( خافضة رافعة )
يقف المفسرون كثيرا مع فواتح سورة الواقعة ويوردون تفسيرات عديدة من بينها أنها خافضة لأقوام في دركات العذاب ،ورافعة لأقوام في درجات الجنان، ومن بينها أنها خفضت فأسمعت
الأدنى ، ورفعت وأسمعت الأقصى ، ومن بينها أنها خفضت أقواما كانوا أعزاء في الدنيا ، ورفعت أقواما كانوا وضعاء في الدنيا ، كل هذه التفسيرات التي أوردها المسفرون يمكن إسقاطها على "واقعة" اسنيم ؛ فقد خفضت أقواما ، ورفعت أقواما آخرين ، وفي هذه العجالة نقف مع كلا الفريقين ( المخفوضين والمرفوعين ) نيبين من خلالها أبرز الطرفين ، فمن الذين خفضتهم " واقعة " اسنيم ؟ ومن الذين رفعتم ؟
1- واقعة اسنيم ( خافضة ):
منذو اللحظات الآولى لإراهاصات ما بات يعرف بأزمة اسنيم ، وما نطلق عليه في هذه المعالجة " واقعة" اسنيم بدت ملامح أولئك الذين هوت بهم هذه الواقعة وخفضتهم في أسفل سافلين نضاليا وأخلاقيا ، مسؤولية ومصداقية ، تتضح شيئا فشيئا وكلما طال أمد " الواقعة " اتسعت دائرة المخفوضين بفعلها ، والمطمورين بغبار حديدها المنهار ، فمنهم أبرز المخفوضين في هذه الأزمة ؟
- المدير البندير
كانت الأيام الأولى للواقعة كافية لتهوي بالمدير المدلل من قمة برجه العاجي الذي بناه من عرق جبين مآت العمال المطحونين بفعل الانهماك اليومي في استخلاص الحديد من معادنه ، وتخفضه في إلى هوة سحيقة في سفح جبل " كدية الجل" أو" كلب الغين " ؛ حيث أظهر بصلفه وتكبره عن الاستماع لمطالب وقع عليها ذات يوم مرتفع المعنويات ارتفاع سعر الحديد ، مضمرا في ضميره المنهار أمام الضربات الأخلاقية لإضراب عمال اسنيم عدم الوفاء بعهده ، مسنتدا إلى ركن الثقة المطلقة التي يمنحها له الجنزال المخفوض هو الآخر بفعل تسخيره عملاق الاقتصاد الوطني وشريانه وصمام أمان الشمال لنزوات الجنرالية السياسية ، مغرقا الشركة التي طالما تغنت الدولة بمهنيتها وابتعادها عن التوظيف السياسي في مشاريع معدومة الجدوى أصلا وفرعا ، مسخرا الشركة لإنقاذ بعض ملاك الشركات الخصوصية من الانهيار .
كانت تصرفات المدير في فترة "الطفرة" التي وقعت في سعر الحديد بعيدة عن النظر الاستراتيجي ، والتخطيط الاقتصادي السليم ، فبدلا من استثمار الفائض الحاصل من ارتفاع سعر الحديد في تحسين ظروف العمال واقتناء معدات جديدة ، وصيانة القديمة ؛ مما يسمح للشركة من تحسين الإنتاج وكسب مزيد من الثقة في سوق عالمية تشهد تنافسا محموما بين كبار منتجي الحديد .
لم يكتف المدير بتبديد فائض أرباح الشركة في مشاريع دعائية بل أكثر من ذلك ظل يستثمر أموال اسنيم في عملية " تفكيك" المشهد السياسي في لبراكنة و" تركيبه" بما يضمن له التربع على قمته ، كما يتربع أحد مهندسي اسنيم على قمة " كلب العين " بعد تفكيك وتركيب أجهزة أحد المعامل التابعة للشركة .
- الوزيز البشير
بعد شهر من الصمت المطبق ، والتفرج المخزي جاء الويز الشبير ،- وليته كان "الببشير يعقوبالذي جاء يعقوب " – محمولا في مروحية عسكرية حاملا معه بشارة هي إلى "النذارة" أقرب مطلقا وعدا ووعيدا ، مهددا بإغلاق الشركة إن أصر العمال على موقفهم...
هذه الرحلة غير الموفقة توقيتا ومضمونا هوت بالوزير البشير في لا ئحة المخفوضين إلى درجة لم يكن أحد يتخيلها ، وجعلت العمال أكثر إصرارا على المضي قدما في نضالهم النبيل ، وعقدت الوضع بدل تقريبه من الحل.
