لقد ترددت عندما خطر ببالي أن أكتب في هذا الموضوع، وأنا الأجنبي على السياسة ومطباتها، لكن مما حفزني على ذلك أن البوصلة الآن موجهة نحو الحوض الشرقي، وأن السرب يغرد في نفس الاتجاه، وأن الوتر الذي يطرب الوجهاء هو ذلك المعزوف للزيارة ومشتقاتها، لهذا وذاك وكي
لا يتأحر البيان عن وقت الحاجة، قررت أن أسجل هذه الأسطر، التي لا يعدو مضمونها أن يكون تجديدا لما هو مألوف كلما تجددت حال.
إن مما هو معلوم من المشهد السياسي الوطني بالضرورة، ولاء أهل الأعماق المطلق، الذي غدا مسلمة من مسلمات السياسة الوطنية _وما أقلها_ مسلمة يعلمها المعارض فيستعيذ من الشيطان الرجيم كلما رواده الطمع أن يكون أهل الأعماق له نصيرا ذات يوم!، ويستيقن بها الحاكم فلا يبذل لها أكثر من كونه حاكما، أو دريهمات _هبة من لايملك لمن لايستحق_ يخمد بها جذوة جشع وجهاء حصنه الحصين وملجإه في الملمات، والذي أثبتت التجربة أن أهله لو يمم بهم اليم فخاضه لخاضوه ما تخلف منهم أحد!
وهذه مسلمة ثبتت وتجذرت... منذ الإنقلاب العسكري الأول الذي أعاد البلاد إلى السبية، وترك العباد في غياهيب دجى حالك، وهي مسلمة لا يبدو أن عامل التقدم الزمني إلا يزيد من ألقها ويعلي من مؤشرها.
لكنها ليست هي المسلمة الوحيدة في هذا المضمار، بل تقابلها أخرى أكثر قطعية وتأصلا وتجذرا...وارتباطا بالحوض ومفهومه، وهي التخلف والحرمان والتهميش والظلم والغبن والتجهيل...!! إلى غير ذلك من كل مفردة تدل على سوء الحال وغياب المهتم، أليس هذا أمر يدعو كثيرا إلى العجب! والتساؤل؟؟
إن عجبتم من ذلك فاعجبوا أكثر من أنه ومع هذا التناغم التام مع الحاكم أيا كان، فإن أهم الإنجازات التي عرفتها المناطق الشرقية عموما كانت في فترة الدولة المدنية، أي ما قبل الإنقلاب العسكري الأول، وطريق الأمل خير شاهد.
أما في منطقة الحوض فكان الإنجاز الثاني في الأهمية في ذلك العهد أيضا، وستعرفون معنى ذلك أكثر حينما أذكر لكم أن هذا الإنجاز كان هو المشروع الوحيد الذي راعى خصوصية الولاية، ومتطلباتها التنموية، وقد تم تنفيذه في منطقة الظهر التي لا يزال أهلها وإلى اليوم يعتمدون حياة الرعي والانتجاع بشكل كامل، وهم قوم لا يعرفون لخدمات الدولة في الوقت الحالي معنى ولا مبنى!! وقد بادرت الدولة في بداية التأسيس، فحفرت فيها ما يزيد على ثلاثين بئرا في خطوة فريدة من نوعها لم ير قبلها ولا بعدها مثلها، ترمي من خلالها الدولة إلى تأهيل تلك الفيافي والمهامه التي كانت الحياة فيها ضرب من المستحيل، بسبب ندرة مياهها وسعة مساحتها.
