إن المجتمع الموريتاني يعيش أزمات أخلاقية خانقة، أخطرها ترك الصلاة والعقوق، وإذا كان حكم ترك الصلاة واضحا، وأسبابه متعددة متشعبة، فإننا سنركز في هذه السطور على ظاهرة العقوق المشين.
وأقول إجمالا دون تفصيل،
إن مجتمعنا يعيش أزمة أخلاقية مخيفة، يتعمد هذا المجتمع إخفاءها بحجة أنها من آثار المراهقة، وأنها حتما سيتم تجاوزها مع الوقت، وبالتالي فهي فاضحة ولا داعي للكشف الكبير عنها!.
وهذا قد لا يماثله إلا إخفاء مرض السرطان، لتركه يتفشى دون علاج أو فحص أو تبصر، ليصل إلى مستوى غير قابل للإجتثاث للأسف البالغ، ويومها يندم المريض وذووه.
وإذا كانت ظاهرة العقوق ظاهرة قديمة قدم وجود الإنسان، إلا أنها مدمرة قبيحة وتمثل قمة انعدام الإنسانية والدين والقيم، وهي كفيلة بالتخلص قي أقصر وقت من استقرار مجتمع بأسره، لأن الأسرة وعلاقاتها الدافئة هي رمز استقرار المجتمع وهنائه، وبتعرضها لمثل هذه الهزات الخطيرة، يتفكك توازنها، وهي أس أساس المجتمع، فينهار تلقائيا، مهما بدا أحيانا متماسكا بسبب السرية والتكتم الزائد.
لقد أضحى الكثير من الآباء لا صلة له بأبنائه، فهم لا يزورونه ولا يتصلون عليه، ويعتبر في حسبانهم -حسب ما يظهر من مثل هذه التصرفات الغريبة-، هو عدوهم الأول والعياذ بالله، ويجد ذلك استحسانه من قبل أمهم المطلقة أحيانا، بل ربما تدفعهم إلى ذلك -وبوجه شبه صريح- بدافع الانتقام من أبيهم الذي طلقها يوما، لأسباب قد تكون تافهة أو مقنعة.
وفي حالات أخرى تتعرض المراهقات -الشاعرات بوجودهن بشكل زائد أيضا- لجداتهن وأمهاتهن المباشرات أحيانا.
وإن وصلت بعض الحالات إلى القضاء بشكل علني سافر، ودون جدوى، لأن الأسلوب العقابي قد يفلح أحيانا، وقد لا يزيد الطين إلا بلة في الغالب الأعم من الحالات.
لتبقى الظاهرة المقرفة مستفحلة متزايدة، تثير الاستغراب والاشمئزاز إلى أقصى حدود.
الشخص الذي كان سببا في وجودك ويحنو عليك بما يجد وما لا يجد، تحقد عليه وتهجره والعياذ بالله، وكأن نعماءه عليك تحولت إلى سبب للشر والكره، تارة بحجج مادية وأخرى إجتماعية، مثل عدم التوافق مع الزوجة الجديدة لأبيك، وطورا لأسباب خلقية -بكسر الخاء- لأن طينة بعض البشر أميل إلى الشر حتى ضد الوالدين أنفسهم.
ما هذا الانحراف المروع في النفوس والطبائع والسلوك، أيصل الشر إلى كره الوالد أو الوالدة، وهجر وكره أحدهما أو كلاهما.
هذا ما تأكدت من وجوده في مجتمعنا العربي المسلم بصورة متعددة، ولا يخفيها عن أنظار البعض إلا الكتمان والتستر المتعمد.
لقد ربط الله عبادته بالإحسان للوالدين معا، دون تمييز، وبأسلوب لا يقبل التملص.
فقوله جل شأنه "قضى"، ترفع درجة الأمر والإلزام الصارم الحرفي، خصوصا مع ربط صريح مباشر بموضوع عبادته وحده، ليصل أمر برور الوالدين درجة القداسة، وليصل التحريم أي العقوق درجة الفسوق المركب الفظيع المقيت.
قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ".
وأقول،لمن يعاني مثل هذه الكارثة اللأخلاقية البائسة، من طرف بعض ذريته أو أحدهم، "إنه عمل غير صالح"، كما قال ربنا لنوح عليه السلام في شأن ولده، فلا تبالغ في محاولات الإصلاح، حين يصل الأمر درجة الفجاجة والمكاشفة والمواجهة السلبية المباشرة، ولتراجع ولتصبر.