- الجنرال عزيز :
ماكان لمن ألف الحفر في سفوح الجبال ، والسقوط بين الحفر أن يتخلف عن ركب المخفوضين في " واقعة اسنيم" وأن يسجل اسمه في اللائحة بأحرف مدادها من صديد حديد اسنيم المتكدس على متن قطاراتها مطلا في ملئه الذين استخفهم فأطاعوه معلنا فشل الاضراب دون أن يكلف نفسه عناء التأكد من صحة التقارير المرفوقة بالوثائق الرسمية عن تدني نسبة الإنتاج بل عن توقفه وعن المخاطر التي تتهدد معدات الشركة بفعل استخدامها دون صيانة ومن قبل غير متخصصين أو متخصصين متقاعدين تقادمت معارفهم بحكم الفترة الزمنية التي قضوها خارج العمل ...
هذا السقوط التي وقع فيه الجنرال يقوض دعايات طالما تغنى بها من بينها كونها رئيس الفقراء ومن يكون الفقراء إن لم يكن آلاف العمال البسطاء في اسنيم من بينهم؟! ، كما يميز زيف ادعائه حرصه على اسنيم والمحافظة عليها وهو الذي جعل إشاعة نية سيدي ولد الشيخ عبد الله بيعها ذات يوم مبررا من مبررا انقلابه عليه ...
- عموم الإعلام "المستقل" :
شكل التعاطي السلبي لكثير من وسائل الإعلام " المستقل " المقروء والمرئي مع واقعة اسنيم سببا في سقوطه من أعين كثير من المتابعين للإعلام ، وكشفت زيف استقلاله ، وأظهرت أنه مجرد "شركات إعلامية" لبعض الأوساط المالية والاجتماعية والسياسية النافذة في السلطة والتي لا تريد للحقيقة أن تظهر ولا تريد لعمال اسنيم أن يوصلوا قضيتهم إلى الرأي العام وأن يوضحوا مطالبهم ، وأن يسمعوا أصواتهم ...
لقد شكل طوق التعتيم التي فرضه الإعلام الستقل فضيحة مدوية في مساره وسقطة من سقطاته ووصمة عار لن يستطيع غسلها بسرعة خصوصا وأن المعطيات تؤكد فشل التعتيم في تحقيق هدفه بعد أن انبرت بعض وسائل الإعلام المستقل لنقل الحقيقة من عين المكان وهي وسائل إعلام سنوردها في قائمة المرفوعين بفعل واقعة اسنيم ..
لم يكن حال أغلب نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي والنخبة السياسية بأحسن حالا كثيرا من وسائل الإعلام المستقل مما يظهر أننا نعاني من أزمة نخبة تهتم بالضعيف وتقف معه حتى ينال حقه دون أن ترهن هذا الوقوف في الاتفاق في التصور والفكرة ، جدير بالتنبيه أنه يوجد اسثتناءات هنا وهناك لكنها لا تصل إلى درجة كسر الطوق السلطوي والإعلامي على صوت العمال المضربين ..
هذه لائحة بأبرز المخفوضين في " واقعة " اسنيم ولسيت بالطبع كل الساقطين في امتحان الكرامة والوفاء والدفاع عن المظلوم ، هذه اللائحة يبدو أنها في ازدياد مطرد كلما طالت الأزمة أكثر .
2- " واقعة اسنيم ( رافعة ):
مثلما خفضت واقعة اسنيم أقواما رفعت آخرين مثلما رفعت عائدات أرباح اسنيم أرصدة المخفوضين بها في أسفل دركات الأخلاق والقيم ، لقد رفعت هذه الوقعة أقواما نضاليا ووفاء ومصداقية ، فمنهم أبرز المروفوعين بها ؟
- العمال المضربون :
لقد رفعت هذه الواقعة العمال المضربين ومنادبيهم في أعلى درجات مراتب النضال ، وكفشت أن معادنهم من معادن الرجال الأبطال ، وأن هممهم أشد صلابة من صخور الجبال ، وأظهرت للعيان أن في عالم يتسابق فيه مدعوا النضال إلى موائد السلطان يوجد رجال من طينة أخرى ، طينة العزة والشهامة ، طينة الإباء التي تأبى أن تسام الضيم والخسف ، طينة حفظ أصحابها قول الشاعر :
ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل
وهاهم اليوم يطبقون ما حفظوا في صمود أسطوري عجيب يقترب من "إكمال ميقاته أربعين يوما " ، وثبات اكتسبوه من معايشة الجبال ، وترويض لعوامل اليأس كما روضوا صخور المناجم والمعادن ..
