... وحطت طائرة الرئيس المختار رحمه الله في مطار نواكشوط عند الساعة الثانية عشرة والنصف زوالا قادمة من باماكو؛ وكانت نواكشوط ما تزال تغلي وتترنح تحت وطأة قوى الجيش والأمن وبعض الجماعات المارقة المنفلتة.
كانت المهمة الأولى التي تنتظر
القادم الذي رفض الفرار عن وطنه، وقرر تحمل مسؤولياته ومجابهة أزمة بلاده مهما كان الثمن هي إخماد نار الفتنة، والسيطرة على الوضع المتفجر المضطرب.
ويمكننا الجزم بعد الرجوع إلى أحداث وذكريات ذلك الزمن، بأن أصدق وأشمل ما كتب عن تلك الأيام الحالكة هو ما رواه لنا الرئيس نفسه في كتابه "موريتانيا على درب التحديات" حين ذكر لنا بالتفصيل كيف تصرف بعد رجوعه وهو يواجه تلك الأزمة المصيرية الفارقة، فاستطاع بوطنيته وشجاعته وهدوئه وصرامته ورجاحة عقله أن يخمد نار الفتنة المستعرة ويصون استقلال البلاد ووحدتها الوطنية. يقول المختار رحمه الله في كتابه المذكور: "وفور انتهاء المراسيم المعتادة التي شملت تحية العلم، والاستماع إلى النشيد الوطني، واستعراض فرقة من الجيش، ومصافحة بعض الشخصيات؛ بادرني السفير الفرنسي جان فرانسوا دنيو بالقول - على انفراد- إن حكومته مستعدة لمدنا بعناصر من الجيش انطلاقا من قاعدة دكار لإعادة النظام بمجرد أن نطلب ذلك. وقد شكرته قائلا إنني سأشعره عند الضرورة، وعليه أن يلزم مكانه في انتظار ذلك.
وكان علينا ونحن نواجه أخطر أزمة داخلية تهدد أساس وجود دولتنا – الأمة الفتية الهشة، أن نجتاز بأي ثمن ذلك الامتحان العسير اعتمادا على وسائلنا الخاصة مهما كان تواضعها. فتلكم هي وسيلتنا الوحيدة لإقناع أنفسنا أولا، ولإقناع الآخرين بقدراتنا على مواجهة وحلّ مشكلات الأمن الداخلي على الأقل. فأمننا الخارجي سبق أن تكفلت به فرنسا التي تحمينا من التهديدات المغربية. وإذا كنا مجبرين كذلك على اللجوء إليها لضمان أمننا الداخلي، فمعنى ذلك أننا لا نملك أي وسيلة للبقاء بوصفنا دولة مستقلة ذات سيادة. صحيح أن فرنسا قد تدخلت لاستتباب الأمن في الكاميرون، والسنغال، والغابون، وأن بريطانيا قد قامت بالشيء نفسه في تنزانيا وكينيا وغيرهما. أما بالنسبة لنا فإننا لا نرغب في اللجوء إلى فرنسا في مضمار أمننا الداخلي. وسنحاول التصرف على هذا الأساس.
وعندما وصلت إلى مكتبي في حدود الساعة الواحدة ظهرا، بادرت بتأكيد الإجراءات التي اتخذها نائبي أحمد ولد محمد صالح؛ والمتمثلة في تطويق المدينة بعناصر من الجيش وقوات الأمن، وتسيير دوريات دائمة لحفظ النظام، واجتمعت بعد الظهيرة بأعضاء المكتب السياسي والحكومة ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس الكتلة البرلمانية وقررنا ما يلي:
- الشروع في عدد من الإجراءات الخاصة لضمان حفظ الأمن.
- إغلاق جميع المؤسسات الثانوية في نواكشوط، وإرسال التلاميذ إلى ذويهم.
- الإسراع بإيفاد بعثات للشرح في سائر التجمعات المهمة في البلاد تضم كل واحدة منها مسؤولين ساميين أحدهما بيضاني والآخر سوداني.
- إرسال مدد من القوات بالطائرة إلى العيون وكيهيدي.
- حراسة السفارات الأجنبية في نواكشوط.
- الإشراف على برامج إذاعة موريتانيا.
- حظر التجوال في نواكشوط من الساعة السادسة والنصف مساء حتى السابعة صباحا.
وقد وقعت في صبيحة يوم 10 من فبراير 1966 ثلاثة مراسيم متعلقة بالأمن. أولها يعين النقيب المصطفى ولد محمد السالك قائد أركان القوات المسلحة وكالة، مسؤولا عن حفظ الأمن في نواكشوط حتى إشعار جديد. ويساعده في تلك المهمة الملازمان الأولان تيام واسويدات.
