كنت في الصف الثالث ابتدائي وفي قرية وادعة عريقة من قرى الحوض الشرقي حين أخبرونا أن الرئيس (المقدم) سيزورنا ، بدأنا نحضر النشيد الذي أتذكر مطلعه :
يا مرحبا يا مرحبا يا مرحبا *** لها نقول فرحا وطربا ...... كان ذلك منذ 33 عاما.
امتلأت القرية بسيارات (اللاندروفر) الرمادية المكشوفة وعلى متنها عسكريون أشداء وأجهزة لاسلكي ، كان ضمن الوفد الرئاسي النقيب ابريكه ولد أمبارك ومن الإخوة الزنوج جوب جبريل ، حفظت الأسماء عن ظهر قلب ..كنا نكرر عاش المقدم ..عاش النقيب . كانت دكتاتورية ناعمة ، لكنه كان زمن الإيمان بالدولة ،لم يكن السؤال ما ذا سنطلب من الرئيس ؟ بل كان السؤال ماذا جاء الرئيس يطلب منا ؟ وما ذا نستطيع أن نقدم لدولتنا؟
بعد تلك الزيارة بعام واحد أطيح بالرئيس المقدم وسألت المعلم من هو العقيد ؟ فأجابني بأنه رجل ذكي مارس التعليم قبل أن يلبس البدلة العسكرية.
وبعد أعوام انتقلت إلى عاصمة الولاية النعمة : طقسها صادق كأهلها لا يتقلب كثيرا : حر شديد في الصيف وبرد قارس في الشتاء ، مياه عذبة ، ورحلات طيران منتظمة ، كهرباء بالحي الإداري ومستشفى جهوي يقدم الرعاية الصحية المجانية بطواقم طبية من الصين الشعبية ومن أبناء الوطن .
في سنة 1992 زارنا الرئيس العقيد وهذه المرة طالبا للأصوات الانتخابية وزارنا الرئيس أحمد ولد داداه وكان زمن حكاية (القبيلات) و(الربع الخالي) و(نحتاجو عبقر كيفك ياحمد ) والتحول الديمقراطي الدرامي.
عقدين من الزمن والولاية تدور في حلقة مفرغة من زيارات شراء الذمم والولاءات والتمكين للسماسرة في إطار ديمقراطية عرجاء لم تنتج إلا مؤسسات معاقة جينيا .وتم الانتقال من حملات محو الأمية إلى حملات التجهيل والتكلس الثقافي ،لم يعد في المطار الدولي بالولاية مظاهر حياة وأصبح يستقبل فقط رحلة الرئيس الذي لا يأتي إلا ليغير جغرافيا الولاءات ، ليتحول السؤال فعلا إلى ماذا سنطلب من الرئيس؟
وللأمانة فقد حاول الرئيس الحالي التملص من عباءة الموروث وكرر مرارا (لقد عانت هذه الولاية من التهميش لعقود كثيرة) ،لكنه لم يستطع أن يتحرر من سوسيولوجيا الولاءات وينجز لمواطنيه البسطاء ما يصبون إليه دون وسيط أو وجيه .
بسطاء يهتفون بقصيدة أحمد مطر :
زارنا الرئيس المؤتمن
قالَ لنا :
هاتوا شكاواكـم بصِـدقٍ في العَلَـنْ
ولا تَخافـوا أَحَـداً..
فقَـدْ مضى ذاكَ الزّمَـنْ .
فقالَ صاحِـبي حَسَـنْ :
يا سيّـدي
أينَ الرّغيفُ والَلّبَـنْ ؟
وأينَ تأمينُ السّكَـنْ ؟
وأيـنَ توفيرُ المِهَـنْ ؟
وأينَ مَـنْ
يُوفّـرُ الدّواءَ للفقيرِ دونمـا ثَمَـنْ ؟
يا سـيّدي
لـمْ نَـرَ مِن ذلكَ شيئاً أبداً .
قالَ الرئيسُ في حَـزَنْ :
أحْـرَقَ ربّـي جَسَـدي
أَكُـلُّ هذا حاصِـلٌ في بَلَـدي ؟!
شُكراً على صِـدْقِكَ في تنبيهِنا يا وَلَـدي
سـوفَ ترى الخيرَ غَـداً .
**
وَبَعـْـدَ عـامٍ زارَنـا
ومَـرّةً ثانيَـةً قالَ لنا :
هاتـوا شكاواكُـمْ بِصـدْقٍ في العَلَـنْ
ولا تَخافـوا أحَـداً
فقـد مَضى ذاكَ الزّمَـنْ .
لم يَشتكِ النّاسُ !
فقُمتُ مُعْلِنـاً :
أينَ الرّغيفُ واللّبَـنْ ؟
وأينَ تأمينُ السّكَـنْ ؟
وأينَ توفيـرُ المِهَـنْ ؟
وأينَ مَـنْ
يوفِّـر الدّواءَ للفقيرِ دونمَا ثمَنْ ؟
مَعْـذِرَةً يا سيّـدي ....فات الزمن ..............ضاع الوطن.