أضحت مواقع التواصل الاجتماعي اليوم بمثابة الرماد الذي يتوقد تحته اللهيب؛ فهناك تدار معارك الرأي، وتتسع باحات نشر المظالم، ويجري توجيه الرأي العام، عن قصد تارة، وعن غير قصد تارة أخرى.
ومن بين ما استوقفني في ذلك حساسية السجال المستعر
حول المقاومة الوطنية بين طرفين؛ أحدهما يجتر مرارة التنكر السائد - شعبا وحكومات متعاقبة – لتضحيات المقاومة الوطنية، والآخر يستشعر في رد الاعتبار للمقاومة الوطنية حكما بالإدانة على أسلافه بوصفهم "مقاومة المقاومة".
ويلوّح الطرفان بإخراج ما لديهما من وثائق تدين الطرف الآخر؛ فأنصار "المهادنة" يدّعون امتلاك قرائن ووثائق تدل على أن تحرير الوطن لم يكن السبب الحقيقي وراء حمل السلاح ضد المستعمر. أما أنصار "المقاومة" فيدعون امتلاك مراسلات يَظهر من خلالها بعض أعيان الطرف الآخر مجرد "عين مخبرة" للفرنسيين على بني جلدتهم من المسلمين، بشكل لا يرتضيه الشرف والمروءة، حتى لو ارتضاه الشرع.
إنه في الواقع، سجال لا جديد فيه؛ فهو سجال لا يفتأ يجتر نفس المستندات التي تأسس عليها حجاج الطرفين الفاعلين في الساحة الوطنية أيام الاستعمار (محتضنوه، ورافضوه).
ولعل من لوازم الموضوعية هنا ألاّ أسعى إلى تقمص موقف الحياد في سجال أنا في الحقيقة طرف فيه بحكم كوني من أحفاد المقاومة الوطنية. لكني طرف يحفظ للآخر كرامته، ويتنكب الخوض في غير ما تعلق من أخطائه بتلفيق التهم للمقاومة، والوقوف أمام واجب رد الاعتبار لها في سياق سياسي لا تزال الإدارة الوطنية فيه امتدادا وفياً للإدارة الاستعمارية في غمط مكانة المقاومة في هذا البلد.
وإذا كان من المعروف أن المجتمع الموريتاني قد انقسم في تعامله مع المستعمر إلى ثلاث طوائف(محتضِنة، ومهادِنة، ومقاوِمة) فإني سأتبنى هنا ثنائية مصطلح: "مقاومة" و "مهادنة" تجنبا لذكر الطائفة الأولى، وحفاظا على شعور القارئ الكريم ممن لا يقاسمني العواطف والمواقف في الموضوع.
إن المتتبع لهذا السجال في صيغته الحديثة يلاحظ التركيز فيه على ثلاثة أفكار:
الأولى: "السَّيْبَه": وهي أن البلاد كانت قبل الاستعمارغارقة في الفوضى الناتجة عن غياب السلطة المركزية، وما يستتبع ذلك من ظلم ونهب لا حدود لهما.
الثانية: أن المقاومة الوطنية متهمة بأنها لم تكن تسعى إلى استقلال الدولة الموريتانية، بقدر ما تسعى للانضمام إلى المغرب.
الثالثة: أن التاريخ أثبت سلامة موقف "المهادنة"؛ حيث تمكن ذووه في النهاية من بناء دولة مستقلة عصرية.
ولن أسترسل في بسط ردود الطرف الآخر الذي يعتبر أن فكرة "السيبه" قد تم تضخيم صورتها عمدا لتبرير احتضان الاستعمار، قصد الاستعانة به في ترجيح كفة بعض الطوائف الاجتماعية على غيرها؛ فذلك كله أصبح من الماضي الذي يستحيل إحقاق الحق فيه، فضلا عن أن الحق فيه لم تعد معرفته تجدي نفعا في مستقبل البلاد. وسأكتفي مع الطرف "المهادن" بثلاث وقفات مختصرة حول بعض السهام التي اعتاد تسديدها تلقاء مقاومتنا الوطنية.
