن بوصلة الأهداف المهنية التي أنشئ الجهاز لخدمتها .وقد كانت تلك الوضعية مفهومة بالنظر إلي ظروف نشأة الدولة وضعف مؤهلات أبنائها خلال مرحلة الاستقلال الوطني ..إلا وتيرة الانحراف تسارعت بشكل لافت بعد الانقلاب العسكري الأول .
وقد كانت البداية في مشاركة إدارة الأمن في المجلس العسكري الأول وظهور هذه الإدارة بوصفها جهازا أمنيا مساندا ومشاركا في السلطة ،لكن الأمر لم يدم طويلا ،فقد أدرك العسكريون خطورة دور الشرطة وأهمية إخضاعها لأجندة العسكريين ، فتم لهم ذلك نتيجة ضعف قدراتها العسكرية وهيمنة عامل القوة لدي الجيش وجشاعة قادته .ونشأ صراع خفي بين الطرفين لاتزال تداعياته مستمرة وكامنة .
قام الجيش حينها بإخضاع الشرطة من خلال تعيين قائد ميداني عسكري علي رأس إدارة الأمن الوطني، وبدأت مع النقيب أو الرائد وقتها (أعلي ولد محمد فال) مرحلة الالتحام الكامل بين أجنحة القوة في الدولة ،وبسطت خلالها القوة العسكرية سيطرتها علي قيم المدنية والقانون والشريعة والحق. لقد تحول قطاع الشرطة خلال عشرين سنة (تقريبا) إلي وكر للجواسيس وملاذ آمن للجريمة الأخلاقية والاقتصادية، واحدي من وسائل القمع الأكثر بشاعة في المنطقة كلها .
وتمكن قادة الشرطة خلال تلك الفترة من نسج علاقات مافيوزية مع المفسدين من كل صنف وأداروا لعبة القوة والمال والقمع ،وتمكنوا من توفير أرضية آمنة لإهدار المال العام في تشييد قصور تفرغ زين، وشجعوا بقوة ثقافة التملق والنفاق، ورسخوا ممارسات التًجسس في صفوف الموظفين والمسؤولين الحكوميين والمجتمع.إن الأدلة والشواهد لاتزال قائمة علي مستوي الانهيار الذي أصاب قطاع الشرطة خلال مرحلة قيادة العقيد والرئيس- بعد ذلك -أعلي ولد محمد فال؛ والذي تحول إلي أبٍ روحي للشرطة الموريتانية ، فقد مكن قادتها وضباطها وبعض الخلصاء من عناصرها من الثراء السريع والفاحش، وفتح لهم خزائن التجار، والناقلين ،وأصحاب الشركات، ناهيك عن المهربين وشبكات التزوير ،والتبييض ،والرذيلة . إن ممتلكات العقيد والزعيم وشركائه الأساسيين في قطاع الشرطة تدل بما لا يدع مجالا للشك علي مستوي النهب المُنظم والفساد الذي استشري في ممارسات الشرطة "الوطنية".ومن الغريب أن لاتجد اليوم من يتحدث عن تلك المرحلة من تاريخ الشرطة ، بل إن محاربة نظام الجنرال لها لم تكن سوي : ذر للرماد في العيون ، وهاهي الشرطة نفسها تعود اليوم دون أن يتضرر فرد منها أو يفتقد رمزها وقادتها - في كل تلك الجعجعة- درهما واحدا من ماله أو ساعة من وقته !
ثم جاء الدور علي اسم جديد لقطاع استثنائي آخر لكنه هذه المرة – غير قانوني أصلا- ويتعلق الأمر بإنشاء الرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع لكتيبة أمنية باسم:(بازب) :ظاهر هذه الكتيبة أنها فرقة عسكرية تنمي للجيش الوطني، وباطنها أنها وسيلة من وسائل القوة غير الشرعية ،تهدف لتعظيم نفوذ الرئيس وسيطرته علي مفاصل الدولة ،وحماية نفسه، وعائلته ،وأفراد سطوته وتجبٌره، وهي مسلحة ومدربة بشكل مختلف عن وحدات الجيش الوطني ،كما أنها تحتل موقعا سلطويا متعاليا علي النظام المؤسسي للجيش .وهذه الكتيبة تقدم اليوم نموذجا سيئا للقوة غير الخاضعة للقانون ولا يعرف أحد حجم الأموال التي تُعطي بوفرة لقادتها وجنودها ..
الاسم الثالث جاء به قاموس آخر الانقلابات العسكرية علي السلطة المدنية للدولة الموريتانية ،وهو قوات أمن الطرق ،وهي من جهة قوات مسلحة ؛ينتمي أفرادها للجيش والدرك أو مكتتبين لصالحها ومُدربين في مدارس القوات المسلحة وضمن أنظمة القوانين العسكرية ،ورُتبها ،ورواتبها المالية ،وتسييرها العام ، ولكنها من جهة أخرى ،وُجدت لتشغَل موقع الشرطة في وقت كان فيه النظام يُظهر التًذمر من مؤسس الشرطة الحديثة ومُلهمها والمُتحكم فيها لزمن طويل: (أعلي ولد محمد فال). وقد ارتبطت نشأتها بقيادة أحد الجنرالات المشاركين في انقلابات الرئيس الحالي وأطلقت علي التنظيم العسكري الجديد تسمية:(جنود مسقارُ) .وكان واضحا أنهم وخلال السنوات الأولي لنشأتهم قد سحبوا بالفعل البساط من تحت أقدام الشرطة في منازلة متخلفة للقوة بين فريق الرئيس ،وشُرطة ابن عمه وخصمه (الودي)، ومع ذلك فقد استُنزِفَت أموال وقدرات كثيرة لإنشاء هذا التنظيم ،وهاهو اليوم بعد أن تراجعت حدة الخُصومة ونجح بعض قادة الشرطة في استدراج عطف الرئيس وشراء ثقته من جديد؛ هاهو وضع هذه القوة العسكرية يرتبك وإجراءات توزيع الصلاحيات بينها وبين الشرطة غير مُقنعة ،وتدل علي غياب المؤسسية والتلاعب بالقوانين ..
إن الأسماء مهما تغيرت لاتمثل في النهاية إلا نهجا واحدا، أًقيم منذ البداية علي الفوضى في التنظيم ،والتخلفِ في ممارسة سلطة الدولة الموروثة عن الاستعمار، والتي رسَخت بفعل هيمنة القوة وتسلطها ،وغياب الوعي المدني ،وعدم استيعاب المجتمع لأهمية تأسيس منظومة حكم سياسي قائمة علي المؤسسية والقانون والدستور الذي يؤسس القوة، وينظم توزيعها واستخدامها.