أما المرسوم الثاني فيحدد الإجراءات الكفيلة بحفظ النظام في نواكشوط؛ في حين يتعلق الثالث بإجراءات حفظ الأمن في كيهيدي.
وقد سيطرت قوات الأمن تماما على الوضع في العاصمة، رغم استمرار بعض الأعمال الثأرية الفردية، وعرفت بقية مناطق البلاد هدوءا تاما. وفي يوم 11 تم توقيف 40 شخصا من العنصرين، ممن يحرضون على الإخلال بالنظام، ومن بين هؤلاء مجموعة التسعة عشر الموقعة على بيان 6 يناير".
وهذه لائحة بأسماء جل المعتقلين وفي مقدمتها التسعة عشر المذكورون حسب ترتيبهم في منشور 6 يناير، ومن الغريب أن هذه اللائحة لم تشمل أي عنصر من الجماعات المباشرة التي استباحت نواكشوط يوم 9 فبراير المشهود:
1 با عبد العزيز، قاض.
2 با إبراهيما، مهندس.
3 با محمد عبد الله، معلم.
4 بال محمد الحبيب، مهندس مياه وغابات.
5 دافا بكاري، مهندس أشغال عامة.
6 ديوب عبدو بوكار، محاسب.
7 ديوب ممادو آمادو، أستاذ.
8 كان بونا، معلم.
9 كويتا فوديا، مهندس أشغال عامة وبناء.
10 سك دنبا، معلم.
11 صو عبد الله، مفتش خزينة.
12 سي عبدول إيدي، إحصائي.
13 سي ساتيغي عمر حمادي، معلم.
14 تراوري سليمان الملقب جدو، معلم.
15 باه علي، مفتش خزينة.
16 بال محمد الحبيب، إداري.
17 با مامادو نلا، معلم.
18 تراورى جبريل، معلم.
19 كوليبالي بكاري، معلم.
20 محمد ولد دداه (رحمه الله) نقيب نقابة المعلمين العرب.
21 الشاعر أحمد ولد عبد القادر، معلم.
22 الأشياخ ولد ودادي (رحمه الله) معلم.
23 أحمد محمود ولد خيري، معلم.
24 اباه ولد الرباني (رحمه الله) معلم.
25 يحي ولد عمر (رحمه الله) طالب بالثانوية.
26 محمدٌ ولد إشدو، موظف.
27 سيدي محمد ولد سميدع (رحمه الله) طالب بالثانوية.
28 محمد المختار ولد الزامل، طالب بالثانوية.
29 حبيب الله بن عبدو، طالب بالثانوية.
30 عثمان ولد سيدي ميله (رحمه الله) موظف.
31 محمد عبد الله ولد الخرشي، موظف.
32 بنب ولد سيدي بادي، مقاول.
33 محمد عبد الرحمن ولد يحظيه، موظف.
34 الشيخ ولد خطاري، موظف.
35 محمد الأمين الشيخ، مدير مدارس ابن عامر.
36 خطري ولد محمد فاضل، موظف.
.. وآخرون.
وقد جاءت بعض ردود الفعل العاجلة التي تصب في مجرى السلم الأهلي والوحدة الوطنية، وكان أبرزها بيان أصدره 19 من طلابنا في باريس يوم 12 فبراير أعربوا فيه عن "تعلقهم بمؤسسات الجمهورية التي لا انفصام لها، ومعارضتهم لكل أشكال الفدرالية، ولأي تمييز بين العنصرين". وبيان اتحاد العمال الموريتانيين الصادر في 13 فبراير؛ والذي جاء فيه "أنه يؤكد دعمه الثابت للرئيس المختار ولد داداه رمز الوحدة، ويؤكد له وللحكومة دعمه المطلق في إيجاد حل وطني يضمن التعايش في انسجام بين العنصرين".
ويبدو أن موقف اتحاد العمال الذي كان يمثل "صفوة المجتمع" يومئذ قد شكل - في نظر البعض- منعطفا في مسار الأزمة.