الوقفة الأولى: حول محاولة إلصاق التهم بالمقاومة الوطنية: فمن المعروف أن البلاد كانت إبان فترة الاستعمار محكومة من قبل أبنائها بثنائية "المقاومة" و"المهادنة". ولعل من نافلة القول التنبيه إلى أن جناح المقاومة الوطنية لم يكن هو الذي تسلم السلطة المدنية في البلاد عند استقلالها. بل إنه ليس من الشطط في شيء النظر إلى أن المستعمر كان واعيا جدا لما يفعله عندما قرر تسليم مقاليد البلاد لأقل الأطراف بعدا منه وعداوة له. ولا داعي هنا لاستعراض ما استتبع ذلك الإجراء من اتهامات وملاحقات معروفة طالت جناح المقاومة الوطنية تحت يافطة استعانته بالمغرب الشقيق في كفاحه ضد المستعمر الفرنسي. وحسبنا أن نذكر – عطفا على تلك الاتهامات – بمقولة "التاريخ يكتبه المنتصر"؛ فيثبت فيه ما شاء وينفي عنه ما شاء. وأي مثال أقرب وأكثر تجسيدا لتلك الحقيقة من واقع الحكومات المتعاقبة في بلدنا منذ الاستقلال إلى اليوم؟ فـــ "كلما جاءت أمة لعنت أختها". بل إن كل الساعين إلى السلطة في بلدنا؛ إما أن يصلوا إليها أولا يصلوا. فإذا وصلوا كانوا "أبطالا وطنيين لم يات الزمان بمثلهم"؛ تنطلق الألسن والأقلام بامتداحهم، وتمتلئ الصحف والمجلات والكتب بمزاياهم وبــ "مساوئ" خصومهم. أما إذا لم يصلوا إلى السلطة كان ذلك كفيلا بتدنيس سيَرهم والغض من مكانتهم عن طريق تلفيق مختلف التهم لهم؛ وليس الأمس منا ببعيد.
الوقفة الثانية: سعْي المقاومة الوطنية إلى الوحدة مع المغرب: لعل الشماعة التي دأب خصوم المقاومة الوطنية على التعلق بها كلما أرادوا الانتقاص من وطنية المقاومة، هي ادعاء سعي "بعض" هذه المقاومة إلى الوحدة مع المغرب. وبغض النظر عن إدراج هذه التهمة ضمن "الوقفة" السابقة المتعلقة بتلفيق التهم للخصم، فإنني أتساءل:
- هل خان زعماء الولايات الخمسين شعوبهم عندما ارتضوا توحيدها ضمن دولة واحدة ملكوا بها العالم عسكريا واقتصاديا وسياسيا، هي الولايات المتحدة الأمريكية؟
- هل خان عبد الناصر والقوتلي بلديهما مصر وسوريا عندما قررا توحيدهما ضمن دولة عربية واحدة؟
- هل يمارس الزعماء الأوربيون الخيانة اليوم، وهم يبذلون المستحيل في سبيل توحيد دول تفرقها اللغات والثقافات والأحقاد التاريخية العميقة؟
- لماذا يسكت أنصار "المهادنة" عن خيانة زعماء المغرب العربي، وهم يسعون إلى التوحّد منذ أمد بعيد؟
إن الأمثلة أكثر من أن تحصى، والفكرة أوضح من أن توضح؛ فإذا ثبت أن بعض مقاومتنا الوطنية كان يتبنى فكرة الوحدة مع المغرب، فلعل في ذلك دلالة على أنه كان أبعد نظرا من سواه. أمَا وقد أضحت الوحدة في أيامنا هذه مطلبا يلهث خلفه الجميع في الشرق والغرب دون أن يستدعي ذلك نبزا بالتخوين؛ فلنتذكر مقولة: "العبقري الذي يسبق عصره بأفكاره: يحكم عليه مجتمعه بالجنون، ثم تأتي الأجيال اللاحقة لتكتشف عمق أفكاره؛ فتقيم له النصب".