ويظهر من خلال تسمية أهل المنطقة لهذا الإنجاز أن رجال تلك الحقبة، رجال عمل لا رجال دعاية، فلم يربط هذا الإنجاز المهم باسم الأب المؤسس، بل إنه محليا يعرف بآبار الشركة وهذا خلاف ما سيكون سنة متبعة للذين جاءوا من بعده، حيث يضخم ويربط الإنجاز أي إنجاز _على علاته_ باسم الرئيس، ويعد منة لا يستحقها الشعب، بعد هذا كله أما ترون أن هذا التأييد المطلق الذي لا يقابله إلا التهميش والحرمان المطلق أمر لا يقبله عقل، أما ترون أنه يتجافى كثيرا مع مبادئ المعاملة بالمثل وبدهيات قواعد الإحسان (من أسدى إليكم معروفا فكافؤوه)؟؟
لقد حاولت أن أجد تفسيرا لهذا الإقصاء الممنهج، والتهميش المطلق لأهل المنطقة، التي:
أضربها فقد الولي فأصبحت** بكف لئيم الوالدين يقودها
فقلت بادي الرأي إنه شؤم الإنقلاب العسكري الذي فتح به أبناء المنطقة الشرقية باب الإنقلابات، لا تزال لعناته تلاحقها، لكن هذه القراءة كانت قد تكون سليمة، لو أن الإنقلاب فشل وأراد الزعيم المنتصر التوسع في العقاب، فعاقب الوسط الذي ينحدر منه الإنقلابيون، كما يحدث عادة وحدث فعلا على الصعيد الوطني مع أهل بوتليميت، وأهل لعيون، ومجموعة "أهل النعمة" التي عاقب العسكري هيدالة أطرها وسجنهم وضايقهم في عقر ديارهم بسسبب قرابتهم مع المرحوم عبد القادر، لكن الأمر هنا مختلف.
وما دمنا قد سلمنا بعدم واقعية هذه الفرضية، وعدم إمكانية الركون إليها، فلا بد من تقرير علة أخرى يستند إليها في تفسير واقع المنطقة المرير.!
قد تكون الطبيعة البدوية، والفطرة الزاهدة، لأهل المنطقة بعدا من أبعاد هذه القضية، وسببا من أسبابها، لكنها بالتأكيد ليست هي البعد الحقيقي ولا الوحيد لهذا الواقع، فحتى تركهم من دون توعيتهم بحقوقهم، وتثقيفهم بواجباتهم من قبل النخبة المغيبة، كفيل بأن يحط عنهم المسؤولية، ويضعها على عاتق من يزعمون أنهم يتولون تدبير أمرهم، لأنه سلوك سلبي يترتب عليه من الناحية القانونية، ما يترتب على السلوك الإيجابي، والترك فعل في صحيح المذهب...
لكن ليته كان الترك فقط، بل إن من يدعون أنهم وجهاء محليون لا يبذلون جهدا إلا في سبيل ترك أهل المنطقة في غفلتهم، ويعيشون في معاناتهم، التي هي مصدر رزقهم الذي يفتقد كثيرا من عناصر الشرف.
وهذا واقع كان لأهل الحوض وكانوا له منذ حاد قطار لوطن عن سكته، وسلك مفاويز الضياع!!، والذي جعل البعض يتطلع لواقع مغاير له، هو ما ظنوه بالجنرال المصحح!!، بسبب ما رفعه من شعارات!، وما أطلقه من وعود كان لأهل الحوض نصيب الأسد منها.
لكن يبدو أن تلك الوعود والشعارات كانت في غالبها الأعم، مجرد لمعان آل...!! اللهم إلا إذ كانت محاربة الفساد في الإصطلاحي العزيزي، لا تعني تنحية أباطرة الفساد، الذين يحفون به اليوم في عاصمة الأعماق، لم يتخلف منهم إلا من واراه الثرى أو حبسه حابس الفيل، والذينهم السبب المؤسس والمؤكد لما فيه أهل الحوض من ظلم، و كانت الإنجازات في قاموسه لا تعني أكثر من حمل التمر إلى خبير! ( التدشين، وإعادة التدشين) في دوامة لا يعلم إلا الله نهايتها، وذلك كلما طاب لفخامته القيام بزيارة كرنفالية، ولكم في مشروع بحيرة الظهر، ومصنع الألبان، وطريق النعمة باسكن... صادق البراهين.
وبما أنه بان أن السبب الرئيسي للوضعية المزرية لأهل هذا الحيز الجغرافي من وطننا الحبيب، هو زعاماته المحلية، التي صنعت على أعين الحكام المتعاقبين! بما يجعلهم شركاء في المسؤولية أجميعين، فإنه آن الآوان لأهله (أهل الأعماق) أن بيلغوا الحلم، وأن يعربوا نطقا، لفخامة رئيس الفقراء!؟ أن كفاك لعبا واستهزاء بنا...، وأنه حان إبان فك الحجر عنا، وتنحية أوصيائك الذين قدمت وقدم أسلافك علينا.