قديما طرح السؤال لماذا ظهرت الفلسفة في أثينا ولم تظهر في اسبارطة؟ وكانت الإجابة أن أثينا كانت بلدا ديمقراطيا ازدهر فيه التفكير والتساؤل أما اسبارطة فكانت مجتمعا عسكريا لديه الإجابة على كل شيئ .
أما في العصر الحديث فقد استبدت إشكالية تحقيق الديمقراطية في البلدان المتخلفة بأنظار المفكرين والمنظرين حيث أفسح استعصاء الجواب النظري المجال لجواب عملي حل محله وهو الثورة التي تولت القيام بها القوة الوحيدة المنظمة في هذه البلدان أي الجيش.
في الحالة الموريتانية نحن أمام كيان سياسي حديث النشأة : بلد عربي إفريقي مترامي الأطراف لم يتشكل إداريا وسياسيا تحت هذا الاسم (موريتانيا ) إلا مع قدوم المستعمر الفرنسي . ولم تعرف هذه البلاد سلطة مركزية تؤسس لتقاليد متينة في السلطة من حيث التنظير والممارسة ، لم تكن دولة المرابطين منذ إحدى عشر قرنا استثناء فقد كان وقودها قبائل بدوية متنقلة وامتدت شمالا لتسيطر على الأندلس وتقيم ملكها في مراكش.
لقد تأسس هذا الكيان الهش على مجموعة من النخب لم تستطع مقاومة مظاهر موغلة في السلبية كالزبونية السياسية والقبلية والجهوية بل تجاوزت الخطوط الحمراء بتأويل التحولات العميقة التي يعيشها المجتمع على أنها شكل من أشكال الصراع بين الدولة والشعب.
هكذا حملت الدولة الموريتانية معها منذ النشأة إشكالية بنيوية تكمن في غياب مشروع مجتمعي عام وبالتالي لم يتغير نمط الحكم في موريتانيا منذ الاستقلال وواصلت النخب (المؤسسة) تصدرها للمشهد لتتقاسم المسؤولية مع الأنظمة المدنية والعسكرية المتعاقبة في العجز عمليا عن تقديم بدائل لواقع بلد يزخر بالموارد الطبيعية لكن أغلبية سكانه يرزخون تحت وطأة الفقر والتخلف.
لقد شكلت الانقلابات العسكرية في هذا البلد عمليات إنقاذ تشبه تلك التي تحدث في أعماق الصحراء ، إنها بمثابة عمليات ضبط للبوصلة.
إنك عندما تستمع للخرجة الإعلامية الأولى لرواد 1984 تتخيل أنك في 2003 أو 2005 أو 2008 أو حتى 2015 ، الخطاب هو هو: تطهير الإدارة والمؤسسات المصرفية والمالية ، سياسة رشيدة في مجال الصيد ، تطبيق مبدأ العقوبة والمكافأة ، والقطيعة مع الانتهازية والانتقائية واختلاس المال العام.
وعلى الرغم من التحولات السياسية وتطوير المؤسسات الديمقراطية في العقد الأخير من 2005 حتى 2015 بما في ذلك دستور1991 المعدل سنة 2006 ، لازالت الديمقراطية الموريتانية شكلية إلى حد بعيد : سلطة تشريعية وقضائية صورية وعدالة اجتماعية غائبة ، مع طفرة في المشاريع التنموية التي لم تنعكس على حياة الناس نتيجة للارتجالية من جهة وغياب الثقة في الدولة من جهة أخرى.
لا ننسى هامش الحرية الكبير الذي أفضى في الأخير إلى بروز خطاب عنصري وشرائحي مقيت تجاوز الخطوط الحمراء .
كما أدت حرية الصحافة إلى صعود جيل من أصحاب الغرائز الفجة والانفعالات والأهواء ضاربين عرض الحائط بالأخلاق والمبادئ والقيم التي تعارف عليها المجتمع الموريتاني الذي يمر الآن بمرحلة حساسة في تاريخ تطوره.
ومع أن موريتانيا لم تكن مهمة في الرهانات الجيوستراتيجية فقد أصبحت لاعبا بارزا في عملية ضبط إيقاعات العمليات العسكرية في الصحراء الكبرى مما يعطي للبعد الخارجي مسوغات للانتباه ومتابعة التطورات.
هل نحن بحاجة إلى الديمقراطية ؟ أم نحن بحاجة إلى ضبط البوصلة؟
يجيبنا أفلاطون بأن الديمقراطية لا يمكن أن تكون حلا سياسيا طالما أنها تقدم الحرية وتتجاهل الحاجة إلى الكفاءة السياسية اللازمة ، لذلك يتنبأ أفلاطون بانهيار مؤكد للديمقراطية وانحدارها نحو الاستبداد وبالتالي الخسارة الكلية للحرية.
يوضح أفلاطون فكرته بمثال سفينة الأغبياء الشهير : يتصور رحلة في البحر حيث يشعر جميع المسافرون بأحقيتهم وأهليتهم لقيادة السفينة مع أن قائدها هو ملاح جيد لكنه غير جيد في إقناع الآخرين بذلك ، الركاب يصرخون بصوت عال مع أنهم لا يعرفون شيئا عن الملاحة لكنهم سيتولون ناصية السفينة ، الاضطراب والشغب سيسود السفينة والنتيجة ستكون العربدة والفوضى.
سيتحول الميدان المعقد للسياسة الذي هو بحاجة للإدارة والتنظيم الجيد إلى سيرك مجنون .
من حسن الحظ أن مجتمعنا مسكون بنزعة النفور من نظرية الزعيم الكاريزمي ، يستمد قوانين القوة والتماسك الأخوي من جذور تيار روحي ضارب في الأعماق.