لقد رفعت هذه الواقعة العمال المضربين ومن خلفهم كل "الشغيلة الوطنية" في أسمى وأعلى مراتب النضال وكتب فصلا ناصعا من فصول كتاب النضال في تاريخ الحركة العمالية ، لتقرأه الأجيال اللاحقة ويعلموا أن آباءهم لم يعطوا الدنية في كرامتهم ونضالهم وتضحيتهم وثباتهم .
- ساكنة عروس الشمال :
لقد كشفت هذه الواقعة عن معادن أصيلة لدى ساكنة عروس الشمال الموريتاني ، ورفعتهم في مراتب عليا من مراتب الوفاء وعلى رأسهم أسر العمال المضربين الذين أظهرت الأنشطة التي تقام هناك مدى وقوفهم مع المضربين وصبرهم على أنواع التضييق التي تمارسه الشركة في هبوط أخلاقي منها يبدو أنه لا حد له ؛ حيث عمدت إلى منعهم من الاستفادة من مخازن التغذية التابعة لها ، ومن الاستفادة من خدمات المستشفى الاستشفائي دون مراعاة وضعهم المادي والاقتصادي ؛ غير أن هذا لم يزد أسر العمال إلا ثباتا وصمودا خلف أبنائهم وآبائهم من أجل حقوقهم، وشعارهم نصبر على الجوع ولا نصبر على الضيم ، كما رفعت هذه الواقعة تجار المدينة وأساتذها ووجزاريها ؛ حيث أضحى ميدان الاستقال محجا لكل المتعاطفين مع العمال والذين يقدمون لهم أصناف الدعم المعنوي والمادي في تكافل اجتماعي ووفاء أخلاقي يرسم لوحة لموريتانيا التي نريد ، موريتانيا متضامنة فيما بينها واقفة مع المظلوم ضد الظالم حتى ينال حقه الذي يستحقه .
- بعض وسائل الإعلام المستقل
لئن كانت هذه الواقعة خفضت عموم وسائل الإعلام السمتقل ؛ فإنها رفعت بعضه في قائمة الإعلام المستقل الذي ينقل الحقيقة دون تعتيم عليها ولا تضخيم لحجهما ، يعتمد في النقل على الوثائق ، ويصور بكامراته الحقائق ، يتيح لأطراف النزاع مساحة التعبير عن حججهم ومواقفهم ، ويطلع القارئ والمشاهد على المعلومة التي هي حقه عليه ، ومن بين من رفعت هذه "الواقعة " موقع الأخبار ، والمرابطون ، والسراج الإخباري والترتيب السابق ترتيب مقصود؛ فقد كانت الأخبار في قلب الإضراب من أول أيامه تنقل أخباره أولا بأول ، مطلعة القارئ على مستجداته مفردة مساحة للرأي والرأي الآخر ،لتلتحق بها المرابطون لتتضح الصورة أكثر مضيفة إلى التغطية الإعلامية بعد الصورة والصوت مما أوضح الصورة أكثر وأعطى للمتابع القدرة على الحكم على حجم الإضراب وحقيقته ، وكانت السراج سراجا ينير بعض عتمات ليل التطويق على مايجري في انواذيب بقصاصاتها الإخبارية وتقاريرها الميدانية ...
بعد هذه الجولة في شأن " واقعة " اسنيم " الخافضة " الرافعة " نتختم القول بأن نتائجها أفرزت " أزواجاثلاثة" من الناس هم : "أصحاب مشأمة" سقطوا أخلاقيا وإداريا ومصداقيا هم النظام والسائرون خلف أوهام "حفرياته " و" أصحاب ميمنة " ارتفعوا وفاء ومصداقية وهم ساكنة عروس الشمال وأسر عمالها ، ووسائل الإعلام التي نقلت الحقيقة نقلا أمينا موثقا دون تهويل ولا تهوين ، ولا تعتيم ولا تضخيم ، و" السابقون السابقون" أولئك هم عمال اسنيم المضربون الذي أشعلوا جذوة الأمل في إمكان تحقيق وطن تشرق فيه شمس الحرية يوما وينتصب فيه ميزان العدل والمساواة، وتنعتق فيه النفس من براثن أمراضها المستعصية على العلاج ، وننعم فيه بوئام وانسجام ، وعيش في كنف المحبة والاحترام ، بعيدا عن كل أشكال الظلم والقهر والاستعلاء ولاستكبار العنصرية والاستعباد ...