وفي 15 فبراير خطب الرئيس فأوضح في مهرجان حاشد في لكصر بالعاصمة أن "الحقد العنصري هو شعور لم تعرفه بلادنا قط فيما مضى، وأن جيشنا الفتي وشرطتنا الناشئة قد برهنا على إخلاص لا يتزعزع، وصرامة فائقة، وانضباط متميز، وأن موريتانيا واحدة لا تتجزأ" (صفحات 340، 341، 342)
ولم تكن لتكتمل تلك الإجراءات الحاسمة وتؤتي أكلها فتضع حدا نهائيا للفتنة العرقية لولم تتوج في يوم 21 فبراير بتعديل وزاري عميق أعفى الرئيس بموجبه خمسة من وزرائه في مقدمتهم قائدا الجناحين المتصارعين في قمة هرم السلطة؛ واللذين وإن كانت أبعاد صراعهما السياسية والاجتماعية تتجاوز كثيرا مسائل ترسيم اللغة العربية والهوية والضمانات للأقلية، فإنهما في محاولة كل منهما التغلب على الآخر، قد استمرآ - حسب قول الرئيس- أو استمرأ "أشياعهما" استخدام تلك الأوراق لحد ملامسة التخندق العرقي كما يفعل بعض سياسيي اليوم. وكان لذلك دوره البالغ في إشعال تلك الفتنة العنصرية البغيضة الهدامة. وقد شفع الرئيس التعديل الوزاري بإنفاذه، بقرار من المكتب السياسي، لاستقالة رئيس الجمعية الوطنية ممادو صنبا بولي با المقدمة سلفا حسب مقتضيات ترتيبات ذلك الزمن.
وكان الرئيس قد دعا - على غير عادته- وزراءه الخمسة قبل إقالته لهم، وشرح لهم أسباب الإقالة. وجاء في أسباب إقالته لأركان نظامه الثلاثة الذين أسف على فراقهم أيما أسف؛ وهم محمد ولد الشيخ وزير الخارجية والدفاع، وأحمد ولد محمد صالح وزير الداخلية والإعلام، وممادو صنبا بولي با رئيس الجمعية الوطنية، ما يلي؛ مما يعطي فكرة رائعة عن ذلك العهد ورجاله العظماء: "لقد كان محمد ولد الشيخ وأحمد ولد محمد صالح صديقين حسب ما يصرح لي به كل منهما، ولكنهما كانا طرفي نقيض من حيث السجايا ووجهات النظر والإيديولوجية. غير أن عاملا مشتركا أساسيا يربطهما جعلني أقدرهما حق قدرهما وهو وطنيتهما، تلك الوطنية التي هي مصدر إرادتهما المشتركة الصادقة في بناء الوطن الموريتاني كما أتصوره. ورغم اتفاقهما التام على هذا الهدف، فقد كانا مختلفين تماما فيما يتعلق بالسبل والوسائل الكفيلة ببلوغه. فقد كانا يمثلان تيارين متباينين؛ أحدهما تيار الجيل الصاعد الذي تتبناه قلة قليلة، وثانيهما تيار الأغلبية الساحقة من الموريتانيين الذي يمكن أن نصفه بالتقليدي أو المحافظ.
وإذا كان محمد ولد الشيخ تقدميا جدا، إن لم نقل: ثوريا يحمل أفكارا سابقة على زمانه يصعب فهمها في سياقنا آنذاك، وتستعصي على بنياتنا الذهنية المنتمية للقرون الوسطى، فإن أحمد ولد محمد صالح على خلاف ذلك. فقد كان محافظا، ولكنه لم يكن رجعيا كما كان يوصف على الدوام. إنه حذر، يؤمن بحتمية وضرورة تطور مجتمعنا، ولكنه يفضل أن يتم ذلك التطور وتلك التحولات المترتبة عنه بطريقة بطيئة وأكيدة. ولم يكن "عدو السود الذي يريد أن تكون موريتانيا خالصة للبيضان فقط..." كما كان يصفه منافسوه السياسيون؛ إذ لو كان كذلك لما اتخذته يوما وزيرا ثم أمينا دائما للحزب. وبكلمة واحدة لم أكن لأجعله أحد أقرب أعواني على مدى سبع عشرة سنة.
أما بالنسبة لي فقد كنت أفهم كلا الرجلين وأجد نفسي من خلال كل منهما: فقد كانا يجسدان اهتماماتي فيما يتعلق بالمسار التطوري الذي ينبغي أن يؤول إلى بناء موريتانيا كما أحلم بها في قرارة نفسي.