فالله كفيل بإصلاح الأمر أو الإنتقام، وهو أعلم بأسرار صنعته، ولله في خلقه شؤون.
فالوالد ينبغي أن يوجه ويسدد ويسعى للإصلاح، لكنه لا ينبغي أن يتودد لأبنائه، ليصبحوا عليه سلطة وقهرا وإصرا مدى الأيام والدهور، وإنما يكفي النصح، وما بعد ذلك إلا الترك، ليعلم العاق المسيئ الخارج على القيم والاخلاق أن لا وزن له ولا شأن، ولا عاطفة له ولا اعتبار، فقد يكون في ذلك فرصة لرجعته عن باطله أو تركه إن أصر، جزاءا وفاقا، لما فضل من نكران الجميل وتسلط وظلم على أقرب مخلوق له في هذه الدنيا الغريبة.
ولعل نسبة الطلاق المرتفع تمثل بعض خلفية هذا الداء العضال: العقوق.
فتتحرك المطلقة، وأحيانا بصراحة، لتحريض الأبناء ضد أبيهم، الذي ربما هجرها ظلما أو تحت ضغط عدم تفاهم مزمن.
حيث تفضل بعض النسوة في مجتمعنا السهر خارج البيت لمختلف الأسباب، خصوصا المناسبات الاجتماعية، وتوجيه الكلام البذيئ لزوجها، ومحاولة الهيمنة في سياق العلاقة الزوجية، التي أعطى الله قيادتها للرجل، بحكم الفطرة والتكوين، وهي القوامة التي حبا الله بها الرجل، لأنه أوسع باعا، حتى يقوم أمر الأسرة بأمان ونجاعة.
ولعل بعض الرجال أيضا يسأم من الإذلال، فيخرج نفسه مكرها، من عش الزوجية الخانق!.
فتصدر المطلقة أزمتها إلى أولادها، وتدمر حياتهم بالحقد، فيبدؤوا أحيانا بالتسرب المدرسي، وينتهون إلى واد واد جهمني من العقوق.
وفي بعض الأحيان تكون الأم ضحية هذا العقوق السافر المرعب، فتتوق المراهقة أو المراهق إلى الاستقلال، ويعتبر أمه سدا في وجه حريته، فيحطمه عمدا لا سهوا، ويصر باستمرار على تجاهل ما تريده هذه الأم أو ما يناسبها.
إن الدور التوجيهي مطلوب وملح وناقص، سواء من قبل الدعاة والعلماء أو الإعلاميين أو أصحاب الرأي جملة، وقد يحد من الظاهرة المستفحلة المتصاعدة ربما، فيذكر الغافل ويرد –عسى- الأمور إلى نصابها المتوازن الطبيعي الجامع المصلح.
ولاشك أن لبعض الحالات إستعصاءا، لتعلقها بغلبة الشر على البعض، لكن النصح قد ينفع، وهو لله بطاعته ولكتابه بالعمل به ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالتأسي به، وللناس أجمعين، ومن بينهم العاقين طبعا.
فلا تبخلوا بالنشر والتوجيه والتبيين، قصد تفادي خطر هذا اتسونامي اللأخلاقي، أي العقوق، حتى لا يجرف الاستقرار الهش، الذي يعيشه مجتمعنا، والذي يواجه مختلف وصنوف التحديات.
ولا أحسب أن التحديات الدينية والقيمية، إلا أخطر وأعظم هذه التحديات المتتابعة.
إن العقوق يصيب ضحاياه من الآباء، بالإحباط والتوتر والقلق، إلا أن الله قدر وما شاء فعل.
فعلى الآباء المعنيين الصبر وعدم الجزع.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ" من رواية مسلم.
إن هذه الظاهرة مؤلمة وغريبة، فهي قمة نكران الجميل، وحتى لو لم يكن أبوك محسنا عليك، فهو حقيق جدير -شرعا- بحكم وأمر ربنا بالبرور، وحتى لو كان كافرا، فما بالك، فلقد نزل في شأن أم مصعب بن عمير الكافرة، قوله تعالى: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ".
وما بالك بالأب الحنون العطوف، أو الأم وهي كذلك دوما وغالبا، فكيف يكون جزاء أحدهما أو كلاهما إلا الإكرام المفقود في حالة العقوق المنكر البواح البغيض.