ثم إن من يقتلع فكرة سعي بعض المقاومة الوطنية إلى الاتحاد مع المغرب من سياقها السياسي والتاريخي، لا يمكن وصفه بالأمانة الفكرية.
- فالسياق السياسي، هو: أن موريتانيا، إذ ذاك، بلد إسلامي يحتله "النصارى"، دون علم بإمكانية خروجهم منه قبل يوم الدين. ولا شك أنه – في ضوء إمكانية بقائهم فيه إلى الأبد – يكون من الأفضل الانضمام لدولة مجاورة نقاسمها اللغة والدين والعرق. وهنا اعتباران لا ينبغي إغفالهما: أولهما: أن فكرة منح الاستقلال لمستعمرات فرنسا، كانت فكرة طارئة أملتها المحن العسكرية التي تلقتها فرنسا على أيدي خصومها الألمان وغيرهم في تلك الفترة. أما الاعتبار الثاني: فهو أنه، لولا ضربات المقاومة الوطنية التي أقنعت فرنسا بعدم تقبل المجتمع الموريتاني لها، لكان من الوارد جدا أن تفكر في البقاء رسميا في هذه البلاد الواسعة المكتظة بالمعادن والخيرات المختلفة، والمطلة على المحيط الأطلسي، وتجعلها من "ولايات ما وراء البحار"، كما حاولت مع الجزائر وغيرها.
- أما السياق التاريخي، فهو: أن الفترة كانت فترة هبوب رياح القومية والعربية والوحدة الإسلامية. وكان المشرق العربي حينها مركز غليان تلك الأفكار، حيث تجسدت في الوحدة المصرية السورية. لكن المغرب العربي كان يعيش إرهاصات استقبال تلك الأفكار، التي قاوم نجاحها في المنطقة طرفان فاعلان هما: زعماء الدول الذين لا يريدون فقد كراسيهم، والاستعمار الأوروبي الذي لا يريد للشعوب العربية والإسلامية أن تهدم الحدود التي اصطنعها لهم. ولست هنا في مصب تأصيل فكرة الانضمام إلى المغرب، لكنني أردت تنبيه اللاهثين خلف تخوين المقاومة الوطنية بهذا الدليل وحده، إلى أنهم محتاجون إلى البحث عن دليل آخر غيره.
الوقفة الثالثة: لقد لاحظت أن من أكثر أدلة أنصار "الطرف المهادن" حضورا في الحجاج حول تسفيه موقف المقاومة وتصويب موقف "المهادنة": كون هذا الأخير قد نجح في تأسيس دولة عصرية حديثة. وهذا الاستدلال نصف صحيح ونصف فاسد؛ فهو صحيح من حيث إن "الجيل المؤسس" قد نجح بحكمة في تأسيس دولة عصرية؛ وهو جيل – في نظري الشخصي – لا تتوجهه التهمة، بل إنه يستحق كل إجلال. لكن الاستدلال فاسد من حيث اعتباره "دليل النقيض" بالنسبة لنجاح الطرف الآخر في إقامة دولة مماثلة؛ فكون الجيل المؤسس قد نجح في إقامة دولة عصرية لا يتضمن مطلقا أي دلالة على أن "الطرف المقاوم" لم يكن لينجح في بناء دولة عصرية لو تسلم السلطة في البلاد. بل، لماذا لا نفترض أنه لو تسلم مقاليد السلطة في البلاد لكان الحال فيها أفضل بكثير مما كان في عهد "الجيل المؤسس" الذي كان يمارس تنمية البلاد ضمن أغلال القيود التي زجه فيها المستعمر عند تسليمه السلطة إياه، والذي سلمه أرضا جرداء لم يترك له فيها مبنى معماريا معتبرا ولا طريقا معبدا. ولم يورّثه غير الارتباط بمواثيق نهب خيراته، و"دسيسة ضمان التخلف المستمر" المتمثلة في استبعاد لغته الأم "العربية" من الإدارة ومن صدارة المنهاج التربوي.