ولكم كان تصادم فكريهما المتنافرين أمرا ثمينا بالنسبة لي، فهما جناحا طائر يحملان تياري الرأي السابقين ويمثلان الشعب الموريتاني بأسره. فقد كنت أكون رأيا موضوعيا ما أمكن عن مسألة بعينها وأتخذ في شأنها قرارا متبصرا اعتمادا على نقاشاتي مع أحد هذين الرجلين أو كليهما وأستوفي معلوماتي بأخذ آراء معاونين آخرين معنيين. وبكلمة واحدة فقد جسدا المثال الذي كنت أسوقه أحيانا لتهدئة تلهف الشباب وأحرك به ما أمكن جمود القدماء. إنه مثال حركة السيارة التي أشبه بها تطور بلادنا. فإذا زاد السائق السرعة كثيرا يخشى من وقوع حادث خطير إن لم يكن قاتلا، وإذا ضغط على المكبح كثيرا يوشك أن لا تتحرك السيارة من مكانها؛ وهو أمر غير ممكن! إذ أن الحياة حركة، ومن لا يتحرك يضمر ثم يندثر. ولذا كان خير الأمور أوساطها، وإن كانت الوسطية لا ترضي أحدا في بلادنا؛ فالشباب يعتبرون أننا نراوح في مكاننا رغم أننا نسير بسرعة متوسطة، والقدماء يرون أننا نسير بسرعة جنونية قاتلة.
... ورغم ما كان بينهما من تباين موضوعي وخلافات حقيقية فقد كان لهما أشياعهما الذين شكلوا من حولهما حاشيتين متنافستين أججتا الخلاف بينهما دون أن يرغبا في ذلك صراحة. ورغم الجهود العفوية لكل منهما وتوجيهاتي الصريحة، فإنهما لم يستطيعا التحرر من قبضة أشياعهما إن لم نقل المتزلفين لهما الذين كان بعضهم يتصرف بطريقة ماكرة خفية للغاية. وفي هذا السياق لم يتمكنا من إقناع الرأي العام ببراءتهما مما حيك حول شخصيهما من شائعات خطيرة. فلم يعد الناس ينظرون إليهما باعتبارهما مسؤولين وطنيين عضوين في أسمى هيئات الدولة (المكتب السياسي والحكومة) ولا إلى أنشطتهما في الدولة كمسؤولين حكوميين عاديين؛ وإنما ينظر إليهما كفرسي رهان يريد كل منهما القضاء على الآخر. ومما يزيد من خطورة هذا التنافس أن البلاد كانت على شفا الكارثة، وأن كلا المتنافسين يتقلد مسؤوليات سامية بالغة الأهمية؛ فقد كان محمد ولد الشيخ وزير الشؤون الخارجية والدفاع، وأحمد ولد محمد صالح وزير الداخلية والإعلام.
ولم يعد أحمد ولد محمد صالح يمثل في أذهان البعض سوى وزير البيضان؛ في حين يمثل محمد ولد الشيخ في نظر البعض الآخر وزير السود. وبذلك لم تعد الدولة مرجعا لهؤلاء، وغابت عن أذهان المواطنين. وفي وضع كهذا لا يسعني إلا أن أستغني عن خدمات الرجلين. وقد أقدمت على ذلك القرار دون أن ينشرح له صدري. فلم أتخلص قط من أحد معاونيّ دون أن يضيق صدري بذلك. ومع ذلك فقد تخلصت من معاونَيّ؛ إذ كان علينا أن نحمي أمتنا الناشئة الهشة من خط الانقسامات.
وعلى الرغم مما قلت بشأن محمد ولد الشيخ وأحمد ولد محمد صالح، وما سأقوله عن ممادو صنبا بولي، فإن هؤلاء المعاونين القدماء الثلاثة كانوا أبرز شخصيات المسؤولين السامين من الرعيل الأول؛ ذلك الرعيل الذي أسس موريتانيا المستقلة التي شكك الرئيس سينغور في بقائها.
... وللأسف الشديد فإن ممادو صنبا بولي با، لم يتصرف تصرف الْحَكَمِ والمسؤول الوطني الذي يتسامى - أو يحاول التسامي على الأقل- عن مسلكيات عامة الناس بمناسبة أحداث فبراير 1966 المؤلمة؛ بل إنه - على العكس من ذلك- اتخذ موقف المناصر المتحزب قلبا وقالبا لمكونة عرقية واحدة. ورغم ما يمكن أن يلتمس له من ظروف تخفيفية فإن تصرفه قد خيب أملي وآلمني كثيرا. ولذا لم أكن مضطرا للتخلص منه فقط؛ وإنما لمعاقبته سياسيا وإداريا كذلك. وفي هذا المضمار لا أعرف ما إذا كنت قد أشرت إلى مدى المعاناة النفسية التي أتحملها عند فراق أحد أعواني أيا كان؛ فبالأحرى إذا كان صديقا".
وبهذا التحليل الرائع، والشهادة القيمة المشرفة، ننهي هذه المرحلة من اليوم الأول في تاريخ الوطن (28 نوفمبر). وننفذ إلى مرحلة أخرى هي "الثورة الثقافية ووأد الفتنة العنصرية".