- لقد صارع "الجيل المؤسس في سبيل تنمية البلاد، لكنه صراع المكبل بالقيود. وهذا ما يسوّغ فرضية تسارع التنمية الوطنية أكثر في ظل تسلم المقاومة الوطنية للسلطة فيها، والتي لم تكن لتنصاع لقيود المستعمر وإملاآته، بدليل عدم انصياعها لسلطته أصلا، فضلا عما يُتوقع أن يجلبه لها موقفها التحرري من الدول والجهات العربية والإسلامية المستنشقة لنسمات التحرر في تلك الآونة؛ قد يُضعف هذا الطرح كونه مجرد افتراض، فليقوه أنه افتراض مقابل افتراض.
ومن المؤسف حقا – بعد مرور نحو ستة عقود على الاستقلال – أن تظل الأجيال المتعاقبة على السلطة وفيةً لنكران جميل المقاومة الوطنية التي روّت هذه البلاد بدمائها الطاهرة، وحررتها بأجسادها وأرواحها الزكية.
- أليس من المقزز أن نحتفي في تسمية شوارعنا بأسماء رجال خدموا بلادهم باحتلال بلادنا "الجنرال ديكول"، "كندي"، "ابومبدو"، بدلا من الرجال الذين حرروا أرضنا، وكأننا عطل من الأسماء العظام الصالحة لتزيين الشوارع؟
ليس ذلك في الحقيقة إلا مشهدا واحدا من مشاهد الاستلاب الثقافي والحضاري التي تؤكد أن أقدامنا – في العمق – لمّا تتزحزح قيد أنملة عن عقلية "اللامقاومة"؛ فما زال التعتيم على دور المقاومة ومكانتها سيد الموقف، وما زال طغيان لغة المستعمر على لغة الوطن قائما، ولا يزال جهل الفرنسية لعنة تطارد الطامحين إلى التعيين في إدارتنا الوطنية. وكل هذا يدل على أن دعاوي التعريب ليست في حقيقتها إلا جرعات تهديئية واعية لمقاومة الانفجار.
أعتقد أن الحكم على حفدة "المقاومة" و"المهادنة" بالتعايش في انسجام فكري حول تاريخ أسلاف هذا البلد إبان فترة الاستعمار يستدعي الاتفاق على ما يلي:
1. أن أفضلية المقاومة على غيرها محفوظ حفظا لا معقب له، بمقتضى قوله تعالى: "وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما"
2. أنه لا خير في شعب يتنكر لتضحيات مقاومته الوطنية. فلا بد، والحالة هذه، إن عاجلا أو آجلا، من رد الاعتبار للمقاومة الوطنية، وتكريمها، وإحلالها ما تستحق من مكانة؛
3. تجاوز السجال الفقهي حول مشروعية احتضان الاستعمار؛ فهو سجال له رجاله، وقد قاموا به في إبانه. ولم يعد فتحه الآن مجديا؛ لا في التأثير على الماضي، ولا في قول ما لم يُقل فيه؛
4. أن يُحفظ للشيوخ احترامهم ومقامهم، وألا يُتهموا في دينهم أو غيرتهم على الوطن؛
5. ألا يقع التشكيك في وطنية الجيل المؤسس للدولة الموريتانية الحديثة
6. ألا يجعل أحفاد "المهادنة" من أنفسهم سدا في طريق رد الاعتبار للمقاومة الوطنية، ظنا منهم أن ذلك يعني بالضرورة إدانة لأسلافهم.
أعتقد أننا إذا اتفقنا على هذه النقاط، نكون قد قطعنا نصف الطريق